لقد قيل إن أصعب تجربة يمكن أن يمر بها إنسان في حياته – بخلاف تجربة الموت بالطبع- هي تجربة الانتقال من مكان إلى آخر. ففي الحقيقة أن هناك نوعاً من الصدمة النفسية التي ترافق عملية الرحيل عن مكان كان المرء يعتبره بيته ثم يضطر لمغادرته تاركا وراءه الأشياء المألوفة، والذكريات القديمة الحميمة، كي يلقي بنفسه بعد ذلك في خضم المجهول من أجل بناء حياة جديدة.

وعندما نقوم نحن في إسرائيل باتخاذ قرار بالشروع في ذلك الشيء الصعب وهو الرحيل عن مكان عشنا فيه وألفناه عدة عقود من الزمن، فإننا نفعل ذلك والأمل يحدونا في حياة أفضل، كما أننا نفعله وأعيننا مركزة في ذات الوقت على الاحتمالات الجديدة المتاحة أمامنا..

وخطة إسرائيل الخاصة بفك الاشتباك مع قطاع غزة - خطوتها الجريئة لإجلاء 8000 مستوطن من أماكنهم من أجل السلام- مماثلة لذلك الشيء - الرحيل- سواء من حيث صعوبته أو من حيث ما يترتب عليه.. بيد أن مداها وتداعياتها أكبر حجما بكثير.

وقرار إسرائيل بتفكيك 21 مستوطنة في قطاع غزة و 4 مستوطنات في الضفة الغربية، يمثل واحدة من أصعب المبادرات التي اضطرت إسرائيل إلى القيام بها في تاريخها.

ووفقا لهذا القرار - أو الخطة في الحقيقة- سيتحتم على العائلات الإسرائيلية المقيمة في المستوطنات أن تقوم قبل يوم الأربعاء (غدا) بمغادرة المنازل والأحياء التي قامت ببنائها، والعيش فيها، والعناية بها على امتداد ثلاثة عقود من الزمان. والأرقام تتحدث عن نفسها في هذا السياق: حيث سيتم إخلاء كامل قطاع غزة، و300 ميل مربع من الضفة الغربية، وتسليمها للفلسطينيين. وسوف يتعين كذلك على 5000 تلميذ إسرائيلي كانوا يدرسون في المدارس الموجودة في تلك المستوطنات، أن يجدوا مدارس جديدة لهم في الأماكن التي انتقلوا إليها، كما سيتعين على 10 آلاف إسرائيلي كانوا يعملون في قطاع الزراعة في تلك المستوطنات البحث عن وظائف جديدة لهم، كما سيتم أيضا تفكيك 38 كنيسا ودار عبادة يهودية، ونقل 48 مقبرة من أماكنها الحالية.

والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هنا هو: لماذا اختارت إسرائيل أن تقوم بهذه الخطوة التاريخية وفي هذا التوقيت بالذات؟ إن السبب الذي دعاها إلى ذلك هو أنها قد وجهت بخيارين هما: أن تقود أو أن تكون مقودة، فاختارت أن تقود.

وخطة فك الاشتباك الإسرائيلية تحمل في طياتها احتمالات المستقبل الأفضل للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. فهذه الخطة ستعمل على التقليل من الاحتكاكات من الجانبين إلى أقل حد ممكن، كما أنها ستعمل في نفس الوقت على تعزيز الأمن الإسرائيلي، وعلى إتاحة الفرصة للفلسطينيين لرسم مستقبلهم بأنفسهم.

وربما يكون الشيء الأكثر أهمية في هذا السياق هو أن تلك الخطة ستوفر فرصة أساسية لتجاوز الجمود الحالي في الموقف بين الجانبين، والبدء مجددا في المفاوضات بينهما والتي توقفت نتيجة لتعثر مسيرة السلام نتيجة أسباب ليس هذا مجال ذكرها. ويمكن القول لسوء الحظ إن الجمود، وعدم الفعل، كانا يمثلان عنوان اللعبة بالنسبة للفلسطينيين، وذلك منذ أن أوصد زعيمهم الراحل ياسر عرفات الباب في وجه التنازلات التاريخية التي قدمها له رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في كامب ديفيد 2000 أثناء الولاية الثانية للرئيس الأميركي بيل كلينتون. ومنذ ذلك الحين قام القادة الفلسطينيون وبشكل منهجي بالسماح للإرهاب بإعاقة الطريق أمام تحقيق السلام.

ومجيء حكومة الرئيس محمود عباس إلى الحكم، يتيح للفلسطينيين فرصة لكسر ذلك النمط من السلوك الذي تبنوه سابقا، والذي أدى إلى ضياع العديد من الفرص التاريخية التي كانت متاحة أمامهم.
ولكي يحدث هذا يتعين على السيد عباس أن يظهر في المقام الأول التزاما حقيقيا بالإصلاح من خلال السيطرة على الإرهابيين، وتفكيك البنية التحتية لمنظماتهم، وتوحيد قوات الأمن الفلسطينية، وإنهاء الفوضى في الشارع، وفرض حكم القانون، واتخاذ إجراءات ملموسة لإنهاء التحريض على العنف في المدارس الفلسطينية. وخطة فك الاشتباك الإسرائيلية يمكن أن تؤدي إلى تعزيز موقف القوى المعتدلة داخل المجتمع الفلسطيني، كما يمكنها أن تشجع الفلسطينيين على إيقاف الهجمات الإرهابية.

وفي نهاية المطاف فإن الفلسطينيين وقادتهم سيجدون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما هما: هل يودون الاستمرار في التدمير.. أم يودون البدء في عملية البناء والتعمير؟

وخطة فك الاشتباك الإسرائيلي تظهر للعالم أن إسرائيل ملتزمة بالسعي من أجل السلام، حتى عندما يتطلب منها ذلك الإقدام على تضحيات صعبة. وقد أثنت دول العالم على الخطوة الإسرائيلية الشجاعة الخاصة بفك الاشتباك، وهي تقوم حاليا بتركيز أنظارها على الفلسطينيين كي ترى كيف يتصرفون.

وفي رأيي أن أفضل قرار يمكن للعرب أن يتخذوه في الوقت الحالي من أجل شعوبهم، ومن أجل السلام في المنطقة، ومن أجل الاستقرار في العالم أجمع، هو ذلك الخاص بمحاربة الإرهاب الذي يشكل خطرا داهما على الجميع دون استثناء. إن البدء في طريق جديد، ونبذ الأنماط القديمة من التصرفات والسلوك، وإجراء تغييرات جوهرية لم يكن من الأشياء السهلة على الإطلاق. وإسرائيل بالذات عرفت ذلك في الماضي، وهي تعرفه وتلمسه بشكل مباشر الآن.

ويلزم القول في نهاية المطاف إنه إذا ما استمر الفلسطينيون في إغلاق أبوابهم أمام التغيير فإنهم يجب أن يعرفوا أن هناك شيئا واحدا ومؤكدا سيتحقق جراء ذلك ألا وهو أنهم لن يتمكنوا على الإطلاق من الاستفادة من الفرص والإمكانيات المتاحة الموجودة خلف تلك الأبواب.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)