لقد تعلمت في «مركز الحوار العربي» بواشنطن ـ كما تعلّم كثيرون غيري - قيمة الوقت وأهمية الكلمة. تعلمنا ومارسنا ضوابط أسلوب الكلام وهدفه، وأيضاً ضوابط وقت الكلام، فأصبح عندنا، نحن المتفاعلين دورياً في تجربة المركز، قناعة بأهمية الجمع بين ما ورد في الرسالات السماوية وبين ما يقول عنه العلم المعاصر.

ففي الإنجيل جاء: «في البدء كانت الكلمة»، وقال القرآن الكريم في أوّل تنزيل: «إقرأ باسم ربّك الذي خلق..». أمّا العلم المعاصر، ففيه أن الزمن هو البعد الرابع الذي تُقاس فيه الأشياء. لذلك، نحاول في تجربة «مركز الحوار العربي» أن نجمع بين قيمة الكلمة وبين قيمة الزمن.. كما تجمع ندوات المركز وموضوعاتها بين قيم الدين ومبادئه وبين علوم الإنسان وتجاربه.

فكرة «الحوار العربي» أصبحت الآن تجربة عملية عمرها أكثر من عشرة أعوام، والمشروع أصبح واقعاً يتفاعل فيه العشرات أسبوعياً من خلال موضوعات متنوعة وفي إطار ندوات دورية بلغ عددها أكثر من 600 ندوة حتى الآن، وحضرها الآلاف من العرب المقيمين أو الزائرين، إضافة لأميركيين من غير العرب.

ما أريد الإشارة إليه في هذا المقال هو معنى وجود «مركز الحوار العربي»®. المعنى الرمزي الذي أرجو أن يتحول من استثناءٍ إلى قاعدة تعم أماكن التواجد العربي كافّة.فلم يكن تأسيس «مركز الحوار العربي» في واشنطن، تقليداً لشيء موجود في أي مكانٍ آخر، إذ هو حالة جديدة وفريدة أيضاً، رغم محدودية التجربة وضعف إمكاناتها..

أيضاً تأسيس «مركز الحوار العربي» لم يكن منافسة لما هو موجود في واشنطن من مؤسسات وجمعيات أخرى ذات طابع حركي عربي/ أميركي. على العكس، فإنّ وجود «مركز الحوار» أفاد ويفيد هذه المؤسسات كلها، وشكّل لها رافداً لدعم بشري وعملي ومعنوي، كما وفّر لها منبراً تصل من خلاله إلى بعض الفعاليات العربية.

وستلاحظ أخي القارئ وأختي القارئة، إذا ما أطّلعتم على ندوات «مركز الحوار» من خلال موقعه على الأنترنت http://www.alhewar.com أو مطبوعات «الحوار»، كيف أن المركز ومطبوعاته هما ساحة للمؤسسات والجمعيات الأخرى، بينما يُفتقد ربما في مطبوعات هذه المؤسسات أو مراكزها ما فيه إشارة خاصة عن «مركز الحوار».

فالمسألة بالنسبة للمركز ولمطبوعاته أعمق من مفهوم العلاقات التجارية التي على «قدر ما تأخذ تعطي». والتي تضع «لكل شيء ثمنه». المعيار في تجربة «مركز الحوار» هو التعامل «بالمفرّق» وليس «بالجملة»، أي برؤية الجانب الإيجابي الذي يمثله وجود ودور أي عمل عربي على الساحة الأميركية، ومقدار مساهمة هذا العمل (الصادر عن أفراد أو جماعات) في إصلاح الواقع العربي هنا أو هناك، وبغض النظر عن الأشخاص والأسماء والهيئات.

أذكر هنا ما أشرت إليه في تقديمي لإحدى الندوات الفكرية، التي كان موضوعها (عن دور الدين في المجتمع) والتي اشترك فيها الأستاذ صادق سليمان والدكتور حليم بركات، أذكر أني استشهدت بالآية القرآنية الكريمة، التي ربّما قد لا ينتبه لمعناها البعض، والتي تقول: « الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. أولئك الذين هداهم الله».

أي ليس المهم من القائل لهذا القول، بل المهم هو القول نفسه.. وعلى الإنسان أن يستمع أولاً قبل أن يحكم سلباً أو إيجاباً.. ثم على الإنسان أن يستخدم عقله للتمييز بين الأقوال أو الأفكار لكي يتبعها فلا تُفرض عليه بل يختار أحسنها.. هؤلاء هم الذين هداهم الله .. والإنسان المهتدي هو الذي يعرف إلى أين يسير وما الذي يريد فعله.

هذا هو باختصار المعنى الأول من وجود «مركز الحوار العربي»®. أي تجربة تتفاعل فيها الأفكار والآراء والأقوال.. وبغض النظر عن القائل، ففي ندوات المركز هناك من يدلي بأقوالٍ أو يعرض آراءً في اتجاهاتٍ مختلفة، لكننا نستمع إلى هذه الآراء كلّها ونصغي إليها بغض النظر عن شخص قائلها.. ونبني قناعاتٍ خاصة بكلّ واحد منا، وليس طبعاً بشكلٍ جماعي مشترك، فالحضور دوماً هم من تياراتٍ فكرية مختلفة..

لكن كلّ شخصٍ يتوافق مع ما يعتقده الأحسن من الأفكار والأقوال.. ويستخدم عقله للفرز (لا غرائزه العاطفية الانفعالية)، ثم أخيراً يختار ويقرر لنفسه كيف يعمل، وأين يعمل، ومع من يعمل، لوضع هذه الأفكار والأقوال الحسنة موضع التنفيذ.هذا هو المعنى المهم من تجربة «مركز الحوار العربي».

لكن أيضاً هذه التجربة محكومة بالإطار العربي الخاص. فصحيح أنّ تجربة المركز هي أشبه بمعهد يتعامل مع مواد فكرية وثقافية وسياسية متعددة وبمشاركة محاضرين وحاضرين أكفّاء.. وصحيح أن في هذه التجربة تدريباً على أسلوب الحوار الجاد (كما في قسم حل النزاعات ببعض الجامعات conflict resolution) مع العلم أنّ في هذا «المعهد العربي الحواري» الكلّ تلاميذ والكلّ هم أيضاً أساتذة، والكلّ يُفيد بما عنده من معرفةٍ ورأي، ويستفيد بدوره من معرفة ورأي الآخرين.

صحيحٌ كلّ هذا، لكن المعنى الثاني من وجود «مركز الحوار العربي» يرتبط أيضاً بالهوية الثقافية العربية وبمضمونها الحضاري المميّز. فالحوار العربي أينما كان، وليس فقط من خلال تجربة المركز، أعتبره تعبيراً عن مسألتين متلازمتين معاً: هوية للواقع ودور للمستقبل. ان الحوار الأميركي/الأميركي مثلاً هو حوار بين أبناء أمّةٍ واحدة وثقافة واحدة ودولة واحدة وكيان سياسي واحد.. كذلك الأمر مثلاً بالنسبة للحوار الفرنسي/الفرنسي...

أمّا الحوار العربي/العربي، فهو حوار بين أبناء أمّة واحدة وثقافة واحدة لكنهم ينتمون إلى دولٍ متعددة. لذلك يصبح الحوار بين العرب حواراً لتأكيد الانتماء لأمّةٍ واحدة وثقافةٍ واحدة ولو كانت قائمة على دولٍ متعددة.. ففي هذا الحوار العربي حسم لمنطلق مهم هو وحدة الثقافة العربية ووحدة الانتماء إلى هويةٍ عربية واحدة.

ذلك، فإنّ أسلوب الحوار هو أمر عادي ربما في أميركا أو فرنسا بين أبناء البلد الواحد القائم على ضمانات للحريات العامة فيه، ومن ضمنها حرية المعتقد والقول والرأي.. لكن بالنسبة للعرب، فإنّ أسلوب الحوار هو قاعدة أساسية مطلوبة لإحياء وبناء مفاهيم ثقافية عربية تضمن وجود الرأي الآخر وحقه بالتعبير.

إنّ بداية تجربة «مركز الحوار العربي» في واشنطن، لم تكن فقط يوم افتتاح مقرّه في 18 ديسمبر 1994.. بل كانت عملياً قبل ذلك بسنتين أي منذ عام 1992 في لقاءاتٍ جرت بشكلٍ دوري شهري كانت تدعو لها مجلة «الحوار» التي تأسست عام 1989، وبعد أن نشرت «الحوار» افتتاحية بشكل نداء للمفكرين العرب، كان عنوانها: «الأمّة التي لا يفكّر لها أبناؤها تنقاد لما يفكّر لها الغرباء».

وقد شارك في هذه اللقاءات الشهرية عدد من المفكرين، كان بينهم الدكتور كلوفيس مقصود، الدكتور طه جابر العلواني، الأستاذ صادق سليمان والأستاذ محسن العيني، ثم توسعت دائرة المشاركين حتى وصل عددهم الثلاثين تقريباً، من أوطانٍ عربيةٍ مختلفة ومن آراء فكرية وطوائف دينية متنوعة.أشير إلى ذلك لأؤكّد اهتمام تجربة «مركز الحوار العربي» بالشأن الفكري وبضرورة القناعة بأنّ وجود تعددية فكرية في أي مجتمع تتطلب أيضاً تعددية سياسية في حياته العامة.

فوحدة الانتماء الحضاري ووحدة الانتماء الثقافي لا يجب أن تعنيا إطلاقاً وحدة الانتماء الفكري أو الانتماء السياسي .. ولا يجوز ولا يجب أن يكون اختلاف الفكر والتوجه السياسي سبباً للخلاف بين الأشخاص أو لصراعات عنفية بين الجماعات في المجتمع الواحد.

وإذا كان سؤال المرحلة الآن: (أين الأزمة.. في الفكر أو المفكرين؟) فانّ ذلك يؤكد أن الحل هو في الفكر، والحل هو في دور المفكرين، والحل هو في الربط بين الفكر والتطبيق.وهكذا هو المعنى الثالث ـ والدور أيضاً ـ من وجود تجربة «مركز الحوار العربي»: تأكيداً على أهمية الفكر وعلى أهمية دور المفكرين في إصلاح أوضاع العرب أينما كانوا...

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)