الحدود الفاصلة ما بين الحاضر والمستقبل تتلون بأشكال الزيف، وتتراكم مع جدل سياسي ربما يقودنا نحو اللون الرمادي ... فهل "الوسطية" هي ما سيشكل أفق الغد؟!!

ومع النقاش الدائر حول مسألة الأحزاب الدينية فإن الذاكرة تعود ألف عام للوراء .. وربما أقل لنغوص في مسألة الوسطية، فنحن أمة وسطى رغم أننا خير أمة أخرجت للناس ... ونحن خلاصة التاريخ، رغم خروجنا من التاريخ .. ونحن التطرف رغم ان الوسطية حُملت بمفاهيم الاعتدال. لكن مسألة الوسطية تبقى دون حدود تميزها، لأنها الحالة الاستثنائية على الأقل إذا ما حاولنا وضعها وفق مقياس "بيولوجي". فلا وسطية في الجنس ... ولا وسطية في الفيزياء والرياضيات، لأن سمة العلم التحديد في التعريفات. ولكننا أوجدنا الوسطية رغما عن أنف الجميع.

"الوسطية" ليس حالة تقع بين طرفي نقيض، لأن وجودها بذاتها سيميزها عن بقية الأمور وتصبح شكلا متفردا لا علاقة له بطرفي المعادلة التي افترضناها. لكن وسط صراع الأفكار في بداية القرن الماضي، آثرنا الهروب من عمليات التحول الثقافي باتجاه ابتداع الوسطية، وبالفعل أنتجنا حالة فريدة، لا علاقة لها بالتراث أو الحداثة، لكنها تحمل كل لون التراث، وكافة تناقضات الحداثة.

ابتداع "الوسطية" يتيح للجميع التمسك بهذا المبدأ لطرح نفسه كمجال قادر على العمل، لكنه في نفسح الوقت قادر على الانزياح نحو الماضي بحجة الوسطية، وعدم اقتحام الحداثة بحجة الوقوف على الحد: ما بين الجنة والنار .. أو بين الكفر والإلحاد ...

هذه الصورة الرمادية تميز اليوم موقفنا من المستقبل الذي لا نراه سوى اختلاط الأبيض والأسود ليعطي وسطية الرمادي ... ولا نراه سوى في تجديد التيارات التراثية لتصبح ليبرالية لكن حاميتها ليست للشعب .. ولا نراه إلا في اللجوء إلى التيار الديني لنضمن الشارع الذي هو وسطي بطبعه.

أكذوبة "الوسطية" هي مثال واضح للوقوف على "الأعراف" بين الجنة والنار ... ولكن المصير معروف لأن هذا الوقوف إقرار بالميل نحو جهة معينة ... فالواقفون على الأعراف هم من تساوت حسناتهم وسيئاتهم ... فهل يصبح هذا مثال لواقع سياسي واجتماعي مكشوف.... وسطيتنا اليوم هي هذا الانتظار على أكذوبة التساوي في الموقف دون انحياز ... أي دون الطبيعة البشرية!!!!!