تتنافس أطروحتان على تحديد الجهة المؤهلة لإحداث التغيير في البلاد العربية: أطروحة تقول إن التغيير الحقيقي ينبع من الداخل، واخرى ترى أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج. سنسمي الأولى الأطروحة الداخلية، والثانية الأطروحة الخارجية. وفي أجواء النقاش العربي المتوترة والمشوشة في الوقت ذاته ينتقل المساجلون من الأحكام التحليلية إلى الأحكام المعيارية من دون إشكال. فمن يقرر أن التغيير يأتي من الخارج أو <<لا يأتي إلا من الخارج>> حسب صيغة لجهاد الزين (من محاضرة له في منتدى الأتاسي في دمشق بعنوان <<علاقة الداخل والخارج في عملية التغيير الديمقراطي>>، صيف 2004) قد تأخذه الحماسة لهذا القرار الذي يفترض في الأصل أنه حكم تحليلي، فيشرع في تمجيد <<الخارج>> وهجاء الداخل ورميه بعقم جوهري وعجز عن إصلاح الذات. وبالمثل يمزج القائلون بأفضلية التغيير الداخلي بين حكمهم المعياري هذا وبين تأكيد قدرة الداخل على التغيير وخصوبته، إن لم نقل انتفاء حاجته للتغيير أصلا.

داخليون وخارجيون

ولكل من الطرفين نظريته عن أسباب حال الاستبداد والجمود التي تخنق المجتمعات العربية، وتسوغ مطالب التغيير فيها. يميل <<الخارجيون>> بصورة نسقية إلى تفسير الاستعصاء العربي بأسباب داخلية، مع ميل غالب إلى اشتقاق أحوال العرب الراهنة من تاريخهم وثقافتهم ولغتهم والدين الإسلامي. فالأطروحة الخارجية ذات منزع ثقافوي غالب. بالمقابل يجنح الداخليون إلى تفسير التعثر العربي المستدام بعوامل خارجية: السيطرة الغربية، إسرائيل، الهيمنة الأميركية الحالية إلخ. والأطروحة الداخلية استراتيجية واقتصادية التناول غالباً. وفي الواقع يندر ما نجد تفسيراً داخلياً نقياً أو خارجياً صرفاً. لكن التركيز الغالب للخارجيين تغييرياً هو الداخل تفسيرياً، والتركيز الغالب للداخليين تغييرياً هو الخارج تفسيرياً.

برز هذا النقاش بعد 11 ايلول، وتلقى دفعة منشطة بعد احتلال العراق وإسقاط نظامه، حيث بدا أن الولايات المتحدة أضحت قوة تغييرية أو ثورية في العالم العربي أو <<الشرق الأوسط>>. وفي خلفيته يكمن شح الرؤى التغييرية بعد هزيمة الخيار الاشتراكي، والنصر الذي تحقق للديموقراطية الليبرالية كما هي مجسدة في الغرب حسب فوكوياما، الذي بنى على النصر هذا نظريته حول <<نهاية التاريخ>>. وتتمثل محرضات النقاش في سوريا في مزيج من إخفاق الإصلاحية الرسمية، ودوام ضعف المعارضة العلمانية، وخشية من الإسلاميين لدى بعض أوساط السوريين، مع ما أشرنا إليه من فاعلية تغييرية أميركية تمثلت في إسقاط النظام البعثي في العراق.
بسرعة، وبالتناسب مع انسداد آفاق التغيير، تحول النقاش حول هذه القضية إلى نقاش عقيدي، وانفرز معسكران متحاربان، وأنتج كل منهما داخله وخارجه. وكما هو الحال في كل نقاش عقيدي يبدو الخصم مصاباً بعاهة عقلية أو بقصور متأصل يمنعه من الفهم وإدراك الحقيقية التي ينفرد الطرف الآخر بمعرفتها. يجنح الداخليون، على العموم، إلى تخوين خصومهم الخارجيين أو تكفيرهم، فيما يميل الخارجيون إلى تسفيه الداخليين أو تجهيلهم. والتسفيه والتخوين سياجان لمعسكرين تتحدد هويتاهما تبادلياً، ما يمكننا من القول إن <<داخل>> كل من المعسكرين ثمرة فعل إقصاء وطرد نحو <<الخارج>>. لنحتفظ بهذه النتيجة الأولية لما يلي من تحليل: الداخل والخارج لا يسبقان التسييج والإقصاء بل هما ثمرتاه اللتان خرجتا من صلبه. هذا ينطبق على داخل وخارج معسكري الداخليين والخارجيين. وستسعى هذه المناقشة إلى إظهار تعقيد مفهومي الداخل والخارج، وأنهما في النقاش الحالي محض إيديولوجيتين، أو ركيزتان لإيديولوجيتين علاقتهما بدعاتهما أقوى من علاقتهما بالواقع. بعبارة اخرى، الداخل والخارج يعرفان مجموعتين إيديولوجيتين ويميزانهما عن بعضهما ويقترحان عليهما المواجهة المناسبة أو <<التناقض الرئيسي>> الذي يحددهما، أكثر مما يعرفان واقعاً.

يفيد أن نضيف أن الأطروحة الداخلية تتمفصل بصورة أفضل على كل من العقيدتين الإسلامية والقومية العربية مع تنويعات ماركسية تقليدية، فيما تعثر الاطروحة الخارجية على تمفصلها المفضل في العقيدة الليبرالية الجديدة وفي تنويعات ماركسية أشد تركيزاً على قضايا الحداثة والعلمانية.

دواخل وخوارج

ولغلبة الطابع الإيديولوجي على المجموعتين وعلى النقاش بينهما قلما يميز أصحاب الأطروحتين الداخلية والخارجية بين المعاني المتعددة والمتعارضة لكل من الخارج والداخل. يمنعهما المنهج السجالي (برهان غليون) الذي لا يضمن لهما انتصاراً (وهمياً) على الخصم إن لم يستسلما أمامه (المنهج) استسلاماً حقيقياً.
لا يحتفظ الخارج والداخل بالمعنى ذاته حين نتحول من الكلام عن الدولة إلى الثقافة إلى العلوم أو التكنولوجيا إلى الأمن أو الاقتصاد أو الشؤون العسكرية أو البيئة. وبينما لا معنى للحديث عن بيئة سورية منفصلة عن غيرها (السياسات البيئية أمر آخر) مثلا، فإن الجنسية لا تحمل على غير الدول المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وبينما قد نقبل، بل نتحمس، للوحدة الحضارية العالمية، فإن الدول القائمة، والأقوى قبل غيرها، لا تبني سياستها على ذلك القبول أو هذا التحمس. ويعرف الاقتصاديون ان قطاعاً إنتاجياً غير منافس في أحد البلدان يستوجب أشكالاً متنوعة من الحماية (العزل عن المنافسة الخارجية) ريثما يستكمل مؤهلاته التنافسية، فيما من الضروري لقطاع منافس أو يحوز أفضلية من نوع ما أن <<يخرج>> إلى العالم وينخرط في معمعان المنافسة والانفتاح على الخارج.
إلى ذلك، تختلف مدركات الداخل والخارج حسب البلدان والمراحل التاريخية. فلم يكن للعراق داخل منذ عام 1991 بالمعنى الذي نتحدث فيه عن داخل أميركي، وليس لفلسطين داخل يقارب الداخل الإسرائيلي من قريب أو بعيد. وليس لسوريا داخل ذاتي متفاعل يقارن مع الداخل الفرنسي أو حتى الهندي. وهو ما يعني في الحالات الثلاث أن تأثير ما ندعوه بإجمال شديد <<العوامل الخارجية>> كبير جداً على العراق وفلسطين وسوريا، فيما هو محدود بالمقابل على الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا والهند. ويعني ايضا أن الداخل والخارج علاقتان ونسبتان وعمليتان وليسا كائنين أو معطيين نهائيين. الهند التي يزداد دخل الفرد فيها ويرتفع معدل نمو اقتصادها وترتقى جامعاتها وتتمتع بحياة سياسية معقولة تحوز داخلا أوسع وأعمق من بلد مثل باكستان مثلا مهدد بالتحول إلى دولة فاشلة عام 2015 حسب ما تقوله جهات أميركية. البيت الهندي لا يزال فقيراً، لكن قطع الأثاث فيه تكثر، ويتجه إلى أن يكون سكناً مريحاً للهنود، ووطناً حديثاً.

وتفيد هذه الأمثلة في إبراز حقيقة أن هناك خوارج كثيرة غير متكافئة التاثير. فإسرائيل تحتكر التأثير على الداخل الفلسطيني بالغ الانكشاف والهشاشة (حالة حدية) فيما تأثير الخارج المصري، مثلا، محدود جداً. ومثل ذلك يصح على العراق قبل إسقاط نظام صدام: فتأثير <<الخارج>> الأميركي لم يكن يقارن بتأثير الخارجين الإيراني والسوري. وهو ما يعني أن أميركا، خلافاً لسوريا وإيران، كانت طرفاً عراقياً <<داخلياً>> ينتصب قبالة الطرف الآخر الذي هو نظام صدام حسين. وكان التاثير التركي محصوراً في مجال محدد (ضرب حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق) وخاضع للإذن الأميركي. أما بعد أن صارت أميركا في الداخل العراقي فقد أضحى تعبير <<التدخل الخارجي>> في الشؤون العراقية مدخراً لدول الجوار الأخرى.

وحين نتحدث عن الانكشاف الاستراتيجي أو الاقتصادي أو الغذائي العربي مثلا، فإننا نعني أن العرب معرضون بشدة لرياح التاثيرات الاستراتيجية أو الاقتصادية الخارجية. أي أن العرب كأمة دون داخل، أو بداخل ضعيف ومعروض على المستويات المشار إليها. وهو ليس أقل انطباقاً على دولهم كلاً على حدة.

بين الانكشاف التام المتمثل في الحالة الفلسطينية وبين درجات انكشاف أقل تقيم الدول العربية جميعاً. ثم إنه كان للعراق داخل أكثر تماسكاً وداخلية قبل عام 1991، وبالخصوص قبل عام 1980. ولسوريا اليوم داخل أكثر انكشافاً مما كان الحال أيام الحرب الباردة، حين كان الاتحاد السوفياتي عمقاً استراتيجياً، أي بمعنى ما رصيداً للقوة السورية وثقلاً داخلياً.

والخلاصة أن ثمة دواخل وخوراج، تختلف باختلاف البلدان ومراحل التاريخ وقطاعات النشاط البشري المقصودة، وأن هناك داخلاً أكثر وداخلاً أقل، وان هناك داخلاً ينمو ويتعضى ويتعمق وداخلاً ينحسر ويتفكك ويضحُل.

حضارة وسيطرة

على أن المقصود بالخارج في النقاش السوري والعربي الراهن حول التغيير هو الغرب حصراً، وأميركا أساساً، وليس أبداً تركيا أو إيران أو أفريقيا أو الصين أو الهند. وراء تضييق الخارج إلى الغرب عاملان: الأول هو أن الغرب لا يزال يحتل موقع مركز المبادرة التاريخية ومنبع التجديدات الحضارية والمعسكر الأقوى عالميا، الذي لا تحتجب <<معسكريته>> إلا خلف ضعف خصومه المحتملين بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار مبين له؛ الثاني هو أن الوعي العربي مسكون بالغرب إلى درجة مرضية. فلا نعرف شيئاً عن أفريقيا وأميركا اللاتينية والهند والصين وإيران، ولا نزورها ولا نقارن بينها وبين أوضاعنا، رغم أن معرفة تاريخها ونظمها السياسية وأوضاعها التنموية الراهنة قد تكون أفيد من معرفة الغرب، ورغم أن من شأنها أن تحررنا من الانشداد للغرب والدوران حوله، ورغم أن من شانها أن تخفف من بؤسنا وتضفي النسبية على مشكلاتنا ومصاعبنا الحالية التي تكتسب حالياً قيمة مطلقة لأنها تقارن، من دون وسائط، مع المعيار الغربي، الكامل تعريفاً. في هذه الحيثية، كان انهيار المعسكر الشرقي منبع عسر ثقافي، فوق تسببه في تدهور سياسي حاد في وزن العرب الدولي. فقد حذف احتمالاً تاريخياً وحضارياً كان يحد من <<امبريالية>> الاحتمال الديموقراطي الليبرالي الغربي الذي ارتفع إلى مستوى قدر، وكف عن كونه احتمالاً تاريخياً مكافئاً، من حيث المبدأ، لغيره. ولعل ثمة صلة بين وحدانية الغرب وبين إعادة تعريفه لنفسه على أرضية ثقافية ودينية. فخروجه من المنافسة أغناه عن تعريف نفسه بهوية عالمية، وأضعف حاجته إلى التأكيد على قيم كونية مشتركة. نريد من هذا أن الخارجيين لا يقلون وفاء و<<داخلية>> لنظام الوعي العربي الحديث الموسوس بالغرب والمنكفئ عن غيره.

قد نضيف إلى العاملين المذكورين عاملاً ثالثاً مكوناً من تفاعلهما، أعني الالتباس المستمر والتكويني للغرب كخارج جيوسياسي وخارج حضاري بالنسبة للعرب. التمييز بين المعنيين الجغرافي السياسي والمعنى الحضاري لكل من الداخل والخارج يغفله، رغم بداهته، السجال الراهن حول التغيير في العالم العربي. فالتفاعل العربي مع الخارج، بالمعنى الحضاري لكلمة خارج، أي الحضارة الغربية الحديثة، لم يكن إشكالياً منذ <<عصر النهضة>> بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الثانية. ما يعني أن الغرب الحضاري <<أدخل>> في المجال العربي، وإن لم يكن بصورة متسقة. هذا بينما كان الخارج بالمعنى الجيوسياسي إشكالياً على الدوام، وربما بالضبط لأن العلاقة معه غير تفاعلية في ظل نزعات الهيمنة الغربية بين عصر الامبريالية ومرحلة نزع الاستعمار في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم، مجدداً، منذ حرب الخليج الثانية عام 1991 حتى اليوم. هذا دون أن ننسى إسرائيل، وهي داخل البلاد العربية جيوسياسياً مع بقائها خارجها وضدها حضارياً.

ليس الخارجان هذان متطابقين، ونقل الحجج من أحد المجالين، الجيوسياسي والحضاري، خلسة إلى المجال الآخر هو مصدر معظم الالتباس في النقاش الحالي. فليس برهاناً على أن التغيير يأتي من الخارج إحصاء ما أخذناه من الغرب على مستويات التقنية والإدارة والثقافة لأن هذا الأخذ قلما كان إشكالياً، كما قلنا. صحيح أنه وجد على الدوام من يعترض على أي شكل من أشكال التفاعل مع الغرب الثقافي والعلمي والمدني، ما سميناه الخارج الحضاري، لكنه شكل على الدوام أقلية. القول إذاً على طريقة جهاد الزين <<إن الإصلاح في البلاد العربية ليس فقط لم يأت إلا من الخارج، بل لا يأتي إلا من الخارج>> أكثر تبسيطاً ونضالوية من أن يفي المسألة تعقيدها وتاريخيتها.

يتناسى الخارجيون أن من التمييزات المألوفة في الفكر القومي واليساري العربي التمييز بين الغرب الحضاري أو ما كان يسمى <<غرب العقلانية والعلم والديموقراطية والاشتراكية>>، والغرب الاستعماري المبرمج على التوسع والسيطرة والعنصرية، وان النخب العربية لطالما تحمست للأول ورفضت الثاني، مع ميل ثابت إلى الفصل بينهما بصورة مطلقة لمنح الانفتاح على الغرب الحضاري شرعية غير مشوبة. ويقترن هذا النسيان، على العموم، مع تصور المجتمعات العربية مستغرقة، كلاً وجميعاً، في أصولية متعصبة، عنيفة، عدائية للغرب، كلاً وجميعاً. ويجد الخارجيون المتطرفون هؤلاء في من قد نسميهم الداخليين المطلقين حلفاء غير منتظرين. فهؤلاء يجنحون إلى رفض الغرب بكل أشكاله وصوره، ويغرقونه في العدواة الشاملة، جاعلين منه فسطاط كفر واحداً متجانساً، على غرار ما عبر الشيخ أسامة بن لادن.

وبصورة نسقية يجنح الداخليون إلى رد الحاضر العربي والإسلامي إلى الماضي، الذي يفترض أنه أصيل أو أقل اختلاطاً وتلوثاً، فيما يجنح الخارجيون إلى رده إلى الخارج الذي يفترض أنه وحده مصدر التقدم والحداثة والفاعلية. وشرط إمكان الجنوحين معاً تفكك مركب الحاضر/ الداخل العربي المعاصر، أو الحداثة العربية، إلى داخل مفصول عن الخارج لا يتماسك دون الاستناد إلى الماضي، وحاضر معزول عن ماضيه لا يقوم دون سند من الخارج. أي لدينا إما داخل مطلق (ومغلق) سنده هو الماضي، أو حاضر مطلق (ومؤبد) لا سند له غير الخارج. وهو ما يشير إلى أن النقاش حول الداخل والخارج مؤشر خام على مدى تفكك بنى المجتمعات العربية وافتقارها إلى القدرة على التغيير الذاتي. يشير أيضا الى أن الداخلية والخارجية استقطاب جديد يستأنف، لكن على مستوى أفقر وأدنى، استقطاب حداثة/ أصالة الذي هيمن في عقد الثمانينيات وبعض التسعينيات من القرن العشرين.
على أن الأمر لا يرتد إلى محض التباس أو خلل في القراءة. بعض الخارجيين أكثر اهتماماً بالتغيير <<الحضاري>> (بالمعنى الهنتنغتوني الذي يرد الحضارة إلى الثقافة والثقافة إلى الدين) للمجتمعات العربية منهم بالتغيير نحو الديموقراطية. بمعنى آخر يضعون التغيير الديموقراطي في العالم العربي في سياق <<صراع الحضارات وإعادة هيكلة النظام العالمي>> (وهذا عنوان كتاب هنتنغتون الشهير)، وغير قليل منهم يشرطون التغيير السياسي بتغيير حضاري أساسي تحت الرعاية الغربية والأميركية. بالمقابل بعض الداخليين يمزجون رفض الهيمنة الاميركية مع رفض التغيير الديموقراطي والتفاعل الحضاري. وهم أيضا صنف سياسي طرفه الأرأس نظم الحكم الراهنة، وطرف <<حضاري>> مكون من إسلاميين وقوميين مطلقين. وصاحب نظرية الفسطاطين يشارك دعاة صراع الحضارات المحليين لدينا نظريتهم بالكامل، تماماً مثلما تشارك دكتاتورياتنا <<العلمانية>> العنصريين الغربيين نظريتهم في الخصوصية (أنظمتنا تعبير عن خصوصيتنا، والديموقراطية تعبير عن خصوصية الغرب).

ويتدخل هنا عامل ثقافي أو <<حضاري>> يطل على تفكك الداخل الاجتماعي السياسي العربي في دول عربية عديدة إلى دواخل متعددة متنافرة، أعني التناثر الديني والإثني والطائفي لمجتمعاتها. وهو يرتد، في رأينا، إلى غياب مشروع هيمنة (بالمعنى الغرامشي)، موحِّد وفعال، في المجال العربي بعد تأزم وانحسار المشروع القومي العربي منذ ستينيات القرن العشرين.

يحوّر عامل التناثر هذا مفهوما الداخل والخارج في النقاش الحالي ليوظفهما ضمن منهجية هوية تقوم هي ذاتها على مبدأ الهوية: داخل متماثل مع ذاته وخارج متماثل مع ذاته، وهما متناقضان تماماً في ما بينهما. وتعمل هذه المنهجية في خدمة سياسات هوية معقدة ومتشابكة، تغذيها اليوم الانفعالات والمشاعر الطائفية الآخذة في الانتعاش في مناخات تفاقم الهيمنة الاميركية ومشاريع إعادة هندسة وتشكيل المجال العربي (مشاريع الشرق الأوسط المتنوعة في سياق <<الحرب ضد الإرهاب>>، التي تذكر بمشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط قبل نصف قرن في سياق الحرب الباردة: في استطلاع نشرت نتائجه جريدة <<السفير>> في 15/10/2004 سار تفضيل اللبنانيين لبوش على كيري أو العكس، في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، بموازاة خطوط الانقسام الديني). ويتصل أصل التفكك وسياسات الهوية ومناهجها وطرق تفكيرها في تقديرنا بهشاشة الدواخل الحضارية العربية وتبعثرها وافتقارها إلى صيغ تسوية وتفاهم اجتماعية وسياسية. هذا الشرط، الذي لا مجال لنكران دور <<الخارج>> فيه، يدفع اليوم إلى تفخيخ مجتمعاتنا عبر استبطان منطق صراع الحضارات. يساعد على ذلك ايضا شرط عالمي يزداد انكفاء عن العقلانية والقيم الكونية للحداثة. فبدلا من اعتبار صراع الحضارات صراعاً طائفياً على الصعيد العالمي، ما يستوجب بناء نظام عالمي (أو وطنية عالمية) أكثر مساواة وعدالة، تغدو الصراعات الطائفية والصراع العربي الإسرائيلي صراعات حضارية، ما يعني انفجار <<الشرق الأوسط>> على نفسه وإعادة بناء المنطقة على أسس <<حضارية>>، طائفية ودينية وإثنية. وهذا مشروع يجد جذوره في اللاشعور السياسي الغربي حيال المنطقة (عقيدة الفسيفساء)، كما في مصالح وخطط إسرائيل، وبالطبع في تكوين نخب السلطة العربية الرثة والفاقدة لأي أفق تاريخي يعلو على البقاء في السلطة.
وما أشرنا إليه للتو من غياب الهيمنة يكتسب أهميته من أن الهيمنة هي التي تصنع الأكثرية والداخل الوطني الجاذب والمتفاعل، لا العكس، وهي التي تحرر الأكثرية من الروابط العمودية ومن الانغلاق على الذات وعبادة الداخل، لا العكس. ذلك أن الأكثرية التي تصنعها الهيمنة أكثرية مصنوعة لا موروثة، ومركبة لا بسيطة، ومتحولة لا ثابتة. لكن لا مجال للتوسع في هذه النقطة هنا.

مصادر
السفير (لبنان)