تضاعف عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة ثلاث مرات ما بين العامين 1945- 1980، ولم تكن تلك الزيادة ناجمة عن الاستقلالات ونهاية الاستعمار القديم المباشر بالدرجة الأولى، بل نجمت عن التقسيم والتجزئة التي خلفها ذلك الاستعمار بالدرجة الأولى، وأورثها للشعوب التي توهمت أنها استقلت، فأدت التركة الاستعمارية الى تبعية أقوى في معظم الأحيان، والى صراعات بين الأجزاء أشد ضراوة أحياناً من الصراعات ضدّ جيوش الاحتلال!

وتجدر الإشارة الى أن عدد الدويلات العربية تضاعف حوالي خمس مرات منذ تأسيس هيئة الأمم وحتى يومنا هذا فراياتها (ما شاء الله!) تملأ صفاً طويلاً من سواري الرايات في نيويورك، والمدلول الكارثي لذلك لا يخفى على عاقل، فبعض هذه الدويلات ليست أكثر من حقل نفط، وبعضها الآخر ليس أكثر من منتجع سياحي، وبعضها الثالث يحاول عبثاً أن يوهم نفسه أنه يملك شروط العيش المستقل الكريم بينما هو ليس كذلك على الإطلاق ولا يمكن أن يكون!

عالم من المدن/الدول!

غير أن الحال البائس لم يقف عند حدود تركة الاستعمار القديم المباشر، بل اتخذ مساراً كارثياً سرطانياً على أيدي الإدارات الأميركية الاستعمارية الحديثة، فهذه الإدارت، خصوصاً منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وبسبب استفحال أزمة الموارد العالمية وإصرارها على الاحتفاظ بطراز حياتها وسويته، بدأت تدفع بالعالم عموماً نحو تفتت دوله وتمزّق أممه، وهي تفعل ذلك في نطاق استراتيجية مدعّمة بالعمليات العسكرية، ذروتها الوصول الى عالم مكوّن من عدد هائل من المدن/الدول! وبالفعل، وبفضل تركة الاستعمار القديم، ترعى واشنطن اليوم نزعة الانفصال والتقوقع عند أكثر من خمسة آلاف جماعة عرقية ودينية موزعة على مختلف الدول كبيرها وصغيرها! وتنطلق الإدارة الأميركية نحو هدفها الشرير معتمدة على تعبئة واسعة النطاق، قوامها التظاهر برعاية حقوق الإنسان وحق الأقليات بتقرير مصيرها الى حد الانفصال، موهمة إياها أنها تستطيع تشكيل دول/مدن صغيرة عظيمة النجاح والازدهار، على غرار سنغافورة وبفضل الانخراط في السوق الدولية المعولمة المؤمركة!

ولكن، بما أن مثل هذه الرعاية الكاذبة لحقوق الإنسان ولحق تقرير المصير لا يمكن أن تكون فعالة في ظل الأنظمة المستبدة، التي كانت واشنطن ترعى استبدادها في الماضي عندما كان مفيداً لها، فقد قررت إرغام مثل هذه الدول، بجميع الوسائل بما فيها العمليات العسكرية ضدها، على تطبيق الديمقراطية! وهنا تبلغ المأساة ذروة غرابتها وفظاعتها، حيث المطلوب بالضبط هو فقط أن ترخي مثل هذه الأنظمة قبضتها ريثما تتفتت الدولة وتتمزق الأمة، حيث واشنطن تعرف مسبقا،ً بل عملت مسبقاً على أن تكون مثل هذه الدولة صلبة القشرة وهشّة اللب، ولا شك أن الاتحاد السوفييتي الذي نخرت الصهيونية والبيروقراطية داخله وجعلته شديد الهشاشة، هو المثال الأعظم على ذلك!

شكيب أرسلان والأمم المتحدة!

إن على هيئة الأمم استقبال أرتال لا نهاية لها من المدن/الدول على مدى السنوات القادمة! وأغرب ما في الأمر أن هذا يحدث في وقت تتراجع فيه مكانة الهيئة وتضمحل هيبتها، بحيث لم يعد الانضمام إليها يعني أكثر من التدليل على الولاء لسيدها الأميركي، وإدراج أسماء الدول في سجلاته تعبيراً عن الطاعة، بعد أن توقفت المجاملات الدبلوماسية ومراعاة المشاعر وتقديم بعض المكتسبات الرخيصة للأعضاء! وبالفعل، فإن هيئة الأمم لم تكن في أي يوم هيئة للأمم، بل مؤسسة أميركية بديلة للاستعمار القديم المباشر الذي استنفد أغراضه، وكم كان عمنا الطيب الذكر الأمير شكيب أرسلان مصيباً عندما وصف هذه الهيئة قبل عشرات السنين بقوله: إنها مثل بحور الشعر، بحور بلا ماء، وهي ما وجدت إلا لتلبس الاعتداء حلّة القانون. إنها هيئة لا يطيعها سوى ضعيف عاجز، ولا تستطيع أن تحكم على قوي متجاوز، فقد ألغت المدنيّة الحديثة رقّ الأفراد وسنّت رقّ الأمم!

إن الهدف المركزي من وراء إنشاء هيئة الأمم هو، بالفعل، استرقاق الأمم، سواء في مرحلتها المخاتلة المرائية قبل عقد التسعينات أم في مرحلتها السافرة الوقحة بعد ذلك العقد، أي بعد إعلان الرئيس بوش الأب عن بداية النظام الدولي الجديد، وإنه لمن المذهل حقاً أن يكون أول ضحايا إسفارها عن حقيقتها هو الاتحاد السوفييتي بحجمه وقوته ومكانته في مجلس الأمن، فقد انهارت الدولة السوفييتية المتعددة الجنسيات التي يدين لها نظام الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بالفضل الأول، حيث شعوبها أكثر من ضحّى في تلك الحرب (عشرين مليون ضحية) وحيث هي من ألحق الهزيمة حقاً بألمانيا النازية! ثم بعد ذلك تحولوا الى الاتحاد اليوغوسلافي المتعدد الجنسيات بدوره، والذي لم يكن تدميره سوى استكمالاً لتدمير الكتلة البشرية الضخمة السلافية الأرثوذكسية الذي بدأ بموسكو!

الديكتاتورية العالمية الأنكلوسكسونية!

بالطبع، ليست الدول الشيوعية هي الهدف الرئيس الوحيد للاستراتيجية التفتيتية التمزيقية، بل الدول والأمم جميعها، خاصة أمم ودول حوض المتوسط، فالاستراتيجية هذه، كما يتوجب أن يكون مفهوماً تماماً، تخص كتلة بشرية محددة هي الكتلة الأنكلوسكسونية اللوثرية التي يحتل قادتها اليوم مركز الديكتاتورية العالمية، ويريدون الاحتفاظ بهذا المركز ليس لقرن قادم بل الى الأبد، وهذا يقتضي تفتيت وتمزيق الكتل البشرية العريقة في منطقة حوض المتوسط، المؤهلة لإحداث تغيير في العلاقات والترتيبات الدولية عموماً، وهذه الكتل هي ثلاث: اللاتينية الكاثوليكية، والسلافية الأرثوذكسية، والعربية الإسلامية! إن هذه الكتل الثلاث تحت الضرب طوال الوقت، والظروف المحيطة والإمكانات المتاحة هي التي تحدد موعد الضربة وحجمها ووجهتها ضد هذه الكتلة أو تلك، فقد انفرد الأنكلوسكسون اللوثريون، وفي ركابهم حلفاؤهم الصهاينة اليهود، بالكتلة السلافية الارثوذكسية، وكسبوا في حربهم ضدها تأييد الدول الإسلامية، بحجة الجرائم التي ارتكبها الصرب بحق المسلمين في يوغوسلافيا! أما أوروبا الغربية فإنهم يحدّون من تطور مكانتها السياسية والاقتصادية والعسكرية طوال الوقت بوسائل عديدة متوالية باعتبارها قيادة الكتلة اللاتينية الكاثوليكية في أوروبا وأميركا الجنوبية، وأما العرب والمسلمين فقد تحولوا نحوهم وحاولوا كسب تأييد الكتلتين الأخريتين في حربهم الحالية ضدهم تحت الشعار الملفّق: "مكافحة الإرهاب"! أما عن الصين فهي بدورها تحت الضرب وعرضة للتفتيت والتمزيق، إنما بطرق أخرى أقل حدّة وإلحاحاً، حيث الصين عبر العصور لم تكن طرفاً رئيسياً مباشراً في تغيير العالم، كما هو حال كتل حوض المتوسط التي تشمل شعوب أوروبا وشعوب آسيا الصغرى!

ضرب الأمة العربية أولاً!

وجدير بالتأكيد أن العرب هم الأكثر استهدافاً، ويمكن مهادنة جميع الكتل البشرية مهما كانت الخلافات معها، بما فيها الإسلامية غير العربية، للتركيز على ضرب العرب أولاً عندما تظهر في بلادهم أبسط معالم إمكانيات النهوض، وهذا أمر مفهوم إذا ما أخذنا بالاعتبار الدور القيادي للأمة العربية في تغيير العالم، ابتداء من القرن السابع، وإذا ما أخذنا بالاعتبار حجم هذه الأمة حالياً (حوالي ثلاثمائة مليون) وتجانسها الذي لا مثيل له قياساً بالكتل الأخرى، والذي يجعلها الأمة الأكبر تعداداً وخطورة على الديكتاتورية العالمية! وهكذا نرى كيف تركّز الاستراتيجية الأنكلوسكسونية اللوثرية الصهيونية جهدها الرئيسي اليوم ضد العرب، ساعية الى تمزيق دويلاتهم جميعاً، بحيث يصبح تعدادها معادلاً لتعداد مدنهم بل قراهم!

غير أن بغداد تبدو مختلفة تماماً عن أي عاصمة أخرى انتهكوها، وبعكس ما حدث في الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وغيرهما، حيث سارت أمورهم بسلاسة، فإن المعركة في العراق، وقبلها ومعها في فلسطين، قد أربكت برامجهم،وزعزعت أسس استراتيجيتهم السرطانية، وهاهم لأول مرة يعجزون عن إظهار ثقتهم بتحقيق انتصار سريع!

مصادر
حركة الكفاح العربي