رحلة بشار الأسد الى طهران, وهي الاولى بعد تسلم محمود أحمدي نجاد مهماته, والرابعة منذ العام 2000, لم تكن زيارة بروتوكولية باردة في زمن عادي. سوريا وايران متهمتان باعاقة «مسيرة الحرية والديمقراطية» في المنطقة, والضغوط الاميركية على النظامين سجلت ذروة جديدة في الايام الاخيرة, والتصدي لهذه الضغوط هاجس مشترك لدى قيادتي البلدين.

اللحظة ساخنة ودمشق وطهران مستهدفتان, وعقيدة «الحرب الوقائية» الاميركية في مواجهة الدول المستعصية, أملت هجمة متقدمة في اتجاه البلدين. المطلوب ارهاب ايران وتطويع سوريا ليسهل العبور الى «الشرق الاوسط الجديد» عبر نقاط التقاطع الاميركية ­ الاسرائيلية. ماذا ايضاً في الاستهداف المزدوج؟

الملفات الخلافية بين دمشق وواشنطن باتت معروفة وابرزها ثلاثة: التصدي للمقاومة في العراق, وقف الدعم للمنظمات الرافضة في فلسطين المحتلة, وتعطيل القدرة المسلحة لـ «حزب الله» في لبنان. وفي خلفية المشهد قضايا اخرى عالقة, لعل اهمها التخلي عن برامج اسلحة الدمار الشامل ­ إذا وجدت ­ التنسيق مع الجهود الاميركية في محاربة «الارهاب», وتفكيك خلايا «القاعدة» اينما وجدت, تقليص حجم التعاون مع ايران, وتسريع عملية الاصلاح السياسي في اتجاه الحريات الاقتصادية وتداول السلطة.

وفي اقتناع صانعي القرار الاميركي ان الرئيس السوري الشاب, الذي انسحب من لبنان, ويصرّ على تجديد تحالفه مع ايران, هو الوحيد الذي يستطيع انقاذ الولايات المتحدة من الورطة التي وقعت فيها بعد احتلال العراق, عن طريق تقديم دعم فعال في بناء «العراق الجديد», وهو ايضاً الوحيد القادر على تطويع المنظمات الاصولية المتشددة في لبنان وفلسطين المحتلة, إذا هو تخلى عن الثوابت التي يتمسك بها في دعم الحقوق الفلسطينية, والاصرار على استعادة الجولان, وسلم بالتفاوض وفق الروزنامة الاميركية والشروط الاسرائيلية.

والمشكلة ان الرئيس السوري يفكر برؤية مختلفة, إذ انه يرى ان حصار ايران وسوريا في آن, هو نتيجة المصالحة الاميركية ­ الاوروبية بعد احتلال العراق. واوروبا ­ بدءاً بفرنسا ­ ارتضت, على ما يبدو, العودة الى «مناطق النفوذ» التاريخية, مقابل دعم المشروع الاميركي في الخليج, وتسهيل «السلام» الفلسطيني­ الاسرائيلي وفق الرؤية البوشية ­ الشارونية. في الوقت نفسه يعتقد الرئيس السوري ان دور دمشق وطهران اساسي جداً في تقرير مستقبل المنطقة, خصوصاً في فلسطين والعراق, في اعقاب التغييرات الاقليمية الاخيرة, والقرارات التي املت الانسحاب العسكري السوري من لبنان. والرؤية السورية تجد من يتفهمها في ايران, التي تخوض معركة ملفها النووي, ووصول أحمدي نجاد الى الرئاسة يساعد على مزيد من التنسيق, في ضوء الثوابت الايرانية في السياسة الخارجية, ومعروف ان من يرسم هذه الثوابت هو المرشد آية الله خامنئي الذي يؤكد ان «مصلحة النظام في ايران فوق كل الاعتبارات».

ومن الواضح ان الرئيس السوري قصد من زيارة طهران الاخيرة, إيصال رسالة الى الاميركيين والاوروبيين معاً مفادها ان دمشق ليست في عزلة, وان دورها الاقليمي يتقاطع في اكثر من موقع مع الدور الايراني, ولو ان طهران تمارس مرونة اكثر في العراق, وتراهن على حل لبناني داخلي لمسألة سلاح «حزب الله» في التعاطي مع التحدي الذي طرحه القرار 1559. ومن جهة لا يرى الرئيس الايراني «حداً لتعاون ايران وسوريا لحماية منطقة الشرق الاوسط من الاعتداءات المحتملة», وقد اكد بوضوح كامل «ان وجود التهديدات المشتركة يستدعي مزيداً من التلاقي».

مخططات

والرئيس السوري يدرك جيداً ان استهداف بلاده لم يبدأ بالقرار 1559, وا نما بدأ قبل خمس سنوات وتصاعد على مراحل وفق وتيرة متسارعة منذ احتلال العراق. ففي 15 كانون الاول “ديسمبر” 2003, اي غداة القبض على صدام حسين, ذكرت صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية, انه كان في وسع صدام ان ينقذ نفسه «لو انه ادلى بمعلومات عن اسلحة الدمار الشامل التي كانت في حوزته, والتي سربها الى سوريا ليلة غزو العراق». والمعلومات التي روجت عن نقل مكونات البرنامج النووي العراقي الى سوريا, قبل احتلال العراق, هي التي سمحت في وقت لاحق باستصدار قانون داخل الكونغرس يسمى «قانون محاسبة سوريا», يسمح للرئيس الاميركي بمهاجمة سوريا متى ارتأت الادارة الاميركية ذلك. وهذا القانون يمثل مجموعة من العقوبات التجارية والاقتصادية والسياسية, تخول البيت الابيض معاقبة دمشق على خلفية موضوع اسلحة الدمار الشامل وتهريب الاصوليين المسلحين الى العراق. وآخر الاجراءات المتخذة في هذا السياق, قبل ايام, تعديل وتعقيد الاجراءات المتعلقة بدخول السوريين الى الاراضي الاميركية.
وما يقال عن العراق ينطبق ايضاً على لبنان. صدور القرار 1559 يوم 3 ايلول “سبتمبر” 2004 كان تتويجاً لمسار طويل بدأ قبل سنوات, اعدت خلاله الدوائر الاميركية ما بات يسمى «ملف سوريا», بالتعاون مع ما يسمى «اللجنة الاميركية من اجل لبنان حر», التي تم انشاؤها استجابة لرغبة «المحافظين الجدد» وطموحاتهم في «إعادة تشكيل الشرق الاوسط», وهي لجنة تشبه «المؤتمر الوطني العراقي» الذي قاده احمد الجلبي قبل غزو العراق, ولا يقتصر دورها على ضمان الانسحاب السوري من لبنان, وانما يتجاوزه الى إحداث تغييرات داخل سوريا.

في إطار هذه المخططات تم ابتداء من العام 1999 إصدار صحيفة بعنوان MEIB اي «النشرة الاستخبارية للشرق الاوسط», بفريق تحرير يضم كلاً من مايكل روبان وتوماس باتريك كارول برئاسة غاري غامبيل, والثلاثة معروفون بعلاقتهم الوطيدة بجهاز الـ «سي اي ايه». واعتباراً من أيار “مايو” من العام 2000 عقدت اللجنة اجتماعاً مع «منتدى الشرق الاوسط» من اجل تشكيل فريق عمل مشترك من اجل لبنان. في اعقاب هذا الاجتماع نشرت MEIB تقريراً بعنوان «وضع نهاية لاحتلال سوريا للبنان ­ دور الولايات المتحدة». وفي هذا التقرير يشير روبان وكارول الى ان مصلحة الولايات المتحدة تكمن في استخدام لبنان كوسيلة للضغط على سوريا من اجل اجبارها على القبول بحقيقة الاحتلال الاسرائيلي لهضبة الجولان, والتوقف عن دعم العمليات الفلسطينية. وهذا التقرير يمهد لدعم المعارضة اللبنانية, واتخاذ عقوبات اقتصادية ضد سوريا بل وربما الى حد اللجوء الى عملية عسكرية ضدها.

التقرير مرّ يومذاك دون رد فعل او اهتمام يذكر من قبل قارئيه, لكنه يبدو مثيراً للدهشة, إذ يعيد سرد كثير من العناصر الى مشروع يرجع الى تاريخ 1996, كان قد اعد خصيصاً لرئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتنياهو. عناصر التقاطع تبدو فيه واضحة, وهو بداية لاستراتيجية جديدة تهدف الى تأمين «المملكة» “اسرائيل”. وواضح اليوم ان ادارة بوش تستند اساساً الى هذا التقرير, وقد تم توقيعه من قبل الاعضاء الـ 31 من مجموعة العمل المكلفة بلبنان, الذين يعتبرون في اغلبيتهم من تيار المحافظين الجدد المتعاطفين مع اسرائيل وهم يشغلون مناصب حساسة في ادارة بوش الحالية.
وفي العام 2002, التحق دانيال بايبس مؤسس «منتدى الشرق الاوسط» بفريق تحرير الشهرية MEIB مما سيؤدي الى الى توطد العلاقات بين «منتدى الشرق الاوسط» و«اللجنة الاميركية من اجل لبنان الحر» اكثر من اي وقت مضى. يوم 18 نيسان €ابريل€ 2002, تقدم نائب ولاية تكساس “الجمهوري” ديك آرمي بمشروع قانون الى غرفة النواب عرف بقانون «المسؤولية السورية» مع صديقه اليوت آنجل النائب الديمقراطي لمقاطعة برونكس. كان آنجل عضواً في مجموعة العمل المختصة بالشأن اللبناني الـ MEF و«اللجنة الاميركية من اجل لبنان الحر» (USCFL) وقد اشتهر اسمه عندما خاض حملة من اجل الاعتراف بالقدس كعاصمة لاسرائيل. هذه الحملة لقيت دعم جورج بوش في دعوته يوم 24 حزيران €يونيو€ 2002 الى تعيين زعيم فلسطيني جديد, وكانت تستلهم اهدافها من مقترحات الوزير الاسرائيلي ناتان شارانسكي. منذ ذلك الوقت كان يبدو جلياً ان استراتيجية الـ USCFLوMEF كانت قد اعتمدت من طرف البيت الابيض: الهدف كان منع الدعم السوري لحركات المقاومة الفلسطينية عن طريق استخدام لبنان كوسيلة ضغط على دمشق.

وبتاريخ 12 نيسان “ابريل” 2003, بعد اسبوعين من بدء العمليات العسكرية في العراق, عاد اليوت آنجل الى المهمة, وأدخل مشروع قانون «المسؤولية السورية وإعادة تثبيت السيادة اللبنانية». المادة الاولى من هذا المشروع تشرح اهدافه بوضوح كامل «وقف الدعم السوري للارهاب, وضع نهاية لاحتلال لبنان, وتحميل سوريا المسؤولية عن المشاكل المتعلقة بالأمن الدولي, واستنزاف النفط العراقي».
في هذا السياق يقول تييري ميسان واضع كتاب «الخدعة الرهيبة» بعد احداث 11 ايلول “سبتمبر” 2001, ان الولايات المتحدة تستخدم لبنان منذ العام 2003 وسيلة ضغط على سوريا من اجل اجبارها على التنازل عن الجولان والتوقف عن دعم المقاومة الفلسطينية. وزعزعة استقرار لبنان خطط لها منذ فترة طويلة, بالتعاون مع «اللجنة الاميركية من اجل لبنان الحر», وهي زعزعة تشبه ما حدث في كل من يوغوسلافيا, جورجيا, فنزويلا, اوكرانيا, روسيا البيضاء, هاييتي, قرغستان وزيمبابوي, من اجل إعادة رسم التوجهات السياسية لهذه البلدان.

ولا يخفي ميسان ان إعادة تغيير الدول والحكومات, وإعادة صياغة التوجهات السياسية, قد تقتضي مهاجمة سوريا وايران, لأن الـ «سي ايه ايه» تؤكد انها غير قادرة على احداث انعطافات جذرية في سوريا وايران من دون اللجوء الى القوة العسكرية, والبنتاغون متردد في الاخذ بهذا الخيار لأنه اكثر صعوبة وتعقيداً من غزو العراق الذي كانت قد انهكته حربان متتاليتان وحصار اقتصادي دام اكثر من اثنتي عشرة سنة.

في دراسة اخرى يكشف ميسان ان تعيين ديفيد فورزمر عضو مجموعة العمل المشكلة من «منتدى الشرق الاوسط» و«اللجنة الاميركية من اجل لبنان الحر», في ديوان نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني في ايلول “سبتمبر” 2003, كان القصد منه التحضير لمهاجمة سوريا. وفورزمر وزوجته مايراف كانا قد شاركا في مشروع نتنياهو للعام 1996, علماً ان ما يراف عضو في «الميمري» احد اجهزة الجيش الاسرائيلي السرية, وبعد استبعاد مهاجمة سوريا عسكرياً, انشأت الادارة الاميركية هيئة سياسية سمتها «الائتلاف السوري الديمقراطي» ضمن مشروع سمي «الاصلاحات الحزبية في سوريا», وتلا تأسيس هذا الائتلاف انعقاد مؤتمر في بروكسل يومي 18 و19 كانون الثاني “يناير” 2004 فشل في ايجاد الشخصية المؤهلة لخلافة الرئيس السوري, بعد عملية «التحرير» الافتراضية من قبل الولايات المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ نشط اعضاء «اللجنة الاميركية من اجل لبنان» في تضخيم الملف السوري, وتم استصدار القرار 1559 بتفاهم بين الولايات المتحدة و بريطانيا وفرنسا والمانيا.

وعملية التضخيم لم تقتصر على لبنان والعراق وفلسطين, وانهما تجاوزتها الى ترويج معلومات حول اسلحة روسية جديدة لسوريا, من بينها صواريخ «ستريليتس» المضادة للطائرات “المعادلة لصواريخ «ستنغر» الاميركية”. الحملة اقترنت باجتهادات تقول ان هذه الصواريخ «قد تصل الى أيدي الارهابيين», والى ما هنالك من اضاليل. وللعلم فان سوريا تملك نظاماً فعالاً للدفاع الجوي, وفق إفادة معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن, يعتمد على صواريخ من انتاج الاتحاد السوفياتي وروسيا وهي «س ­ 75» “دفينا” و«س ­ 125 “نيفا” و«س ­ 200» “انغارا”. وقد ا ستخدمت صواريخ مماثلة ضد الطائرات الاميركية في فيتنام وضد الطائرات الاسرائيلية في مصر. وتملك دمشق حوالى 650 وحدة لاطلاق هذه الصواريخ, اضافة الى حوالى 50 وحدة لاطلاق صواريخ «كوب» او «كفادرات» ويسمونها في الغرب بـ SA-6 وصواريخ «اوسا ­ اك» €SA-8€. كما يمتلك الجيش السوري عدداً من وحدات اطلاق صواريخ «س ­ 300». ويتراوح مدى هذا الصاروخ بين 2 و300 كيلومتر وهو يستطيع اصابة الهدف على ارتفاع يصل الى 25 كيلومترا, وعليه فان عدداً من وحدات «ستريليتس» لن يؤثر على ميزان القوى في المنطقة.

والسؤال: هل أدار الاميركيون ظهرهم لدمشق ولم يعد هناك مجال للحوار؟

مسؤول دفاعي اميركي علق على زيارة الرئيس السوري الاخيرة لطهران بالقول «ان امام الاسد فرصة ذهبية لم تتوفر لغيره يستطيع استغلالها إذا هو أراد الحفاظ على نظام حكمه».

المسؤول نفسه قال: «ان مشكلة الاسد ومستشاريه في دمشق وخارج دمشق انهم يحاولون قراءة ما لم تقله الولايات المتحدة, في حين ان الولايات المتحدة قالت كل شيء بكل بساطة ووضوح وليس لها اجندة غير معلنة مطلقاً. وتابع قائلاً «مطالبنا اعلناها للملأ وهي تتلخص في ثلاثة محاور: المحور الاول هو المتعلق بالعراق, حيث ان استراتيجيتنا تحتم علينا سحق اعمال التمرد البعثية وانصار الزرقاوي وبن لادن ونرحب بدعم سوري حقيقي في هذا المجال, والمحور الثاني يتعلق بالمنظمات الفلسطينية الراديكالية التي يمكن ان تطرد خارج سوريا الى «قطر مثلاً» او اي دولة تقبلهم ليعيشوا كمواطنين وليس كمنظمات ارهابية, والمحور الثالث يتعلق بلبنان وقد طبقت دمشق جزءاً كبيراً ومهمهاً من المطالب في هذا المحور, اما المحور الرابع فيتعلق بالاصلاحات الداخلية نحو الديمقراطية». واضاف المسؤول قائلا «يمكننا مساعدة الدكتور الاسد على اجراء انقلاب داخلي سلس يطيح بأولئك الذين تلطخت ايديهم بالدماء وتمنعنا سياستنا وقوانيننا من التعامل معهم». وتساعده ايضاً على تغيير اسم حزب البعث غير المقبول اميركيا وبناء حزب جديد يقبل بالتعددية والديمقراطية ويقطع الطريق على المتشددين الاصوليين من استغلال حالة عدم الاستقرار للوثوب الى السلطة. كما ان الديمقراطية الداخلية هي الاساس لبناء علاقات جيدة مع الجيران وحل مشكلة الجولان السورية ومزارع شبعا, حيث اننا لا ننصح اسرائيل بعقد اي معاهدة سلام من الآن فصاعداً إلا مع انظمة ديمقراطية منتخبة من شعوبها».

المجال إذاً لا يزال مفتوحا لحوار اميركي ­ سوري جديد قد يثمر على مراحل, اذا صفت النيات, والمجال اياه مفتوح على تقاربات سورية ­ ايرانية في العراق كما في لبنان, في اعقاب زيارة الأسد الاخيرة لطهران. وقيام جبهة سورية ­ ايرانية واضحة المعالم, تمتد من جنوب العراق حتى جنوب لبنان لا يزال وارداً, بالرغم من ان ايصال الاسلحة الايرانية الى «حزب الله» لم يعد مسألة سهلة بعد الانسحاب السوري من لبنان.

الهدف الثاني

«الهدف الثاني» في المفكرة الاميركية هو ايران, وهذه الفرضية لا تفاجئ احداً. قبل اندلاع حرب العراق كانت تقارير روسية واخرى اوروبية قد اكدت ان اسلحة الدمار الشامل مجرد ذريعة لشن هذه الحرب, وان واشنطن تسعى الى الهيمنة على منابع وممرات النفط العالمية, في اطار استراتيجية واضحة استهدفت افغانستان بالأمس وتستهدف ايران غداً. ليونيد شيبارشين المسؤول السابق في الاستخبارات السوفياتية €كي جي بي€ قال يومذاك إن واشنطن بدأت, من خلال عملية تشهيرية واسعة, تمهد لضربة عسكرية توجهها الى ايران, بالرغم من ان التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة النووية كانت تؤكد ان البرنامج الايراني الالكترو ­ نووي لا يهدد أحداً. كانت هناك نية لتجميع كمّ كاف من الاتهامات الملفقة ضد طهران, في محاولة لتصوير النظام الايراني وكأنه نظام شيطاني ليسهل ضربه.

يضيف شيبارشين: ان ايران بلد كبير واكبر مساحة من العراق, وعمليات عسكرية ضده من شأنها ان تعقد الاوضاع بشكل كبير في جنوب روسيا. واي حرب ضد ايران هي حرب نفطية, لأن النقص في احتياطيات البترول يتزايد, وربما اندلعت ازمة نفطية كبيرة في العام 2033. والشركات الاميركية التي تقيم تعاملاتها على اساس الدراسات الاستراتيجية, راغبة في ترويض ايران, لأنها بذلك تكون قد بسطت سيطرتها على اكبر احتياطات النفط العالمية.

سبب آخر, الى جانب النفط, يدفع واشنطن الى ضرب ايران, انه مشروع القنبلة النووية الايرانية ولروسيا فيها حصة كبيرة, لأن التحالف الروسي ­ الايراني هو الرد الاستراتيجي على التحالف الاميركي ­ الاذربيجاني في آسيا الوسطى والقوقاز. والتخلي الروسي عن دعم المشروع الايراني ليس وارداً افي المدى المنظور, لأنه يعني إسقاط مكاسب استراتيجية تجمعت مع طهران خلال السنوات الـ 15 الاخيرة, بعدما ابتعدت ايران الخمينية بطواعية عن منافسة روسيا في القوقاز, وأعلنت ان الشيشان جزء من الجسد الروسي وليس اكثر من مشكلة داخلية, وهو ما اعتبره أحد الاكاديميين الروس «براغماتية مدهشة» من جانب دولة تضع نصرة القضايا الاسلامية في رأس اولوياتها. هنا ينبغي ألا يفوتنا ان الاحداث التي يمكن ان تتكرر في روسيا البيضاء, حولت المناطق المجاورة لروسيا الى حدود ساخنة, والوزن الذي تمثله ايران في أمن روسيا الاستراتيجي صار اكبر من اي وقت مضى, لأنها متنفس لا غنى عنه في الوقت الحاضر لوقف عملية تآكل روسيا الجيوسياسية منذ حرب افغانستان, مع ما رافقها من تغلغل عسكري وسياسي اميركي في مناطق نفوذها السابقة.
ويقول عاطف معتمد عبد الحميد أحد الخبراء المصريين في الشؤون الروسية «ان المشروع الايراني النووي دخل مرحلة جديدة مع زيارة الرئيس الايراني €السابق€ محمد خاتمي لروسيا في آذار €مارس€ 2001. ومنذ الثورة الايرانية مثل السلاح السوفياتي, ومن بعده الروسي, اكبر مصدر للقوة الايرانية, وتحولت ايران الى اكبر زبون لهذا السلاح بعد الصين والهند. ولم تكن روسيا اول من ساعد ايران في برنامجها النووي, لأن التقنية الالمانية اول من وضع المداميك الاولى لهذا البرنامج منذ العام 1974, في مدينة بوشهر على الساحل الايراني, قبل ان تنشغل ايران بهمومها الداخلية ثم بالحرب مع العراق, وتجمد المشروع الذي أنفقت عليه اكثر من خمسة مليارات دولار».

بعد هزيمة العراق الاولى في «عاصفة الصحراء» سمحت الظروف الاقليمية لايران بأن تستعيد العمل في مفاعلها النووي بشكل جاد, اعتباراً من العام 1995, بمساعدة روسية هذه المرة. والخطط الروسية تقوم على استغلال المفاعل في الاغراض المدنية السلمية بطاقة الف ميغاوات, يمكن رفعها الى ستة آلاف ميغاوات عند انجاز المراحل المتبقية في العام 2020. لكن الخبراء الاميركيين والاوروبيين يعتقدون ان التحرك الروسي في المسألة الايرانية يتم وفق مناورة واعية لاستهلاك الوقت, في انتظار ان تتغير المعادلات الدولية, وان موسكو تتحرك في مساحة الاستخدامات السلمية وتترك مرحلة التحول الى الاستخدامات العسكرية لوسطاء آخرين او خبراء ايرانيين محليين عندما يتقدم المشروع نحو نهاياته, وربما تجرأت مع الوقت على إكمال المسيرة التي بدأتها مع ايران.

واصرار روسيا وايران على استكمال التعاون النووي يواجه اعتراضات اميركية ­ اوروبية, واخرى اميركية ­ اسرائيلية, وعشرات المقالات التي نشرت في صحف الخليج أدخلت دول «مجلس التعاون» على خط الاعتراض. وقد تجرأ أحد الزملاء السعوديين على التأكيد بأن المفاعل النووي الايراني لا يشكل خطراً على اسرائيل, وانما على الدول الاسلامية المجاورة, ومما قاله «إنهم يخصبون اليورانيوم لبناء سلاح نووي هدفه باكستان والسعودية وعمان والعراق وافغانستان وتركمنستان وأذربيجان. وقد لا تكون الصورة هنا مختلفة عما سماه محمد حسنين هيكل بعد «عاصفة الصحراء» الثانية بـ «ثنائية التخويف» والمتاجرة بالخوف, تلك الثنائية التي لعب فيها عراق صدام حسين امام ايران دور حارس البيت الذي يحميه من اللصوص.
وفي اقتناع المراقبين المحليين والدوليين ان الولايات المتحدة, اذا هي شرعت في ضرب المفاعل الايراني, او أوكلت الامر الى اسرائيل, فانها مضطرة لأن تبقى في الخليج زمناً قد يطول, لحماية هذا الخليج من الخطر الذي يتمثل في صواريخ «شهاب» الايرانية القادرة على حمل رؤوس نووية, وعلى الوصول الى اي نقطة من الخليج العربي. وهذا يعني ان الخليج, سوف يظل أسير اللعبة القائمة على «ثنائية التخويف» العراقي ­ الايراني, ولو تحرر العراق من صدام, لأن الاميركيين سوف يجدون دائماً اسباباً وتبريرات كافية للابقاء على قواعدهم العسكرية في قلب المنطقة النفطية. وسوف يظل الرأي العام العربي حائراً بين قنبلة ايران «الاسلامية», التي يفترض ان تردع اسرائيل, وقنبلة ايران «الشيعية» التي تحمل القلق الى الانظمة المجاورة, ولن تتوقف الاجتهادات الروسية القائلة بأن موسكو حين تقدم التقنية النووية لايران الاسلامية, وتساهم في نشوء قوة نووية اسلامية على حدودها الجنوبية, ترتكب «حماقة تاريخية», لأن ايران تقع على خطوط التماس مع منطقتين تعتبران الأكثر اشتعالاً وتهديداً للأمن الروسي, في القوقاز وآسيا الوسطى. وقد يتحدث خبراء العقود المقبلة عن «حرب خليج ثانية وثالثة ورابعة» بين العرب وايران, في الوقت الذي تكون اسرائيل قد دخلت مرحلة تعايش مع جيرانها, سواء على خط الطوق او في الشمال الافريقي, او على ضفاف الخليج الذي لم يتفق بعد على تسميته بين العرب والفرس.

وفي انتظار ان تكتسب هذه الاحتمالات مضموناً واقعياً تنشغل اسرائيل بما تسميه «الخطر الايراني» كما تراه, ويتبارى السياسيون الاسرائيليون وجنرالات الجيش والنخب العسكرية وكذلك مؤسسات الابحاث والدراسات في تقييم ما يعتبرونه مكامن الخطر في البرنامج الايراني. ابرز التصريحات التي ستستوقف في هذا المجال تأكيدات مائير داغان رئيس «الموساد» بأن التهديد الايراني هو «الخطر الأكبر على اسرائيل منذ نشوئها», وقد تبنى وزير الدفاع الاسرائيلي شاؤول موفاز هذا الطرح عندما دعا الى «تدمير القوة النووية الايرانية من دون المس بالمدنيين الايرانيين». وبالرغم من اقتناع اسرائيل بأن «الاعتبارات التي تحكم البرنامج الايراني ترتبط بمصالحها الخليجية وموقعها في الخليج العربي, قبل اي شيء آخر», بمعزل عن الخطاب الايراني المعادي للدولة العبرية, فانها لا تخفي توافقها مع الادارة الاميركية على ضرورة منع ايران من التقدم في برنامجها النووي, بالوسائل الدبلوماسية المتاحة. والاميركيون يخشون ان يؤثر اي عمل عسكري اسرائيلي ضد ايران, الى تعزيز دور الاسلاميين المتشددين على المستوى الاقليمي, وهم يميلون الى رفع الملف النووي الايراني الى مجلس الأمن الدولي, كي تتم معالجته بالتفاهم مع الشركاء الاطلسيين.

في هذا السياق يكتسب وصول محمود احمدي نجاد الى الرئاسة الايرانية اهمية خاصة لأن الخط السياسي الذي ينتهجه يعكس توجهاً اصولياً داخلياً في التعامل مع المفاوضين الاوروبيين. فالرئيس الايراني الجديد احمدي النسب او الاصل, يؤمن بعولمة الاسلام وحتمية قيام «الحكومة العالمية الاسلامية», وبضرورة توجيه الثورة الايرانية نحو العالمية عبر ايجاد مجتمع اسلامي نموذجي متقدم, وهو يؤكد على جدارة الشعب الايراني في قيادة هذا العمل العظيم. والاصولية في رأس الثوابت عند نجاد وهو يعتبرها «عين الاصلاح» الذي يبدأ باصلاح الحكومة. والحكومة لا تقتصر على مجلس الوزراء لأنها بالمعنى الذي اراده لها الخميني, حكومة اسلامية يشكل فيها رئيس الجمهورية الشخصية الثانية بعد المرشد الاعلى.

وبالرغم من ان نجاد يعرض نوعاً جديداً من الادارة, فانه يعتبر من المتأثرين بمدرسة محمد علي رجائي رئيس الجمهورية الاسبق الذي اغتالته منظمة «مجاهدي خلق» في عملية تفجير مقر رئاسة الوزراء في طهران بتاريخ 30/8/1981, وهو لا يخفي اعجابه به إذ يقول «ان حربنا الحقيقية لم تبدأ بعد, حتى اذا فرغت ذخيرتنا فسوف ندافع عن ارضنا وثورتنا بأظافرنا وأسناننا».

وعلى صعيد السياسة الخارجية, وبالرغم من انه يؤكد بين الحين والآخر, ضرورة ان تكون لايران علاقات طيبة مع جميع دول العالم, بما فيها الولايات المتحدة, فان نجاد يرى ان التعامل مع واشنطن يفترض ان يتم على اساس المبادئ والمصالح والاهداف القومية, مع تغيير اساليب العمل وفق مستلزمات الظروف. وهو يؤمن بأن مبدأ العزة والحكمة والمصلحة ينبغي ان يكون اساس السياسة الخارجية للبلاد, ومن الضروري دعم العلاقات مع كل الدول التي تعترف بالحقوق الطبيعية والقانونية لايران, ولا تتبع سياسة العدوان والتسلط عليها, واقامة علاقات خاصة مع دول الجوار, وفي هذا السياق يقول بأن حوار ايران مع العالم ينبغي ان يكون على اساس قواعد منطقية واصولية, والعالم ليس دول الغرب دون سواها, وهناك دول الشرق في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. اما إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة فقرار ايراني مرتبط بمصالح ايران وحقوقها, وتبقى اسرائيل الدولة الوحيدة التي لا يمكن التعامل معها بكل المقاييس.

وفي مقابل دعوة الولايات المتحدة الى إقامة «شرق اوسط موسع», يدعم نجاد الدعوة الى اقامة «شرق اوسط اسلامي» من منطلق عقائدي, وهو مقتنع بقوة ان ايران تزداد مناعة بوجودها ضمن تكتل اسلامي, وهو ينوي بالتالي استكمال ما بدأه خاتمي من علاقات مع دول الخليج والدول العربية والاسلامية, وتطوير منظمة المؤتمر الاسلامي, مع الاستعداد الكامل للتعاون مع مصر وحل القضايا العالقة بين البلدين.

اما البرنامج النووي الايراني, وهو الملف الشائك على مستوى السياسة الخارجية, فان نجاد يؤمن بضرورة استمراره من دون توقف, والسعي الى الحصول على تقنية نووية متقدمة بكل الوسائل المتاحة مع الاستمرار في تخصيب اليورانيوم في الداخل.

بهذا المعنى يَعبُر نجاد بالثورة الخمينية الى «الجمهورية الاسلامية الثالثة», اذا اعتبرنا ان مرحلة محمد خاتمي وقبلها الهاشمي رفسنجاني كانتا «استراحة» مؤقتة في بناء الدولة. وابن الحداد الايراني الذي صار رئيساً يعرف ان رأسه مطلوب من جانب الولايات المتحدة التي لن تمنحه تأشيرة مرور الى اجتماعات الدورة العادية للأمم المتحدة في نيويورك, وهي تتهمه بالمشاركة في احتجاز رهائن السفارة الاميركية في طهران, وهي الحادثة التي قطعت العلاقات الاميركية ­ الايرانية وليس ما يدل على ان هذه العلاقات مرشحة للاستئناف في وقت قريب.

وينفي المسؤولون الايرانيون ان يكون احمدي نجاد قد شارك في عملية احتجاز الرهائن في العام 1979, بالرغم من انهم يعترفون بأنه شارك في تأسيس «الاتحاد الاسلامي لطلبة الجامعات» الذي استولى على السفارة لمدة 444 يوماً حاولت قوات «المارينز» خلالها فك الحصار عن المحتجزين في عملية جوية انتهت الى فشل كارثي. وما يتفق عليه الايرانيون جميعاً بعد انتصار نجاد هو ان فقراء الجمهورية الاسلامية قالوا كلمتهم, وان عودة المحافظين الى الامساك بزمام الامور سوف تحدث تأثيراتها المرتقبة على مستوى الضوابط الاجتماعية الداخلية, واصرار ايران على تطوير برنامجها النووي. وتصريحات الرئيس الايراني الموجهة الى الاميركيين تنبئ بما سيكون عليه برنامج عمله خلال ولايته, وبما يمكن ان تكون عليه ايران الثورة من عزلة عن الغرب ومخاوف متجددة من طموحاتها النووية.

في هذا السياق تطل سوريا كحليف قوي وصديق قديم يسعى الى تخفيف الضغط الاميركي والى تعزيز قدرته على الصمود, في الوقت الذي تعود ايران الى المربع الاول وحكم الرأس الواحد, في الوقت الذي يسجل التيار الاصلاحي نهايته الدراماتيكية.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)