عندما وجهنا نقدنا لمجمل الحراك السياسي السابق وقلنا أنه يقوم على فلسفات شمولية ، و أنه يجب قلب مفاهيم السياسة وطرق ممارستها من سياسة تعني الأمر والتنظير والقيادة والحكم والسجون والعنف والثورة يمارسها أشخاص سوبر من نوع خاص ، إلى سياسة تعني التفويض والتمثيل المشروط والمحدد الذي يتم بين أشخاص عاديين يعيشون حياة عادية .. وقلنا أن ربيع دمشق جسد قيما ومفاهيم وممارسات جديدة في السياسة والعمل السياسي يمكن وصفها بأنها ليبرالية ، قيل لنا أنتم مشروع شمولية جديدة ، تريدون استئصال الآخر وحرمانه من حقه في الوجود السياسي ، هكذا ببساطة تصبح الدعوة الليبرالية شمولية هي الأخرى بنظر الشموليين ؟؟ ! لكن الموضوع يبدو أكثر تعقيداً عندما يتم التطرق لمشاركة الأحزاب الدينية في العملية السياسية ؟ تلك المسألة التي فجرت حملة قمع جديدة ، لم تتوقف حتى الآن . ليس لأن السلطة التي تدعي أنها لا تريد حركات دينية أو فئوية ، تريد فعلاً ترك الحرية لحركات أخرى ، أبدا . فهذا ما حاولنا فضحه عبر شروعنا في تأسيس تجمع ليبرالي ديمقراطي وعلماني فقمعته أيضاً . لأن السلطة لا تريد حياة سياسية من أي نوع على الإطلاق ، وتريد فقط الإبقاء على جدران الصمت وأشباح الخوف مسلطة على رقاب المجتمع تسهيلاً لاستباحة حقوقه ونهب خيراته .

هناك فارق بين أن ننتقد الآخر وهذا هو جزء من الممارسة السياسية ، فنوضح لماذا نحن نختلف عنه ولماذا نحن نعارضه ، وبين أن نقمع حرية التعبير ، فالليبرالية تبدأ من الحرية ومن الفرد الحر السيد على مصيره والذي لا يفوض سيادته لأي كان ، وهي بذلك تحفظ حق الاختلاف منذ البداية فكيف تكون شمولية ؟؟ ،أما الديمقراطية فهي الشكل الوحيد الذي يسمح ويعترف ويحافظ على الاختلاف ضمن النظام السياسي المشترك الذي يقوم على مبدأ تداول السلطة الدوري تبعاً لنتائج اقتراع حر ونزيه ، فكل الأنظمة الأخرى تتطلع لطابع نمطي واحد مؤبد من السلطة ( تاريخي ملهم عبقري استثنائي ) .

و الفلسفة الليبرالية هي المنتج الحقيقي للديمقراطية كنظام سياسي ، في حين أن الفلسفات الشمولية , لا تؤمن بها في الجوهر ، فهي تريد نمطاً معيناً من المجتمع ومن البشر والسياسة يخدم غايتها التي تعمل لتحقيقها عبر وسائل قد تكون الديمقراطية أحدها ، فهي و إن قبلت بالديمقراطية ، فذلك لأنها مضطرة وكإجراء مؤقت في الطريق نحو المشروع الشمولي ، فديمقراطيتها المطروحة هي ديمقراطية (ديسبوزابل ) ترمى بعد الاستعمال ، وبعد الوصول للغاية والتحكم بالسلطة والثروة و بعد السيطرة على ماكينة الدولة وأجهزتها المعنية بالمراقبة والمعاقبة ، والتي هي أداة الشمولية في فرض تصورها النمطي الواحد على كل الأفراد الذين هم ليسوا سوى أدوات وأرقام وعناصر وعبيد وعساكر في خدمة ( القضية .. السلطة .. الشخص !! )تصبح الديمقراطية في حال قيامها على فلسفات شمولية نوعاً من الهدنة و من توازن القوة المهدد بالانهيار ، وليست تعبيراً أصيلا عن الذات وهنا الفارق ، فكل ديمقراطية لا تستند إلى فلسفة ليبرالية ستكون هشة ، وكل سياسة لا تعبر عن الثقافة هي كذلك ، فالحال الطبيعي أن تنعكس شروط حياة الناس في الثقافة التي تنتج السياسة التي هدفها تغيير أو إعادة إنتاج شروط حياة الجماعة ( الاقتصادية الثقافية السياسية ) وهذا هو الطريق الطبيعي للديناميكية ( الحركية ) الداخلية في التشكيلات الاجتماعية ، وللوصول إلى ديمقراطية سياسية لا بد من استنبات الفلسفة الليبرالية في المجتمع والثقافة ، لكي تتغير بالتالي السياسة . ومن دون ذلك علينا ارتداء طربوش ديمقراطي على جسد شمولي وهو ما يتم الآن ، حيث تجري تغييرات تجميلية لا تطال جوهر الأنظمة ولا حقيقة دورها المضاد للمجتمع حتماً لكونها استبدادية وفاسدة من حيث الجوهر والمضمون والبنية والدور .

وهكذا نعتقد أن الليبرالية هي النقيض التام للشمولية وهي عندما تنتقضها ، لا تشكل شمولية جديدة ، بل تعطي لكل إنسان الحق في الاختلاف ، فالليبرالية تبدأ من الفرد وتحترم حقوق الفرد بغض النظر عن الغايات الاجتماعية التي تطرحها الأيديولوجيات ، والفارق بين الليبرالية والفلسفات الشمولية أن الأخيرة تبدأ من الغاية والهدف والعقيدة التي تتجاوز الفرد وتجعله في خدمتها ، يستمد مشروعية وجوده منها ( القضية ) فالقضية هي الغاية والشعب مجرد وسيلة . بينما في الليبرالية يعتبر الإنسان الفرد الحر هو الغاية ، والحرية هي شرط وجوده السياسي وأداته في طريقه نحو الاندماج في الجماعة , عبر بوابة السياسة ونحو الغايات التي يحددها المجتمع لذاته . لذلك من حيث المبدأ لا يمكن أن تكون شمولية ، لأنها تقوم أساساً على الاعتراف بمشروعية وحق الاختلاف . بعكس الفلسفات الشمولية التي تقوم على التخوين والعداء والتكفير لكل ما هو مخالف لمشروعها الجماعوي ، وإذا اعترفت بوجود الآخر سياسياً ( لظرف ما مؤقت ) فهي تسعى لاستئصاله ثقافياً ، وهدفها فرض نمط ثقافي وسياسي واحد على الجميع .

نعم لقد اقتحمت الممارسة الليبرالية عالم السياسة الشمولي السائد بحكم التغير الخارجي والعولمة .. لكن هذه الليبرالية الطارئة لم يتم إنتاجها عبر بوابة الإنتاج الثقافي المجتمعي الداخلي ، لذلك بقيت الديمقراطية صعبة المنال وبعيدة ومشوهة .. مشروعنا هو التأسيس الثقافي لليبرالية ولقيم الحرية , لكي ننتج الديمقراطية من داخلنا ، فخلافنا مع الثقافات الشمولية هو خلاف من أجل الديمقراطية وليس ضدها وليس مشروع شمولية جديدة ، ومسعانا ليس استيرادها بل إنتاجها ..

السؤال الصعب المتبقي هل تتسامح الديمقراطية مع منظمات معادية للديمقراطية ؟ نعم , لكنها لا تشركها في الحياة البرلمانية .. فمن يرفض فكرة أن البرلمان هو السلطة التشريعية الحرة ذات القرار الحر ، هو الذي يضع نفسه خارج حلبة اللاعبين .. ولكن يبقى له الحق في الوجود وإعلان الرأي ، إنما الاشتراك في الانتخابات له شروط ، فالمطلوب ليس قمع الحركات الدينية و القومانية الفئوية ولا الماركسية المطالبة بديكتاتورية البروليتاريا والاستيلاء على الملكية الخاصة ، بل حرمانها من حق المشاركة في الحكومات الديمقراطية ومنعها من الوصول للسلطة ، حرصاً على الديمقراطية ، قبل أن تعترف بها وتحفظ حقوق الآخرين فيها ، وتصوغ برامجها التي تحفظها وتصونها ، وقبل أن تعترف بقوانين اللعبة الديمقراطية نظرياً وبنيوياً وسلوكياً وبرنامجياً ، وهنا لا يجب أن نتوقف عند صنميه الاسم و عند الشعار الأجوف المرفوع .

فالموضوع ليس موضوع قمع حرية تعبير وحق تشكيل أحزاب وجمعيات ، والتي يجب أن تكون حرة ومطلقة وشاملة وغير منقوصة ، بل هو اعتماد قانون انتخابي يضمن سلامة نظام الحكم الديمقراطي وبقاءه ، وهنا ومن أجل ذلك ولإدراكنا بعمق المشكلة ومن خلال مطالعة التجارب المحيطة بنا اقترحنا أن يكون الحل بواسطة مجلسين تمثيليين واحد للمجتمع المدني ..وواحد للمجتمع الأهلي . والقوى التي تعجز عن توفير شروط المساهمة في الحياة البرلمانية المدنية ، لا يجب أن نقصيها عن المشاركة في الحياة السياسية ، بل سوف تكون محترمة بقدر ما تمثل من قوة مجتمعية . وسوف تراعى مصالحها ، لكنها لا تحكم كل البلاد بعقلها الفئوي ومشاريعها الجزئية . حتى لو كانت أغلبية .. لأن نتيجة وصول جماعة فئوية للسلطة حتى لو تم عبر صندوق الاقتراع فسوف تكون ما يعرف باسم ديكتاتورية الأغلبية ، التي تنتهك فيها حقوق الأقليات لمجرد أنها أقليات ، فالأغلبية نظام ديمقراطي صحيح لكنه ليس مطلقاً ، بل مشروطا باحترام حقوق معينة للأقلية وللفرد ، فلو قررت أغلبية إعدام شخص تعسفاً .. هل يحق لها ذلك .. ؟؟

الحركات الليبرالية لا يمكن أن تكون عنيفة أو سرية أو عسكرية الطابع والانضباط وليس فيها زعامات وشخصنات وأوامر وتوجيهات بل تقوم على توافقات على أرضية القبول والمشاركة والمساواة ، و قيمة كل عضو فيها بما يساهم به في العمل العام . وحتى عندما تحكم هكذا حركات وتحاول أن تحتكر السلطة فهي فاقدة للعصابة الداخلية ( الأوليغارشية ) التي تتحكم بالحزب ، وعندها ستتشكل معارضة داخل حزب السلطة ذاته وينهي الديكتاتورية ، فالوسيلة الليبرالية هي الضمانة لنجاح الديمقراطية وهي حصانتها ضد الغرق في شمولية جديدة ، والوسائل الأخرى خطرة وغير مضمونة خاصة عندما نراها وهي في المعارضة عاجزة عن إنضاج أي تجربة سياسية ديمقراطية داخلية ، بل تستنسخ وتكرر ما تفعله السلطة في التسلط الديكتاتوري وعبادة الفرد وتغليب الخاص على العام و تجيير المشروع السياسي لحساب شخصي ..

باختصار الديمقراطية غاية الليبرالية ، في حين أنها قد تكون وسيلة الشمولية المؤقتة .

مصادر
مرآة سوريا (سوريا)