دأب الرئيس بشار الأسد على زيارة إيران مرة كل سنة تقريباً منذ توليه الرئاسة، وهي الدولة الثانية بعد مصر التي زارها بمثل هذه الكثافة، ذلك لأن العلاقات بين البلدين تمتنت خلال ربع القرن الماضي بدءاً من الثورة الإيرانية حتى الآن،

فقد أيدت سوريا الثورة منذ أيامها الأولى كما دعمت الموقف الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية.

واتسعت العلاقات الاقتصادية بين البلدين خلال العقدين الماضيين خاصة في مجال استيراد النفط الإيراني وتصدير واستيراد البضائع وقدوم بعض الاستثمارات الإيرانية إلى سوريا وتزايد حجم العلاقات السياحية وخاصة السياحة الدينية، والأهم من ذلك تنسيق سياسة الطرفين حتى التحالف تجاه لبنان الذي كان غارقاً في حرب أهلية وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وبدرجة ما حيال علاقات كل منهما غير الودية مع النظام العراقي في عهد الرئيس صدام حسين،

وتنامت هذه العلاقات بينهما وتماهت سياسات كل منهما مع الأخرى في هذه المجالات حتى كادت أن تصبح سياسة واحدة تجاه القضايا الإقليمية والدولية. وزادت الضغوط الأميركية المتنامية على كل من البلدين بعد احتلال العراق، مما جعلهما يتشاوران باستمرار دفعاً للأذى الأميركي والتهديد الخارجي عامة، وفي ضوء هذا وغيره يمكن أن نفهم تعدد الزيارات الرئاسية وكثافتها.

مطلوب من البلدين الآن استحقاقات كبيرة تدفع بها السياسة الأميركية والسياسات الأوروبية وعلى رأسها المساعدة في تهدئة الأحوال في العراق، ونزع سلاح حزب الله في لبنان المدعوم من الطرفين والتخلي عن منظمات المقاومة الفلسطينية، وتحجيم الدور الإقليمي لكل منهما. وهذا ما يزيد ضرورة التنسيق والتعاون أكثر من أي وقت مضى.

إلا أن هذه الضغوط وتلك الاستحقاقات المتماثلة لم ينتج عنها في الواقع سياسات ومواقف متماثلة لدى كل منهما تجاه العراق وفلسطين وحزب الله، فكان هناك تمايزات وربما اختلافات لم تجد طريقها للعلن لكنها تتفاعل ضمناً وربما تتحول إلى خلافات مستترة أو حتى ظاهرة، وهذا ما يحاول الطرفان تداركه قبل حصوله، لأن لا مصلحة لأي منهما في إشهاره وخاصة في الظروف الحاضرة.

إن الأولويات مختلفة الآن نسبياً بين البلدين، ففي العراق تشكل إيران لاعباً رئيسياً وخاصة في الجنوب العراقي ويسيطر أنصارها على الحكومة العراقية وعلى المجلس الوطني كما تسيطر ميليشياتهم (أي الأنصار) على الشارع، وإيران طرف قوي إن لم تكن الأقوى في الجنوب معنوياً ومادياً، مباشرة أو مداورة، وهناك ما يشبه الاتفاق الضمني أو اتفاق (الجنتلمان) بينها وبين الولايات المتحدة على اعتراف كل من الطرفين بالآخر وبمصالحه ودوره في العراق

لأن أحداً منهما لا يستطيع إلغاء الآخر أو إهمال قوته ودوره، بينما ليس لسوريا مثل هذا الدور الفعال على أرض الواقع، والأهم أن الأولويات السورية في العراق تختلف وربما تتباين مع الأولويات الإيرانية خاصة تجاه عروبة العراق وشكل فيدراليته ومشاركة جميع طوائفه في اتخاذ القرار،

والموقف من القوى والأحزاب والشخصيات التي قدمت مع الدبابات الأميركية وغير ذلك، ولعل هذا الخلاف السوري الإيراني تجاه هذه القضايا يتزايد بدلاً من أن يتناقص، لأن لكل من الطرفين كما أسلفت أولوياته ومصالحه ووجهات نظره التي لا تتطابق أو لا تتسق على الأقل مع مصالح الآخر ووجهات نظره.

وفي لبنان، ترغب إيران باستمرار دعم حزب الله في كل مجال ومن دون تحفظ، فهو ورقة إقليمية مهمة بيدها وهذا ما ترغبه سوريا أيضاً (مع بعض التحفظ)، ولكن لا يقع على السياسة الإيرانية تحمل أعباء إيصال الدعم العسكري واللوجستي وغيره إلى الحزب، فالمطلوب منها تقديمه فقط بينما يقع على عاتق سوريا ما تبقى، وأمام الضغوط الأميركية والأوروبية (وبعض اللبنانية) فإن الموقف السوري أكثر حذراً وواقعية من الموقف الإيراني وأكثر إدراكاً لواقع التعقيدات اللبنانية الداخلية.

أما ما يتعلق بفلسطين فإيران بعيدة رغم العداء الإسرائيلي لها ويقتصر دورها على دعم بعض المنظمات مالياً وعلى موقف سياسي مؤيد، ولكن سوريا هي حاضنة المنظمات وهي التي تواجه الضغوط الأميركية لطرد هذه المنظمات وقطع العلاقة معها.

بقي أن نشير إلى أن إيران تذكّر سوريا في كل مناسبة بديونها وبعلاقاتها الاقتصادية رغم ثانوية هذه الديون وصغر حجمها وكونها ديوناً مقابل خدمات ينبغي أن تقدمها سوريا للسياحة الدينية الإيرانية، وقد استخدمت العلاقات الاقتصادية في مرحلة سابقة وسيلة ضغط على سوريا رغم عدم أهميتها.

يواجه الطرفان السوري والإيراني في الوقت الحاضر ضغوطاً من الأطراف نفسها ومخاطر متشابهة وإن اختلفت أسبابها وحجومها، وليس أمام كل من الطرفين إلا تمتين العلاقة مع الآخر والتنسيق معه بل والتحالف للوقوف بوجه هذه الضغوط التي تستهدفهما، ومن البديهي أن يبحث كل منهما عن نقاط الالتقاء والاتفاق ويضع الخلافات جانباً،

لأنهما يخوضان (معركة) واحدة، طرفها الآخر واحد واستهدافاته واحدة، والخشية قائمة في تراخي السياسة الإيرانية أمام إغراءات عديدة مثل سماح الولايات المتحدة والدول الأوروبية لها بالاستفادة من المنشآت الذرية للاستخدامات السلمية، وهي أولوية كبرى لإيران قد تكون أهم من الاتفاق مع سوريا حول بعض القضايا الإقليمية.

ولن يغير النظام (الجديد) في إيران الذي يمثله المحافظون وربما المتشددون السياسة الخارجية الإيرانية السابقة تغييراً جدياً، فرئيس الجمهورية (المحافظ) ليس هو صاحب القرار في مجال السياسة الخارجية، ويعود الأمر كله لمرشد الثورة ولبعض المجالس التي تتبعه، وأصحاب القرار هم أنفسهم قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها، والسياسة الخارجية هي نفسها أيضاً.

على أية حال، يعوّل السوريون كثيراً على نجاح التنسيق مع السياسة الإيرانية، لأن الطرفين يواجهان معاً ضغوطاً من الجهات نفسها أي من الولايات المتحدة وأوروبا، تتركز حول القضايا نفسها أي العراق ولبنان وفلسطين، ولعله من غير الحكمة أن يبحث أي من الطرفين الإيراني والسوري عن مصالحه الخاصة جداً ويبقي أولوياته خاصة جداً، ويتناسى أن التنسيق والتحالف هو خير للطرفين حتى لو اضطر لإعادة تشكيل أولوياته، وأخذ الواقع الإقليمي والدولي بعين الاعتبار، ولعل هذه هي الأسباب الرئيسية لزيارات الرئيس الأسد المتكررة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)