يصعب عدم مشاركة الفلسطينيين فرحتهم، فلسطينيي غزة تحديداً. ها هم المستوطنون يبدأون الرحيل في إشارة أولى إلى إعادة انتشار <<تحرر>> القطاع، داخلياً، من الوجود المضني للمستوطنات والقوات التي تحميها. لقد تحمّل الغزاويون كثيراً ومديداً. ومن حقهم أن يرقصوا في الشوارع، في شوارع هذا الشريط الساحلي الضيق والمكتظ والذي شرع يبدو أكثر اتساعاً ورحابة.

إن التفاوت واضح بين التعبير الفلسطيني العاطفي وبين الحسابات الباردة لأرييل شارون. فالرجل يقود سفينة إسرائيل. وهو يعتبر أن طاقتها الاستيعابية في هذه المرحلة لا تطيق حمولة ما تطمع به من أرض الضفة الغربية، ومن حسم مصيري القدس ومشكلة اللاجئين، إلا إذا تخففت من وطأة غزة بما هي حضور لآلاف المستوطنين فيها يستدعي حضور أكثر من مليون فلسطيني في قلب النزاع. تبحر سفينة شارون أسرع، وبصعوبة أقل، إذا رمت غزة في البحر.

إلا أن المجال مفتوح تماماً لرواية أخرى. لرواية فلسطينية ذات تلاوين متعددة. ففي الإمكان القول إن إعادة الانتشار لم تكن لتحصل بعد 38 عاماً من الاحتلال لولا سنوات المقاومة، وحجم التضحيات، وإظهار الاستعداد للمزيد من العطاء، ولولا فشل الغزوات المتكررة، وعمليات التهديم، والجرف، والاغتيالات، والقصف، والاعتقال، والخنق الاقتصادي. هذا صحيح تماماً. ولا يمكن أن يدعي خلاف ذلك حتى مَن ينسب إلى الاستعداد للتفاوض فعلاً سحرياً. إن الصمود الوطني في غزة سبب جوهري من الأسباب التي دعت شارون إلى الإقدام على هذه الخطوة. لا بل إن هذا الصمود هو ما جعل المستوطنين يغادرون من دون أن تنجح دولتهم لا في تجريد المقاومة من السلاح، ولا في تجريد شعبها من العزيمة، ولا في الدفع نحو الاقتتال، ولا في استيضاح وجهة اليوم التالي.

إلا أن الملدوغ من اللغة الظافرية، والمراقب لطبيعة موازين القوى المتحكّمة بالصراع، لا يمكنه إلا أن يتوزع بين العواطف الحارة والعقل البارد. إن أي سوء تقدير لما هو جار الآن، في غزة، يمكنه أن يتحول، غداً، إلى مدخل نحو سياسات خاطئة. وينطبق الأمر على من يقلل من أهمية المقاومة في فرض إعادة الانتشار، وكذلك على كل من يحاول إنكار الجانب شبه الطوعي في الخطوة معتبراً أن في الإمكان استنساخ التجربة نفسها في الضفة أو القدس.

لدى شارون حساباته. ولا بأس من محاولة فهمها.

يريد الرجل إنشاء كتلة إسرائيلية <<واقعية>> في جنوحها التوسعي. وهو يراها مؤلفة من بعض ال<<ليكود>>، وبعض <<العمل>> (ربما كله)، وبعض العلمانيين، وبعض المتدينين. إنها الكتلة المسماة <<الطوفان الكبير>>. ويمكن أن نضيف إليها أن شارون ما زال يخاطب معظم المستوطنين في القدس ومحيطها والكتل الكبرى في الضفة الغربية. وهو يتوجه إلى هذه الفئة الأخيرة بأن الفصل بينها وبين مستوطني غزة هو، في الظروف الحالية، شرط للفصل بين غزة والضفة، وإدخالهما في مسارين متباينين، وتوجيه ضربة قاضية إلى الحركة الوطنية الفلسطينية تعزز الضربة السابقة الخاصة بمحاولة الفصل بين أهل الأرض المحتلة وأهل الشتات فضلاً عن المحاولة السابقة لإعطاء فلسطينيي القدس وضعية خاصة، فضلاً عن التمايزات بين المناطق <<أ>> و<<ب>> و<<ج>>، فضلاً عن تقسيمات <<غربي الجدار>> و<<شرقي الجدار>>.

يريد شارون، كذلك، تعزيز العلاقة التنسيقية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. هذا ما يقوله كل يوم. وهو يرى هذه الإدارة
الأميركية تقدم على مغامرات خطيرة لترتيب الوضع الإقليمي لصالحها وصالح إسرائيل فلا بأس من أن يشاركها في ذلك ولو قاد الأمر إلى <<تنازلات مؤلمة>>. لقد رفضت هذه الإدارة نظرية <<القدس أولاً ثم بغداد>>، ولم تتعاط بإيجابية مع <<بغداد أولاً ثم القدس>> وذلك برغم <<الضغط>> العربي والرجاء البريطاني. إن ما يفعله شارون هو أنه يقدم إلى حليفه هدية (ولو اضطرارية) تسمح له بالقول إنه لا يعتدي على العرب والمسلمين فقط، ولا يكتفي بغزو بلدانهم، وإنما، أيضاً، يشجع مبادرات سلمية تعيد إليهم بعض حقوقهم. إن الثمن الذي ستدفعه واشنطن بدل هذه <<الهدية>> يوازي حاجتها إليها اليوم.

ويحاول شارون إنعاش علاقات إسرائيلية عربية. لقد نسّق خطته مع مصر أكثر مما نسّقها مع السلطة الوطنية دامت، أي الخطة، قائمة بالأصل على افتراض أن لا وجود لشريك فلسطيني. والملاحظ أن إعادة الانتشار أعادت بعض الحرارة إلى المعاهدة المصرية الإسرائيلية ما شجع البعض، في تل أبيب، على التفكير بإحياء دور أردني ما في الضفة. وإذا كان هذا التحسين في متناول شارون فهو يعرف أن في وسعه الاتكال على جورج بوش من أجل توسيع رقعة التجاوب العربي مع <<الخطوة الشجاعة>>. لقد بات علينا أن ننتظر إحياءً أميركياً لتلك الدعوة إلى تقديم مكافأة عربية لإسرائيل تتخذ شكل الارتقاء بعلاقات، ووصل ما انقطع، واستئناف الاجتماعات الشرق الأوسطية الإقليمية التي سبق لها التمهيد لأطروحات <<الشرق الأوسط الكبير>>.
إن إعادة الانتشار هذه، هي، أيضاً، إعادة تموضع من أجل فرض القراءة الإسرائيلية ل<<خريطة الطريق>>. وتقضي هذه القراءة بفك ارتباط خارج سياق التفاوض ثم بفرض شروط مستحيلة لبدء التفاوض. وإذا كان بوش، في مقابلته الأخيرة مع التلفزيون الإسرائيلي، أعرب عن انحياز إلى هذه الوجهة فإن الوضع الناشئ كفيل بأن يستدرج دولاً عربية وأوروبية إلى هذه القراءة.
لا نعرف، حتى اللحظة، ما إذا كان الجيش الإسرائيلي سيغادر غزة في توقيت محدد، وما هي الإملاءات السابقة لذلك. ولكن يمكن القول إن المغادرة نحو الحدود هي، في عُرف شارون، تحرير له من الاحتلال وإطلاق ليده في أن يرد على طريقته إذا تجاوزت <<غزة>> ما هو مرسوم لها دعماً لنضال يتوقع تصاعده في الضفة.

وليس من الجائز استبعاد حصول شارون على مكافآت أخرى. ويمكن، مع قدر محسوب من المجازفة، افتراض أن تطورات معينة على <<الجبهة الشمالية>>، وفي لبنان تحديداً، يمكن لها أن تكون ضمن سلة المكافآت المشار إليها.

يمكن الاستطراد في استعراض الاستهدافات الشارونية وحساباتها الباردة. لا يعني ذلك، إطلاقاً، أن النجاح الحتمي هو من نصيب هذه الأهداف. وثمة مؤشرات، في غزة، قد ترغم شارون على مراجعة حساباته.

إن المقصود هو ألا يؤخذ أحد إلى حيث يعجز عن قراءة المشهد كله وعن وضع سياسات تعرف حدود الانتصار الموضعي في زمن التراجع الإجمالي.

مصادر
السفير (لبنان)