في كل مؤسسة هناك من بين العاملين فيها من يبرز اسمه أكثر من غيره لأسباب شتى أهمها المعرفة والمقدرة والتمكن مما يجعله موضع الثقة للعهدة اليه دون غيره بالمهام الصعبة في الظروف الدقيقة. والدكتور أديب الداوودي واحد من هؤلاء وقد برز في ميدان العمل الدبلوماسي السوري وكان وجوده في محطات شكّلت منعطفات أساسية في تاريخ سورية المعاصر وفي ظروف سياسية صعبة شاهداً على ذلك. ويمكن اعتباره بحق بين أوائل الدبلوماسيين الذين اسهموا في وضع اسس وزارة الخارجية السورية، عقب الاستقلال.

حين وقع انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961 كان الدكتور اديب ممثلا لسورية في اللجنة المختصة بمناقشة القضية الفلسطينية ومشكلة اللاجئين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحرصا منه على الإبقاء على تماسك الموقف العربي خلال دورة الجمعية العامة بقي على اتصال مستمر مع وفد الجمهورية العربية المتحدة. كان التزام هذا الدبلوماسي بالدفاع عن القضية الفلسطينية تعبيراً عن هذا النَفَس القومي العربي الذي تميز به السوريون وحكوماتهم التي قررت معاملة الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سورية بعد نكبة 1948 معاملة السوريين بما في ذلك تعيينهم في الوظيفة العامة. ومن هذا المنطلق وبغية تأمين سكن لائق للاخوة الفلسطينيين، نجح الدكتور الداوودي في مسعاه لدى السلطات السورية وبالاتفاق مع وكالة إغاثة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لبناء مخيم اليرموك قرب دمشق، عندما كان مديرا لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين خلال الاعوام من 1952 الى 1955.
ونجد الدكتور أديب أمينا عاما مساعدا لوزارة الخارجية السورية موفداً بمهمة خاصة الى الأمم المتحدة في الفترة التي سبقت العدوان الاسرائيلي عام 1967 لينبّه في مجلس الأمن الى خطر قيام إسرائيل بعدوان واسع وشيك. ثم وبعد ان شنت اسرائيل حربها العدوانية في 5 حزيران شارك الدكتور أديب في أعمال الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة لبحث آثار هذا العدوان. وبعد انتهاء أعمال الجمعية العامة تابع الدكتور أديب مناقشات مجلس الأمن التي أفضت الى صدور القرار الشهير 242 بتاريخ 22/11/1967 والذي أصبح لاحقاً أحد أسس عملية السلام.

في محطة أخرى ذات صلة بعمل الأمم المتحدة كلّف الدكتور أديب برئاسة وفد الجمهورية العربية السورية الى المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عقد في طهران عام 1968 بمناسبة العيد العشرين للاعلان العالمي لحقوق الانسان. كان أداء الوفد السوري برئاسته لهذا المؤتمر متميزاً لجهة الدفاع عن القضية الفلسطينية. وقد أدّى ذلك الى تأليف لجنة سُمّيت اللجنة الخاصة بالممارسات الاسرائيلية التي تمسّ حقوق الانسان في الأراضي العربية المحتلة، ولا تزال هذه اللجنة تمارس أعمالها الى اليوم.

حتى ذلك الحين كانت علاقة الفقيد بالأمم المتحدة عبر وزارة الخارجية السورية، وفي مرحلة لاحقة كان لتميز أداء الدكتور أديب الداوودي الدبلوماسي والسياسي السبب في تكليفه بمهام دولية. فقد سُمّي من قبل الأمين العام للأمم المتحدة عضوا في اللجنة الخماسية الدولية التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة لمعالجة مسألة الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية بطهران عام 1979. ثم اختاره الأمين العام بعد ذلك من بين اعضاء اللجنة الخماسية ليكون ممثلاً شخصياً له ليعاود الكرة في معالجة المسألة ذاتها.

بعد تقاعده من وزارة الخارجية انتقل الدكتور أديب الى الوظيفة العامة الدولية ليشغل أعلى الوظائف في منظمة الأمم المتحدة، فأنتخب من الجمعية العامة للأمم المتحدة عضواً في هيئة التفتيش لمدة خمس سنوات انتهت عام 1992.

غير أنّ أهم محطات الدكتور أديب الداوودي في حياته الدبلوماسية والسياسية كانت حين اختاره الرئيس الراحل حافظ الأسد مستشاراً سياسياً في عام 1974. وقد بقي في هذا المنصب حتى عام 1981. وحفلت هذه السنوات التي تلت حرب تشرين التحريرية بأحداث كثيرة عزز خلالها الرئيس الأسد دور سورية الإقليمي والدولي وأصبحت لها سياسة خارجية قوية وموقع استراتيجي متميز. وكان لا بدّ لبناء هذا الدور وإقامة هذا الموقع من ان يُلقى على عاتق الدبلوماسية السورية أعباء كبيرة أدّى الدكتور الداوودي بإخلاص نصيبه منها عبر إنجازه للمهام التي كلّف بها والرسائل التي حملها الى العديد من رؤساء العالم ومرافقة الرئيس الأسد في أكثر رحلاته الى الدول العربية والاجنبية وإبداء ما يُطلب منه من مشورة في شؤون السياسة الخارجية في تلك الحقبة الحافلة بالأحداث التي مرّت بها المنطقة.

ولقد كلّف الرئيس الأسد الداوودي بالإشراف على القاعة الدمشقية المخصصة لاستقبال ضيوف رئاسة الجمهورية، فجاءت زخارف القاعة تعكس سمات البيوت الدمشقية والحلبية العريقة. وزينت سقوفها بخشب الموزاييك العريق وكسيت جدرانها بالرخام الذي تنساب عليه المياه وبموزاييك الفسيفساء المماثل لما هو على جدران الجامع الأموي بدمشق مما جعل القاعة متحفاً صغيراً ينتزع إعجاب زواره.

هذا غيض من فيض يلقي ضوءا على مسار حياة واحد من رجالات سوريا الذين كان لهم باع في الدبلوماسية السورية وقاموا بخدمة وطنهم بإخلاص وبالتزام كامل بالخط الوطني العربي. ونحن إذ نذكّر بمآثره اليوم بمناسبة مرور عام على وفاته فإنما نعبر عن واجب الاعتراف بالجميل لكل من اسهم ويسهم بوضع لبنة في بناء الوطن وفي صون عزته وحفظ كرامته والدفاع عن كيانه.

دمشق في 15 آب 2005

مصادر
السفير (لبنان)