في «النقاش» الذي يدور (؟) اليوم بين اللبنانيين، في ما خص «العملاء»/ «اللاجئين»، تنتصب نظريتان ضمنيتان في قراءة الحرب اللبنانية وسبل انهائها.

ومفاد احدى النظريتين، وهي التي يقول بها «حزب الله» ومؤيدوه، ان الحرب ابتدأت في 1982 رداً على اجتياح اسرائيلي تعاون معه «العملاء» وتصدت له «المقاومة». وعيب التحليل هذا، اذا ما وضعنا غرضياته جانباً، انه يقلص صراعاً تاريخياً الى احدى حقبه، ويحصره في فصله ما قبل الأخير. ذاك ان الخروج من الحرب الأهلية ومناخها يستدعي العودة الى جذورها، خصوصاً ان الاجتياح الاسرائيلي ومقاومته جاءا يتوّجان تلك الحرب ويكثّفان مسائلها.

لذلك لا مناص من الرجوع، حسب النظرية الأخرى، الى الانقسام اللبناني المعلن منذ أواخر الستينات، والذي أثار مواجهتين عسكريتين كبريين أواخر 1969 وأواسط 1973 قبل أن تنفجر المواجهة المفتوحة في 1975.

والحال ان أحد بنود النزاع، بل بنده الأبرز، كان الموقف من المشاركة في القتال ضد اسرائيل. فقد رأى بعض اللبنانيين ان لبلدهم في الصراع مع الدولة العبرية أدواراً سياسية واعلامية، فضلاً عن تقديم نموذج ديموقراطي في المنطقة لا يربط الوطن، على ما تفعل اسرائيل، بدين بعينه. أما الانخراط في الحرب فاستبعده هذا البعض لأن «قوة لبنان» - أي حصوله على الضمانات الدولية والدعم العالمي - «كامنة في ضعفه». لكن ضعفه الفعلي انما هو زجه جيشاً محدود الامكانات في مواجهة أقوى جيوش الشرق الأوسط. ولئن كانت العسكرية الاسرائيلية قد تغلبت، عام 1967، على مصر وسورية والاردن في ستة أيام، فقد نجح لبنان، ما بين 1948 و1966، في الحفاظ على حدوده وتجنيب نفسه أذى العسكرية الهائجة في الجوار. ولم يكن سبب النجاح ذاك عدد الصواريخ والطائرات، بل سياسة مرنة وذكية جمعت بين الهدنة العسكرية الضامنة أمن الحدود والمقاطعة الاقتصادية وعدم الاعتراف.

وهي نظرية أعرض نطاقاً وأعمق في نظرها الى المشكلة اللبنانية، فيما تنحصر النظرية الأخرى في ثنائية «المقاومة» و»العملاء» على نحو تبسيطي ومجتزأ وتقني أو حزبي. وبهذا يفوتها ادراك حلقة الارتباط الوثيقة بين الانقسام اللبناني وبين شكله الجنوبي المحدد والموسوم بالدور الاسرائيلي: اجتياحاً صغيراً في 1978 واجتياحاً شاملاً في 1982.

وبالمعنى هذا فإن ما شهدته السنوات الماضية من غلبة لنظرية المقاومة على منافستها لم يقتصر على الجنوب، ولا على طرفي «حزب الله» و»العملاء». ذاك انه أتى جزءاً لا يتجزأ من انقلاب على الوظائف اللبنانية المعهودة ما بين 1926 و1975، وعلى الموقع الاقليمي الذي رسم لبنان وسطاً بين الأحلاف العربية، كما بين العرب والغرب.

والانقلاب هذا لم يكن هادئاً ولا وديعاً. فقد أطاح، في ما أطاح، مؤسسات وعلاقات، وقمع أفكاراً، وتأدّى عنه موت كثير وهجرات عريضة وتردٍ في حريات البلد واقتصاده وتعليمه وأدواره الخدمية عموماً. ويُستحسن، اليوم، ألا يفكر خصوم «حزب الله» والقوى التي تحالفه في انقلاب مضاد من الطينة نفسها، يرتب من الأكلاف ما يفوق إرجاع لبنان الى توازن أشبه بتركيبه وطبيعته. بيد ان «حزب الله» وحلفاءه يفترض بهم ألا يتصرفوا وكأن الانقلاب خالد الأثر نهائي الواقع، غير قابل للشك والتعديل، جاعلين من قضية «العملاء» حجتهم الرمزية والفعلية على هذا التشبت الانقلابي. فهناك في العالم قوى كثيرة وفاعلة تنتظر حصول «خطأ» من هذا النوع، وحجتها عدد من القرارات الدولية تتكاثر يوماً بيوم.

وعلى رغم الفوارق الكثيرة، نقع في لبنان على «الخطأ» نفسه الذي رأينا نتائجه في العراق، وقد نراه في سورية وايران: تشبث بعدم المراجعة، أو عدم الاصلاح، أو عدم التنازل، مما يستدعي تدخلاً دولياً يجعل السيء على الجميع أسوأ.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)