ربما استطاع بضع مئات آخرين من المتسللين خداع الجيش الإسرائيلي والدخول الى المستوطنات. المهم هو تعزيز الاعتقاد بأن الانسحاب لن يتم. في اللحظة نفسها دعا المحرّضون من ساحة رابين في الأسبوع الماضي الى مواصلة الانتفاضة ضد المحتل الصهيوني الذي سيسلبهم أراضيهم وسيطردهم من بلدهم. أما جمهور المؤمنين عندهم فقد قالوا بأن الله لن يتخلى عن أبنائه ويحوّلهم الى لاجئين في موطنهم.

يبدو أحياناً أن هذه الميزة ـ ميزة التحريض والكذب ـ تميّز السياسيين الناطقين باسم الدين تحديداً. وهي ليست ميزة للمؤمنين الحقيقيين والمثقفين وإنما خصلة من خصال أولئك الذين يقتحمون الجدران بفضل السطوة التي أُعطيت لهم.

اليوم هو آخر يوم لفك الارتباط الطوعي، ومنذ الآن ستبدأ عملية الصدام. جندي يهودي في مواجهة مستوطن يهودي، ودولة في مواجهة المتمردين عليها. غداً سيبدأ تقويم جديد في تاريخ الصهيونية والدين السياسي. الصهيونية ستعود الى دائرة العقلانية والوطن الممكن الذي يحظى بالاعتراف والقابل للحماية، أما الدين السياسي فسيتخلص من حلم القوة العتيدة الخلاصية وبعض الغرور. الصهيونية والدين السياسي ما زالا أمام مرحلة صعبة وطويلة لتجسيد العلاقات فيما بينهما وتدارس ثمن المادة اللاصقة التي ألصقت الدين بالدولة ونتائج العصيان المدني الذي أعلنه الدين على العربة التي تحمله.

من الغد سيفقد سكان غزة اليهود لقب المستوطنين وسيصبحون غزاة أجانب وعصاة متمردون بالأساس، من دون أوسمة ومراتب حيث سيعزلون بالقوة عن الأماكن التي لم يكن يجدر بهم أن يكونوا فيها منذ البداية. هذه المستوطنات ليست مثل مدن الأشباح التي اختفت لأن حقل النفط الموجود فيها قد جفّ. هم يخرجون لأن الامبراطورية الإسرائيلية لم تعد قادرة على الاستمرار كما كانت.

قائد المنطقة الجنوبية، دان هرئيل، أجاد التعبير عن ذلك إذ قال أنه يطلب من المستوطنين أن ينهضوا ويغادروا ببساطة شديدة بعد أن لعب هو وجنوده دور الدرع الواقي لهم طول أربع سنوات ونصف. دولة إسرائيل كانت درعهم لعقود عدة. وهي لم تقم بالغش في الامتحانات مثل كل الامبراطوريات قبلها وإنما اجتازت كل الدرب الذي قطعه قبلها البريطانيون والفرنسيون والهولنديون أو الاتحاد السوفياتي: الاحتلال والفلسفة والإيديولوجية ومن ثم الانسحاب. وفي كل واحدة من هذه الانسحابات الاستعمارية كان كهنة الفلسفة يقفون محذرين ومهاجمين عندما يرون أن ذريعة وجودهم ستنتزع منهم.
هؤلاء الكهنة كما فعلوا في الأسابيع الأخيرة، سيقفون من الغد على أبواب المستوطنات التي تحوّلت الى مدن مهجورة وسيحاولون منع دخول الدولة الى منطقتهم الحيوية بأجسادهم. هم سيحاولون تطبيق ما هددوا بالقيام به في الأشهر الأخيرة: فصل الدين عن الدولة والبرهنة على أن الدول ليست جديرة بهم، وأن هذه الدولة اللعينة لم تنجح في إخلائهم من منازلهم نحو الشتات الجديد إلا بقوة الذراع، ذلك لأنه من الأسهل بكثير محاسبة الدولة على أن يحاسبوا المخلص الذي ضللهم وخيّب آمالهم.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)