صدرت تقارير متناقضة حول توقيت انسحاب الجنود الأميركيين من العراق. أعلن الجنرال جورج كايسي، قائد القوّات الأميركية هناك، أنّ الولايات المتّحدة تنوي البدء بتنفيذ انسحاب "كبير إلى حدّ ما" للقوات الأميركية بعد أن تؤدّي الانتخابات في كانون الأوّل المقبل إلى قيام حكومة دستورية. وأشارت مصادر أخرى إلى أنّ الانسحاب سيشمل 30 ألف جندي أو نحو 22 في المئة من القوّات الأميركية في العراق. بينما لفتت بيانات رفيعة المستوى صادرة من بغداد إلى أنّ انطلاقة الانسحابات قد تؤجَّل حتى الصيف المقبل. أياً كان جدول الانسحاب، يتوقّف التقدّم في تنفيذه على التحسينات في الوضع الأمني وفي تدريب القوّات العراقية.

يبدو تالياً أنّ ثمّة حاجة إلى إعادة النظر في استراتيجيا الانسحاب. أولاً ما هو تعريف كلمتَي "تقدّم" و"تحسين"؟ في حرب بدون خطوط أمامية، هل يشير الهدوء الموقّت إلى النجاح أم إلى قرار استراتيجي من العدوّ؟ هل التراجع في هجمات العدوّ سببه الإنهاك أم استراتيجيا متعمّدة منه قوامها ادّخار القوى بهدف تشجيع الأميركيين على الانسحاب؟ أم هل نحن في مرحلة مشابهة لتلك التي أعقبت هجوم تيت في فيتنام عام 1968، والتي اعتُبِرت آنذاك انتكاسة أميركية لكن يُنظَر إليها الآن كهزيمة كبرى لهانوي؟

بالنسبة إلى شخص مثلي راقب عن كثب معاناة التدخّل الأوّل في فيتنام في عهد إدارة كينيدي ثمّ جونسون، وشارك لاحقاً في قرارات الانسحاب في عهد إدارة نيكسون، أعاد إعلان كايسي إحياء ذكريات مؤلمة. فقرار سحب عدد كبير من القوّات الأميركية في وقت تستمرّ فيه الحرب، يقود على الأرجح إلى مصير قاتم. يؤثّر هذا القرار في حسابات المتمرّدين والقوّات الحكومية على حدّ سواء، فيصبح تعريف التقدّم حُكماً بسيكولوجياً بقدر ما هو عسكريّ تقريباً. يمثّل كل جندي منسحِب نسبة مئوية أكبر في المجموع المتبقّي. وتتقلّص قدرة القوّات المتبقّية على شنّ هجمات. وعند انطلاق العمليّة، تواجه خطر الاعتماد على الزخم بدلاً من التحليل الاستراتيجي، وكلّما تقدّمت أصبحت العودة عنها أكثر صعوبةً.

على الرغم من هذه العقبات، كان قرار استبدال القوات الأميركية بجيوش محلّية أثناء حرب فيتنام – ما عُرِف بال"فتنمة" – ناجحاً في الإجمال من وجهة نظر أمنية. بين 1969 ونهاية 1972، سُحِب أكثر من خمسمئة ألف جنديّ أميركي. وانتهى التدخّل الأميركي في القتال البرّي في مطلع عام 1971. وانخفض معدّل الضحايا الأميركيين من 400 في الأسبوع عام 1968 ومطلع 1969 إلى 20 في الأسبوع عام 1972.

كانت هذه الإجراءات ممكنة لأنّه بعد فشل هجوم تيت في هانوي، أقصي إلى حدّ كبير التهديد باندلاع حرب عصابات. كانت سايغون والمدن الأخرى أكثر أماناً بكثير مما هي عليه المدن الكبرى في العراق اليوم. كانت سايغون تسيطر على نحو ثمانين في المئة من البلاد مع خطوط أمامية محدّدة نسبياً. وكانت وحدات الجيش الفيتنامي تزداد قدرةً على صدّ الهجمات التي تشنّها قوّات هانوي النظامية.

عندما أفشَل الجيش الفيتنامي، بدعم أميركي جوّي كبير، الهجوم الشامل الذي شنّته فيتنام الشمالية عام 1972، أصبح بالإمكان وصف ال"فتنمة" بالناجحة. بعد ذلك بوقت قصير، وافق الفيتناميون الشماليون على شروط رفضوها طوال أربع سنوات. (لكنّ هذا لم يحسم الجدل حول ما إذا كان معدّل انسحاب مختلف – أبطأ أو أسرع أو عدم انسحاب قبل التوصّل إلى تسوية – ليعجّل ذلك اليوم). بعد ثلاثة أعوام، تغيّرت هذه النتائج ليس بسبب عنف داخلي بل بسبب هجوم خارجي شنّته قوّات هانوي العسكرية التقليدية في انتهاك لكلّ أحكام اتّفاق باريس.

أدّى الإرهاق العاطفي الأميركي نتيجة الحرب ومشكلة ووترغايت في الداخل إلى خفض المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى فيتنام بمعدّل الثلثين، وحظّر الكونغرس الدعم العسكري، حتى من خلال القوّة الجوّية، إلى الحليف المحاصَر. لم يكن أيّ من البلدان التي كانت بمثابة ضامِنة للاتّفاق مستعداً لبذل جهود ديبلوماسية.

أظهر هذا كلّه مبدأين ينطبقان على العراق: يصعب الحفاظ على النجاح العسكري بدون دعم من الداخل. ويجب ترسيخ إطار عمل دولي يستطيع العراق الجديد أن يجد مكاناً له فيه.

بالتأكيد لا يعيد التاريخ نفسه بدقّة كاملة. كانت فيتنام معركة في الحرب الباردة، أما العراق فمحطّة في النضال ضدّ الإسلام الراديكالي. كان الرهان في الحرب البادرة يتمثّل في الصمود السياسي للدول القومية المستقلّة المتحالفة مع الولايات المتّحدة حول التخوم السوفياتية. أما الحرب في العراق فتتمحور حول صدام الأيديولوجيات والثقافات والمعتقدات الدينية أكثر منها حول الجيوسياسة. نظراً إلى الامتداد الكبير للتحدّي الإسلامي، ستكون للنتيجة في العراق أهمّية أعمق بكثير من النتيجة في فيتنام. إذا ظهرت حكومة على طريقة "طالبان" أو دولة راديكالية أصولية في بغداد أو أيّ جزء من العراق، فسترسل موجات ارتداديّة في العالم الإسلامي بكامله. ستتشجّع قوى راديكالية في بلدان إسلامية أو أقلّيات إسلامية في دول غير إسلامية على شنّ هجمات على الحكومات القائمة. وستكون السلامة والاستقرار الداخلي في كلّ المجتمعات التي يصل إليها الإسلام المجاهِد، في خطر.

لهذا يوافق العديد من معارضي قرار شنّ الحرب على أنّه من شأن النتيجة الكارثية أن تولّد عواقب عالمية خطيرة – وهذا اختلاف أساسي عن الجدل حول فيتنام. من جهة أخرى، التحدّي العسكري في العراق أكثر صعوبةً. تتدرّب القوّات العراقية المحلّية على نوع من أنواع القتال مختلف كلياً عن المعارك البرّية التقليدية التي سادت في المرحلة الأخيرة من حرب فيتنام. لا وجود للخطوط الأمامية فساحة المعركة في كلّ مكان. نواجه عدواً غامضاً يسعى إلى تحقيق أربعة أهداف أساسية: (1) طرد الأجانب من العراق، (2) معاقبة العراقيين الذين يتعاونون مع الاحتلال، (3) خلق فوضى تنشأ عنها حكومة قائمة على معتقداتهم الإسلامية وتكون بمثابة نموذج لدول إسلامية أخرى و(4) تحويل العراق قاعدة تدريبية للجولة المقبلة من القتال التي ستدور ربّما في دول عربية معتدلة مثل مصر والسعودية والأردن.

كانت قوّات فيتنام الشمالية تملك أسلحة ثقيلة وأماكن تلجأ إليها في بلدان مجاورة وكان عددها نصف مليون جندي مدرّب على الأقلّ. أما عدد المتمرّدين العراقيين فيبلغ عشرات الآلاف فقط وأسلحتهم خفيفة. سلاحهم الأكثر فاعلية هو عبوة يدويّة الصنع، وآلة التسليم الأكثر فاعلية هي الانتحاري، ويستهدفون بالدرجة الأولى المدنيين غير المسلَّحين.

أظهر العراقيون رباطة جأش استثنائية في وجه هذه المذبحة المتعمّدة والمنظّمة. في النهاية، نفاذ بصيرتهم هو الذي سيحدّد النتيجة بقدر ما يحدّدها الوضع العسكري. سيعرفون مدى الآمان الذي يتمتّعون به وسيحدّدون التضحيات التي هم مستعدّون لتقديمها.

حرب العراق هي في الجوهر مباراة لمعرفة أيّ جهة أعطت التقويم الصحيح. يراهن المتمرّدون على أنّه من خلال حصد عدد كبير من الضحايا في صفوف مؤيّدي الحكومة والمتواطئين مع أميركا، يزرعون الخوف لدى عدد متزايد من المدنيين ويدفعونهم على الأقلّ إلى الوقوف موقف المتفرّجين، ما يؤدّي إلى تقويض الحكومة الأمر الذي يقدّم بدوره خدمة للمتمرّدين.

تعتمد الحكومة العراقية والولايات المتّحدة على نوع مختلف من الإنهاك، فهما تعتبران أنّ تركيز المتمرّدين على قتل المدنيين يعود ربما إلى عددهم الصغير نسبياً ما يرغمهم على الحفاظ على القوّة البشرية والامتناع عن مهاجمة أهداف صعبة، وتالياً من شأن التمرّد أن يتلاشى تدريجاً.

انطلاقاً من المسلَّمة التي تعتبر أنّ المجموعات التي تشنّ حرب عصابات تُعدّ فائزة إذا لم تخسر، الجمود غير مقبول. ستنجح الاستراتيجيا الأميركية، بما في ذلك عمليّة الانسحاب، أو تفشل ليس انطلاقاً من حفاظها على الوضع الأمني الحالي بل من تعزيز قدرتها على تحسينه. الانتصار على التمرّد هو استراتيجيا الخروج الفعلية الوحيدة.

ستكون نوعيّة الاستخبارات أساسية. وتتطلّب المسائل الآتية اهتماماً خاصاً: كيف نقوّم القدرة القتالية للمتمرّدين واستراتيجيّتهم؟ إلى أيّ حدّ يجب خفض الهجمات على المدنيين وما الفترة المطلوبة لذلك قبل أن نتمكّن من القول إنّه تمّت تهدئة إقليم ما؟ ما هي فاعلية القتال الحقيقية للقوّات الأمنية العراقية وضدّ أيّ نوع من المخاطر؟ إلى أيّ حدّ يخترق المتمرّدون القوّات العراقية؟ كيف ستتصرّف القوّات العراقية حيال الابتزاز الذي يمارسه المتمرّدون – مثلاً في حال اختطاف ابن جنرال ما؟ ما هو دور التسلّل من بلدان مجاورة؟ وكيف يمكن القضاء عليه؟

تشير التجربة في فيتنام إلى أنّ فاعلية القوّات المحلّية تتأثّر إلى حدّ كبير بإطار العمل السياسي. كانت لفيتنام الجنوبية 11 فرقة، اثنتان في كلّ من الفيالق الأربعة وثلاث فرق احتياطية أخرى. عملياً، كان بالإمكان استعمال قوّات الاحتياط فقط في مختلف أنحاء البلاد. وغالباً ما كانت الفرق التي تدافع عن الأقاليم حيث تتمركز والتي تتألّف من عناصر مجنَّدين من هذه الأقاليم، فاعلة جداً. فقد ساعدت على صدّ الهجوم الذي شنّته فيتنام الشمالية عام 1972. لكن عند نقلها إلى فيلق مختلف وغير مألوف، كانت فاعليّتها تتضاءل. وكان هذا أحد أسباب كوارث 1975.

قد يكون المرادف العراقي العداوات الإتنية والدينية بين السنّة والشيعة والأكراد. في فيتنام، كانت فاعلية القوّات تعتمد على روابط جغرافية لكنّ الأقاليم لم تكن تعتبر أنّها في خلاف بعضها مع بعض. أما في العراق فكلٌّ من المجموعات الإتنية والدينية المختلفة تعتبر نفسها في مواجهة لا سبيل إلى المصالحة فيها، وربّما قاتلة، مع المجموعات الأخرى. لكلّ مجموعة ميليشيا خاصّة بها مركَّزة جغرافياً. ففي المنطقة الكردية على سبيل المثال، تحافظ القوّات الكردية على الأمن الداخلي، ووجود الجيش الوطني مقتصر على حدّه الأدنى إن لم يكن محظوراً كلياً. وينطبق الأمر نفسه إلى درجة كبيرة على المنطقة الشيعية.

هل يمكن إذن التحدّث عن جيش وطني؟ حالياً تتألّف القوّات العراقية في غالبيّتها من الشيعة، ويتركّز التمرّد في شكل خاص في المناطق السنّية التقليدية. وينذر هذا تالياً بالعودة إلى النزاع السنّي-الشيعي التقليدي لكن هذه المرّة بإمكانات معكوسة. قد تتعاون هذه القوّات في سبيل سحق التمرّد السنّي. لكن هل ستكون على استعداد، حتى عند تدريبها كما يجب، لسحق الميليشيات الشيعية باسم الأمّة؟ هل تطيع آيات الله، لا سيّما آية الله العظمى علي السيستاني، أم الحكومة الوطنية في بغداد؟

وإذا كان هذان الكيانان متماثلَين وظيفياً، فهل يستطيع الجيش الوطني ممارسة سلطته في المناطق غير الشيعية إلا للقمع؟ وهل يبقى من الممكن عندئذٍ الحفاظ على دولة ديموقراطية؟

إذن أكبر اختبار للتقدّم سيكون مدى تعبير القوّات المسلّحة العراقية – إلى درجة معيّنة على الأقلّ – عن التنوّع الإتني في البلاد، ومدى تقبّل السكّان ككلّ لها انطلاقاً من تعبيرها عن الأمّة. جذب الزعماء السنّة إلى العملية السياسية جزء مهمّ في أيّ استراتيجيا مناهضة للتمرّد. وإذا لم يتحقّق ذلك، فقد تتحوّل عمليّة بناء قوّات أمنية مقدّمة لحرب أهليّة.

هل يمكن أن تبرز دولة فعليّة في العراق من خلال وسائل دستورية؟

سيحدّد الجواب عن هذا السؤال إذا كان العراق سيصبح معلماً لشرق أوسط جرى إصلاحه أم حلبة لنزاع يزداد انتشاراً. لهذه الأسباب، يجب أن يُرفَق جدول الانسحاب ببعض المبادرات السياسية التي ترسي إطار عمل دولياً لمستقبل العراق. قد يفضّل بعض حلفائنا التصرّف كمتفرّجين لكنّ الواقع لن يسمح لهم بذلك حفاظاً على سلامتهم. تعاونهم ضروريّ في المهمّة السياسية أكثر منه في المهمّة العسكرية، الأمر الذي سيختبر، قبل كلّ شيء، براعة الغرب في إدارة شؤون الدول لبناء نظام عالمي يتناسب مع احتياجاته.

مصادر
النهار (لبنان)