إجلاء اسرائيل مستوطنيها من قطاع غزة وشمال الضفة خطوة تاريخية هي الثانية من نوعها بالنسبة لإسرائيل. ففي أعقاب توقيع اتفاق "كمب ديفيد" للسلام مع مصر قامت اسرائيل بإخلاء المستوطنات اليهودية التي بنتها إبان احتلالها صحراء سيناء. ولكن ثمة فارق كبير بين ظروف خروج المستوطنين اليهود من سيناء وخروجهم اليوم من غزة. ورغم ان الجيش الاسرائيلي في الحالتين اضطر الى اخراج المستوطنين بالقوة من منازلهم ودخل في مواجهة مع المتدينين والمتشددين منهم، الا إن الخروج من سيناء أتى تتويجاً لمحادثات سلام ناجحة بين اسرائيل وأكبر دولة عربية هي مصر برعاية حثيثة من الولايات المتحدة الأميركية، والمستوطنات التي أخلتها اسرائيل في قطاع يميت انتقلت تلقائياً الى سيطرة الدولة المصرية المركزية.

أما الوضع في غزة فيختلف كلياً. فخروج الجيش الاسرائيلي من القطاع لم يأتِ ثمرة لمفاوضات سياسية مع الطرف الفلسطيني وانما نتيجة تفاهمات وعمليات تنسيق متعددة قام المصريون وبعض الاطراف الدوليين بدور فاعل فيها. ولكن في المحصلة لا شيء يغير من توصيف الانسحاب الاسرائيلي من غزة بأنه انسحاب أحادي تقوم به اسرائيل من طرف واحد خدمة لأهداف اسرائيلية أمنية وسياسية حددها أرييل شارون في الكلمة التي وجهها عشية الخروج من غزة الى الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني.

إن عدم اقتران الانسحاب الاسرائيلي من غزة بصيغة تفاهم سياسي مع السلطة الفلسطينية، وتصوير شارون خطوته هذه بأنها تعبير عن اليد الاسرائيلية الممدودة للسلام الذي على الفلسطينيين ان يثبتوا بدورهم أنهم مستعدون للسير فيه، بالإضافة الى التلميحات المتعددة للقادة الاسرائيليين بأن الخروج من غزة هو بمثابة اختبار جديد لقدرة السلطة الفلسطينية بزعامة أبو مازن على فرض سيطرتها على المناطق التي خرج منها المستوطنون وامكان التوصل الى اتفاق بينها وبين الفصائل الفلسطينة الاخرى حول رؤية موحدة لمستقبل غزة السياسي، كل ذلك يجعل الانظار تتجه نحو غزة في اليوم التالي للإنسحاب لرؤية كيفية توظيفه من جانب السلطة الفلسطينية من أجل توطيد دعائم الحكم الفلسطيني المركزي القادر وحده على التعويض على أهالي غزة القهر والعذاب والإذلال التي عانوها طوال السنوات الـ 38 الماضية للإحتلال.

لذا من المنتظر أن تكون الفترة المقبلة هي فترة اختبار للسلطة تماماً كما هي اختبار لمدى قدرة أرييل شارون على التصدي للإنتقادات الحادة التي طاولته في الفترة الاخيرة من جانب خصومه السياسيين داخل حزبه ووسط الجمهور المتدين للمستوطنين.

لكن كل الدلائل تشير الى أن خطة فك الارتباط سترتد إيجاباً على المستوى الدولي على مستقبل شارون السياسي. فالواضح منذ الآن ان التزام شارون تطبيق خطته رغم المعارضة الداخلية لها سيزيد من صدقيته السياسية في نظر العالم وسيجعله يحظى بالمزيد من دعم الادارة الاميركية وبتأييد الرئيس جورج بوش الذي حاول في نهاية الاسبوع الماضي مد يد العون لصديقه شارون الذي اظهرت الاستطلاعات تراجعاً واضحاً في شعبيته لمصلحة خصمه السياسي بنيامين نتنياهو الذي قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على خطة فك الارتباط.

ومع ذلك فالأمر الاساسي الذي من شأنه أن يوجه الضربة القاضية للمستقبل السياسي لشارون هو تحقق السيناريوات الاسرائيلية المتشائمة التي يهول بها اليمين الاسرائيلي والقائلة ان خطة فك الارتباط ستحوّل قطاع غزة منطقة مواجهة وتماس مع اسرائيل مع سيطرة الفصائل المسلحة الفلسطينية الرافضة مبدأ التسوية السياسية على القطاع. تحسباً لذلك من المتوقع ان يغير شارون تكتيكه بمجرد الخروج من غزة ليكشف عن الوجه الآخر له وجه "البلدوزر" الذي لا شيء يوقفه أو يعوّقه عن الوصول الى هدفه، والزعيم المتشدد الرافض لأي تنازل جديد او لأي اعادة طرح لخطة "خريطة الطريق" قبل أن يثبت الفلسطينيون رغبتهم الحقيقية بالسلام.

مصادر
النهار (لبنان)