الإجماع الدولي متحقق، أو شبه متحقق: العراق في مأزق والاحتلال الأميركي للعراق في مأزق. يشذ جورج بوش عن هذا الإجماع فلا يرى إلا التقدم، والنصف الملآن من الكأس، والايجابيات وهزيمة الإرهاب، وعودة الخدمات وانتصار الديمقراطية. وفي كل مرة يكرر سرده، يرد عليه كثيرون بأنه يوالي انقطاعه عن العالم الفعلي ويصر على البقاء أسير خطاب تكذبه الوقائع.

وربما كان الجديد في الأمر، إلى حد ما، ان تفاؤل بوش لم يعد يستطيع إخفاء الجدل الدائر في أوساط الإدارة، وهو أوصل الى حد ان مجلة «المحافظين الجدد» المفضلة «ويكلي ستاندارد» باتت في موقع الهجوم على «المتخاذل». دونالد رامسفيلد!

إن متابعة ما يتعلق بصياغة الدستور العراقي، على وقع التفجيرات، تميل إلى تأكيد الاستنتاج السوداوي:

- ليست العمليات العسكرية مستمرة فحسب وإنما هي إلى تصاعد والى إظهار قدرة القائمين بها على التكيف تكتيكا وعتادا.

- يكاد مفعول الانتخابات العراقية أن يكون انتهى باكرا، فهي لم تنتج جسما تمثيليا جديا نتيجة المقاطعة وما أنتجته يحتضن خلافات عميقة يتمتع بعض أطرافها بممارسة حق النقض.

- لقد تأخر تشكيل الحكومة، ثم تأخر تشكيل اللجنة الخاصة بصياغة الدستور. بما حصل ذلك اضطر المعنيون إلى اعتماد حيل قانونية لتأمين نصابها السياسي.

- المطالب الكردية والممارسات الكردية، انفصالية واستقلالية ولو أنها ترفض قول ذلك علانية، وهي إذ كانت قومية المنطق وتخاطب العرب فان هؤلاء منقسمون مذهبيا فضلا عن التباينات ضمن المذهب.

- يهدد التدخل الفظ للسفير الأميركي، خليل زاده ينزع أي شرعية عن نص دستوري يكتب في ظل الاحتلال، وتحت ضغط إملاءاته، وينطلق بالأساس من نص آخر صاغه الاحتلال.

يؤشر هذا المثال الدستور إلى المأزق الأكبر وعنوان هذا الأخير أن العراق بات اليوم في ظرف يجعل دوام الاحتلال مشكلة وانسحاب الاحتلال مشكلة. إن دوام الاحتلال هو، بالتأكيد، مصدر توتر وخلاف وصراع، ومدعاة إلى عمل عسكري وإرهابي يطال مع أعوانه. إلى ذلك، فلقد بات واضحا ان مضي الاحتلال في بناء دولة إنما يقود إلى إنشاء مؤسسات ذات طابع مذهبي تحاول تغليف هيمنتها بغلاف الشرعية الوطنية العامة.

وكذلك فان انسحاب قوات الاحتلال مشكلة. إن الأكراد جاهزون للانفصال إلى الحد الذي تسمح به تركيا، ولقد قاد ذلك إلى إشعال النار في كركوك، ربما في الموصل ويتبلور تدريجيا مطلب شيعي بالانفصال تحت مسمى «الإقليم الجنوبي». ولا يختلف كثيرون ان الانسحاب الفجائي ومن دون توفير البديل هو ضوء اخضر لتصعيد الحرب الأهلية واستدراج تدخلات إقليمية ودولية متضاربة.

لم يكن الوصول إلى هذه الحالة في حساب الغزاة أصلا. كان الرأي أن الانتصار سيكون سهلا وكاملا، ودائما كان الرهان علة قيام سلطة ديمقراطية فيدرالية، موالية للغرب ومؤيدة لوجود القوات الأجنبية، ومتصالحة مع إسرائيل. وكان الرهان على عراق يعدل جذريا موازين القوى في المنطقة ويوطد الهيمنة الأميركية عليها ويسمح لواشنطن بإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير باسم نشر الديمقراطية لمحاربة الإرهاب.

ولقد كان طبيعيا وبديهيا أن تؤيد إسرائيل هذه الوجهة وان تطمئن إليها، لا بل أن تشجع على الإقدام على هذه المغامرة التي لا تكلفها شيئا. ففي رأي تل أبيب أن مردود أي انتصار أميركي يصب عندها تماما وتنال منه نصيبا. فهكذا انتصار يلغي أي إمكانية لاحقا لقيام «جبهة شرقية» (الجبهة الجنوبية معطلة بفعل السلام)، كما انه يستميل دولة مركزية مهمة مثل العراق،

ويضعف سوريا (لاغيا في السياق نفسه «الجبهة الشمالية») ويعزل السلطة الوطنية ويفتح الباب أمام معالجة أخرى للملف اللبناني ولملفات السلاح الموجود بين أيدي المنظمات الراديكالية، إلى ذلك إن انتصارا أميركيا ثابتا في العراق ومتمددا على المنطقة يؤمن الشروط المطلوبة لفرض تسوية على الفلسطينيين تحقق المطالب التوسعية الصهيونية، بكلام آخر كانت إسرائيل ترى لحظة التضاد بين جنوحها العدواني وبين الجموح الأميركي.

ويمكن القول، بلا مبالغة، أن بعض هذه الأهداف تحقق بفعل الحرب والاحتلال. غير انه من الواضح أن الحساب لم يسدد كله بعد.إن المعطى القائل بان العراق، واحتلال العراق، في مأزق يدفع إلى التساؤل عما اذا كان التلاقي الاستراتيجي الأميركي- الإسرائيلي ما زال قائما وبالشروط نفسها. ولعل الجواب السريع يدفع إلى القول بان تمايزا محدودا طرأ على نظرة كل من البلدين وهو ناجم عن الأهداف القابلة للتحقق في المرحلة المقبلة.

يمكن تقدير ما تربحه الولايات المتحدة من «الانتصار» في العراق كما كان مأمولا به. غير أن احتمال الفشل سيصيبها بأضرار غير بسيطة، فهو سيضعف موقفها الإقليمي والدولي، ويؤثر على تحكمها بالنفط وممراته، ويرغمها على مراجعة علاقاتها بالمؤسسات الدولية وبالحلفاء الذين عارضوها.

إلى ذلك سيرتد سلبا على الإدارة المالية الذي ذهبت في التحالف مع إسرائيل إلى ابعد مدى وسيضعها أمام احتمال الهزيمة القريبة كما سيوجه ضربة قاسية إلى الجناح الذي مارس ضغطا استثنائيا، مع «المسيحيين الصهاينة» من اجل شن الحرب. سيكون صعبا على واشنطن أن تتحمل الفشل خاصة إذا دخل العراق في فوضى عارمة ذات امتدادات إقليمية ودولية.

إلا أن الأمانة تقتضي القول بأنه في وسع الولايات المتحدة الأميركية العيش مع هذا الفشل. لقد شهدت مثله وأقسى في خلال الحرب الباردة ولم يمنعها ذلك من الانتصار فيها أخيرا. تستطيع العيش مع هذا الفشل ولكنها لا تتمناه. وستكون مضطرة إلى الحد من الخسائر في سياستها اللاحقة.

إلا أن ذلك ليس هو تماما موقف إسرائيل، فهذه بالتأكيد كانت تتمنى النجاح الأميركي وامتداده غربا إلى إيران وشرقا إلى سوريا وربما جنوبا إلى المملكة العربية السعودية ولكن في المقابل ليست إسرائيل في موقع من يخشى الفشل إذا جاء على شكل فوضى عارمة لا بل قد ارتاح إلى اندلاع حروب أهلية عربية وإلى انهيار دول وإلى تعزيز انفرادها بالفلسطينيين وإلى التحول إلى مرتكز استراتيجي أكثر حيوية لأميركا لأنه أكثر استقرارا وأمنا وقوة.

يعني ما تقدم أن الولايات المتحدة الأميركية محكومة بالنتائج الإيجابية مع أنه في وسعها احتمال الفشل أما إسرائيل فرابحة إذا كانت النتائج إيجابية ورابحة في حال الفشل، بكلام آخر أن إسرائيل شريكة لأميركا في الربح ولكنها غير مهددة بدفع أي ضريبة في حالة الخسارة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)