امس بدأت اسرائيل ارييل شارون تنفيذ خطة انسحابها الاحادي من قطاع غزة وبعض شمال الضفة الغربية والذي يفترض ان يستغرق اسابيع قليلة. طبعا شهدت مرحلة الاعداد لهذا الانسحاب لقاءات عدة فلسطينية – اسرائيلية واميركية – فلسطينية واسرائيلية – دولية واسرائيلية – فلسطينية كان الهدف الاساسي منها توافق الحكومة الاسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية على التنسيق في هذا الموضوع وبغية جعل الانسحاب خطوة على طريق استئناف عملية السلام بين الفريقين انطلاقا من خريطة الطريق. وطبعا توصل الاثنان الى تفاهمات معينة تتعلق بوضع المناطق المنسحب منها وابرزها غزة بعد استعادة الفلسطينيين لها بحيث تتأمن لها ولسكانها سبل العيش الآمن والمستقر والمعقول. لكن هذه التفاهمات على اهميتها لم تكن كاملة وشاملة. فضلا عن انها لم تُزِل الطابع الاحادي عن الانسحاب الاسرائيلي. فرئيس الحكومة الاسرائيلية ارييل شارون تمسك بالاحادية اقتناعا منه بان ذلك يجنبه التزام اي خطوة تفاوضية او سلمية لاحقة للانسحاب. وبرر تمسكه هذا باستمرار غياب "الشريك الفلسطيني" الذي طالما شكت منه اسرائيل وحليفتها اميركا علما ان الموضوعية والانصاف يقتضيان التأكيد ان السلطة الفلسطينية بقيادة رئيسها محمود عباس (ابو مازن) قامت من جهتها بكل ما يلزم لاستحقاق صفة الشريك. ونجحت في ذلك الى حد معقول رغم العقبات التي وضعها في طريقها الوضع الفلسطيني الداخلي والتباين الى حد التناقض بين السلطة وحركة "فتح" اقوى داعميها من جهة والفصائل الاسلامية الاصولية (من "حماس" و"الجهاد") من جهة اخرى. وهذا الواقع يدفع الى الاستنتاج ان شارون اساسا لم يكن يطمح الى شريك فلسطيني، علما انه لم يقم باي خطوة من شأنها مساعدة هذا الشريك على التكون.

هل يفتح انجاز الانسحاب من غزة وبعض شمال الضفة في الوقت المحدد له من حكومة اسرائيل الباب امام عودة الحياة الفعلية الى المسار التفاوضي بينها وبين الفلسطينيين؟

"الرباعية الدولية" التي تضم اميركا والاتحاد الاوروبي وروسيا الاتحادية والامم المتحدة تتوقع ذلك، وهي لن تدخر جهدا من اجل جعله ممكنا. السلطة الوطنية الفلسطينية تتحدث عن ذلك يوميا بل وتطالب به رغم ان في مطالبتها اليومية نوعا من القلق والخوف وعدم الثقة بالنيات الفعلية لاسرائيل. والدول العربية تتحدث عن الامر نفسه بشيء من الايجابية والتمنيات. لكن الحقيقة التي يعرفها كل هؤلاء هي غير ذلك تماما. فاحادية الانسحاب رمت اساسا الى عدم ربط الانسحاب من غزة واربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة بعملية السلام. وارييل شارون اكد اكثر من مرة سواء لوسائل الاعلام او لمحاوريه من المسؤولين في الدول الكبرى انه بعد غزة لن يكون مستعدا لاي بحث في انسحاب اخر، كما اوحى للرأي العام في بلاده ان مهمته الاساسية في السلطة ستكون التخلص من عبء غزة واكمال جدار الفصل داخل الضفة الغربية والانتظار، اي: انتظار ان "يهضم" الاسرائيليون الخطوة الغزاوية الكبيرة. وان تنجح السلطة الوطنية الفلسطينية بمساعدة المجتمع الدولي وربما العربي في اعادة بناء نفسها اجهزة ومؤسسات وتاليا في وقف ما تسميه اسرائيل ومعها المجتمع الدولي الارهاب الفلسطيني، او ان تتطور الخلافات الداخلية الفلسطينية الى اصطدامات وربما الى حرب اهلية تعطي الحكام الاسرائيليين الفرصة الكافية لانجاز طموحاتهم "الفلسطينية". وتوظيف اسرائيل لتشددها مع ابنائها المستوطنين في غزة ومؤيديهم في كل انحاء اسرائيل لاستدرار العطف الدولي بل التفهم الدولي لتشددها في بعض القضايا والموضوعات. وهي بارعة في هذا الامر ولاسيما في ظل "الشهادة" التي ستقدمها وسائل الاعلام المحلية والاقليمية والدولية التي يتم الانسحاب "برعايتها" اذا جاز التعبير عن التضحيات الكبيرة التي قامت بها وتقوم بها اسرائيل. الى ذلك كله لا بد من الاشارة الى ان شارون قضى بنفسه على امال الفلسطينيين بل والعالم في اعتبار الانسحاب من غزة وبعض الضفة بداية لمعاودة المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين حول التسوية النهائية، وكان ذلك عندما قال اخيرا ان لا لعودة اللاجئين او للبحث في عودتهم. ولا للتخلي عن اي جزء من القدس ونعم للاحتفاظ بمعظم المستوطنات في الضفة الغربية.

هل يدفع ذلك الفلسطينيين الى اليأس والاحباط؟

انه لا يدفع الى التفاؤل طبعا. لكن الشعب الفلسطيني مَرّ، وخصوصا منذ بداية نكبته ومأساته قبل نحو 47 سنة، بظروف اكثر صعوبة لا تقاس بالتي يمر فيها حاليا، فهو عاش عقودا بلا امل وبلا افق. كما عاش مراحل فيها الكثير من اليأس والخيبة وخصوصا عندما تأكد ان اشقاءه العرب لم ينجحوا في التصدي لاسرائيل وفي اجبارها على اعادة حقوقه اليه وان في حدها الادنى. ورغم ذلك لم يوقف النضال. واوصله ذلك الى ارض فلسطين.

طبعا لم يحقق شيئا اساسيا من طموحاته حتى الان لكن استمراره في الاصرار عليها لا بد ان يمكنه يوما من تنفيذها. الا ان هذا الشعب سيصل حتما الى الاحباط بل الى اليأس اذا وقع في الصراعات الداخلية او الادهى من ذلك في الحرب الاهلية، وهذا امر لا يمكن استبعاده رغم رفض كل الافرقاء الفلسطينيين له لسببين. الاول، حدة الانقسامات فلسطينيا والاخر عدم توفير اسرائيل اي فرصة لاشعال حرب داخلية فلسطينية. وهناك عدد من المؤشرات على الساحة الفلسطينية لا تبشر بالخير على هذا الصعيد. منها الاشتباكات التي استمرت اياما قبل مدة قصيرة بين "حماس" و"فتح" والسلطة. والصدامات التي وقعت داخل حركة "فتح". والصراع السياسي داخل حركة "فتح" والذي تحول صراعا على السلطة وكان قطبيه رئيس السلطة ومنظمة التحرير محمود عباس ورئيس "فتح" فاروق القدومي. وهو صراع على "النفوذ" على ما يقول فلسطينيون عارفون.

مصادر
النهار (لبنان)