سيد القمني كاتب مصري معروف، له مقالة اسبوعية في مجلة «روز اليوسف» ومؤلفات بحثية عديدة في الفكر والتاريخ الاسلاميَين. أشهر مؤلفاته «رب هذا الزمان» (1997)، الذي صادره مجمع بحوث الازهر حينها وأخضع كاتبه لإستجواب في نيابة أمن الدولة العليا، حول معاني «الارتداد» المتضمَّنة فيه. ومن يقرأ محضر هذا التحقيق ير فيه معركة قاسية خاضها القمني ضد اسئلة مفتشي الضمائر وطغاة الارواح، معركة «سؤال - جواب»، تدفعك نحو مئة سؤال وسؤال...

وفي الآونة الاخيرة، تصاعدت لهجة مقالات القمني ضد الارهاب الديني والاسلام السياسي. وكان اكثر هذه المقالات حدّة ذاك الذي كتبه على اثر تفجيرات طابا (تشرين الأول/ اكتوبر 2004). وكان عنوانه: «انها مصرنا يا كلاب جهنم!»، يهاجم فيه شيوخ ومدنيي الاسلام السياسي، ويكتب: «أم نحن ولاية ضمن امة لها خليفة متنكّر في صورة القرضاوي او في شكل هويدي تتدخل في شؤون كل دولة يعيش فيها مسلم بالكراهية والفساد والدمار، ويؤكد وجوده كسلطة لأمة خفية نحن ضمنها...».

بعد هذا المقال، تلقى القمني العديد من التهديدات. الى ان اتى التهديد الاخير بإسم «ابو جهاد القعقاع» من «تنظيم الجهاد المصري»، يطالبه فيه بالعودة عن افكاره وإلا تعرّض للقتل... فقد أهدر دمه. على الأثر كتبَ سيد القمني رسالة بعثها الى الاعلام والى مجلته «روز اليوسف»، يعلن فيها توبته عن افكاره السابقة وعزمه على إعتزال الكتابة, صونا لحياته وحياة عياله.

اذن الذي حصل ان كاتباً وباحثاً مصرياً معروفاً، له انتاج اكاديمي واعلامي مرموق، يتعرّض للتهديد بالموت بسبب أفكاره، فيقرر الانسحاب والاعتزال. (بعد إعتزال الفنانات، جاء وقت المثقف!). ماذا تكون ردة الفعل؟ بحجم الخطر تماماً:

«روز اليوسف» نفسها رفضت نشر الرسالة، وأعقبت ذلك بملف عن سيد القمني غالبه تشهير بالرجل وتكذيب ملْحاح لتعرّضه لأي تهديد.

«الوسط» السياسي - الثقافي المعارض، المليء الآن بالجلْبة والضجيج، كان صمته شبه تام. فقط بعض الاستثنآءت الفاترة والضئيلة في عددها ومغزاها. فالـ «وسط» هذا مشغول هذه الايام بمعركته «المركزية»، معركة الرئاسة، وضعَ عقله في مربعها وحده، ولا يتصور انه يستطيع الخروج منه من دون تشتّت قواه وجهوده... انها قلة الاعتياد على تعدد النظر!

لكن خارج هذا المربع، او بالتداخل معه احياناً، خرجت بسرعة البرق اقلام مصرية وعربية، جازمة في مواقفها، تقول بأن القمني لم يتلق تهديدات (كيف عرفوا!)... وانه اخترعها، وانه يفعل ذلك من أجل الشهرة. هكذا من دون إسناد ولا دليل ولا سؤال... ولو لرفع العتب! فقط يقين على يقين!

ومن بين هذا الصنف من «المفسرين» لقضية القمني، يمكنكَ ان تجد «ليبراليين»، أي غير اسلاميين، وغير قوميين. الا ان الغالبية من اصحاب نظرية «الفبْركة» من ذوي الاتجاه الديني. واحدٌ من بين هذه الغالبية، بعدما نفى تعرّض القمني لتهديد من «تنظيم الجهاد المصري»، مفنّدا التنظيمات «الجهادية» كلها، رجّح أن تكون هذه التهديدات من «فعل بعض الشباب الصغير الذي استفزّه ما يقدمه القمني من فكر فيه عدوان واضح على ثوابت الأمة وعقيدتها». أي انه في نفس الوقت الذي ينكر على القمني تعرضه لتهديدات بالقتل، يقوم هو بتهديده... عبر تحريض «الطائشين» من «الصغار» على «خروجه على عقيدة الأمة». وفي مناخ كهذا! ومن نفس التيار الديني تخلص واحدة هي من اشهر دعاته الى نفي مماثل للتهديدات، وتختم: «من يكون هذا القمني حتى يُقتل؟ (مرتين) او يكون هناك من يتربص به... من هو؟»: فإما نفي للآخر، نفي لهويته العامة ككاتب ومثقف، أو تحقير لشخصه. انهما إحتمالان ينمّان عن ضآلة الاخلاق السياسية...على العموم، هذه المواقف الاسلامية مكرّرة، ولايجب توقّع افضل منها... وإلا فثمة إحباط.

لكن المثير جدا للدهشة هو الموقف الذي اتخذه متشدّد آخر، ولكن من الضفة المواجهة، ضفة الليبراليين. كاتب مواظب على صحيفة الكترونية هو حامل شعلى «الليبراليين الجدد»، والمبادر الاول لصياغة «حُكم» اهل البيت الليبرالي على المتخاذل الجبان... القمني الذي انسحب من المعركة مع «الاصولية»، مفوّتا فرصة ذهبية للاستشهاد في سبيل القضية الليبرالية. من عنوان مقاله تفهم صفته «القيادية»: «سيد القمني... بئس المفكر الجبان انت!». عنوان لجنرال يؤنّب جنديه الهارب من الخدمة، وعقوبته الاعدام... في المقال الفكري الحربي هذا، يأخذ الكاتب على «عقدة الذنب الدينية لدى المصريين» التي دفعت العديد من كبارهم الى التراجع عن افكارهم تحت التهديد. يضع نفسه في قائمة الشجعان، فيروي سراً يكشفه «لأول مرة»: بطولاته ضد الارهاب الديني في مدينة دنفر الاميركية حيث يبدو انه يعيش، وحيث «اصبح للبوليس الاميركي سجل كامل بهذه القضية»...!

يرسم قائد سرايا الفكرالليبرالي إستراتيجيته: «كلنا يا سيد (القمني) نطلب الشهادة في سبيل فكر الحرية الآن». ينسّب نفسه الى الشهداء الاوائل من ابي ذر الغفاري وابن المقفع والجعد بن درهم... واذا عزّوا، فإلى شهداء النهضة الاوروبية التي يرى اننا نعيش ما يشبه بداياتها الآن.

قائد نغمة الاستشهاد من اجل الفكر وجوقته من المنشدين هم على نفس درجة يقين خصومهم الاسلاميين. على نفس الدرجة من التسرّع وإطلاق الاحكام. كأن موقف الاثنين جاهز، تحت الإبط: كأنه جواب عن سؤال تلفزيوني لا مجال فيه للشك ولا للتفكير. عند الأولين, الليبراليين، سيد القمني جبان علناً، ويا ليته مات! ليته لم يذعن! لولا جبنه وتخاذله كان وهبَ الليبرالية حساباً في رصيد شهدائها الشحيح. وعند الآخرين، الاسلاميين: القمني كذاب علنا «فبْركَ» قصته، لا ليس هناك تهديد، ومع ذلك فهو يستاهل الموت او التجاهل التام... او إنكار هويته العامة.

لكن لماذا؟ لماذا اتسمت ردود الفعل المصرية والعربية على قضية القمني بهذه الدرجة من السلبية، من الاهمال والتجاهل والانكار... لا بل الحطّ من قيمة الرجل؟

القمني ليس «مركزياً»، ليس «اساسياً». ولا هو موجود في اي «حزب»، أو «تيار»، أو «جو» أو «وسط». والقمني لا ينتمي الى أية شلّة، الى أي دهليز من دهاليس الثقافة أو الاعلام أو «المؤسسات». هو ليس وجهاً أُلبس «دوراً»، رسمياً او معارضاً. بل هو الذي اخترع دوره. هو مثقف من غير سلطة. ولو ضئيلة ولو رمزية. (نعم! ما زال هناك في العالم العربي مثقفون من غير سلطة... ينتجون ويعيشون).

والأرجح ان طاقاته كلها هي للعيش والقراءة والكتابة والملاحظة. ليس من «الاستبلشمنت». انه كاتب هامشي خائف على عياله وعلى نفسه. وخوفه لا مواربة فيه. لديه شجاعة البوح عن خوفه، أما الذين ينفون عنه الخطر ويحطّمون معنوياته، فهؤلاء هم الخائفون، واكثر منه: يخافون من البوح بخوفهم. «إما رأيك او حياتك»: هذه هي معادلتهم اليوم. واخطر هذه الأراء تتعلق بخوفهم...

ملاحظة مهمة: إستثناء لامع وسط هذا القحط: صلاح عيسى, رئيس تحرير اسبوعية «القاهرة». وحده كتبَ مفندا اوجه القضية بعقل راجح وعصَب متين، وخصّص لقضية القمني ملفا أرشيفيا نادراً.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)