للمحامي كريم بقرادوني، الرئيس الحالي لحزب الكتائب "العريق" لكن المشرذم حاليا، صفات وميزات كثيرة يعترف له بها اخصامه ومحبوه على السواء. الا ان الميزة الابرز او الصفة الابرز هي إتقانه حرفة البقاء (Survival) رغم هبوب العواصف والتقلبات والتطورات. فاثناء رئاسته مصلحة الطلاب في الحزب قبل الحروب التي عصفت بلبنان عام 1975 نسج مع "اليسار اللبناني" و"فلسطينيي لبنان" علاقات حوارية مكنته خلال الحرب من القيام بادوار متنوعة، ثم نسج مع الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس ومحيطه علاقات وثيقة استطاع بواسطتها التحول محاورا لسوريا التي دخلت لبنان عسكريا على نحو رسمي في مطلع عهده. وجعل منه ذلك حاجة للحزب وتحديدا لمؤسسه ورئيسه وحاجة للدولة اللبنانية وحاجة لسوريا في الوقت نفسه.

في السنوات الاولى للحرب اصطف بقرادوني مع امين الجميل رئيس الحزب في الصراع السياسي وغير السياسي الذي كان دائرا بينه وبين بشير الجميل الابن الاصغر الذي كان صار قائدا للوحدات العسكرية او للقوى النظامية في الحزب. وهذه حقيقة يعرفها الاعلاميون وغيرهم جيدا نظرا الى تحول بقرادوني في ذلك الوقت وبعده مصدرا ثابتا لمعلوماتهم عن كل ما يجري في "المناطق الشرقية" وخارجها. ويعرفها الكتائبيون وانصارهم ولاسيما بعد اضطراره الى اللجوء الى حماية عسكرية في منزله وخارجه من قوى "الشرعية" في ذلك الحين. وعندما هبت الريح المحلية ثم الاقليمية فالدولية في اشرعة الشيخ بشير قبل انتخابه رئيساً للجمهورية ثم اغتياله، انتقل بقرادوني الى صفه فصار جزءا اساسيا من فريق عمله المتنوع. مثلما انتقل لاحقا الى صف الدكتور سمير جعجع الكتائبي بعد توليه قيادة القوات فتولى رئاسة الدائرة الاعلامية فيها اضافة الى مهمات ومسؤوليات اخرى الامر الذي جعله تقريبا ناطقا رسميا باسمها. وعندما بدا ان شمس جعجع بدأت في الافول في السنوات الاولى للطائف حسم كريم بقرادوني معركة رئاسة الحزب ، وكان ذلك في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، ومكتبه السياسي لمصلحة الراحل الدكتور جورج سعادة على حساب جعجع. واثناء محاكمة الاخير امام المجلس العدلي بعد اعتقاله عام 1994 وفي احدى مراحل هذه المحاكمة "توكل" بقرادوني عن جعجع وادلى بافادته، لكنه رغم كل ذلك بدا كأنه يمر في مرحلة انكفاء كبير ومرحلة "ملاحقة" سياسية رسمية، اذا جاز التعبير على هذا النحو، منعته اكثر من مرة هو الذي لا يستطيع ان "يقعد عاقلا" من امرار تركيبات انتخابية تمكنه من الامساك بالمكتب السياسي للحزب. استمر على هذه الحال الى ان فاجأ الكتائب اولا ثم انصارهم ثم اللبنانيين كلهم من مسيحيين ومسلمين باصطفافه مع رئيس الجمهورية العماد اميل لحود وبتحوله منظِّرا لسياسته ومدافعا عنها وعن السياسة التي كانت تنتهجها سوريا في لبنان وتنفذها عبر الدولة بكل مؤسساتها واجهزتها فضلا عن الحلفاء. وقيل الكثير عن هذا الاصطفاف ووصفه قريبون من بقرادوني في ذلك الوقت بأنه اصطفاف الضرورة لان الامتناع عنه كان سيودي به الى "تهلكة" ما. وصدّق الناس ذلك ولكن الحماسة التي مارس بها اصطفافه مع الرئيس لحود وحليفه السوري ازالت تعاطف الكثيرين حياله في ذلك الحين.

هل الدعوة التي اطلقها بقرادوني قبل يومين لجمع شمل الكتائب هي محاولة جديدة للبقاء على قيد الحياة السياسية ام اعتراف بواقع لبناني جديد لم يعد ممكنا تجاهله ام وفاء للحزب الذي اطلقه ورغبة في انهاضه على قدميه من جديد؟

الجواب عن سؤال متشعب كهذا ليس سهلا. لكن ما يمكن لفت النظر اليه هو ان الدعوة الى توحيد الكتائب وتجديده اتت بعد صدور حكم بدائي ببطلان الانتخابات الحزبية التي اوصلت بقرادوني الى رئاسة الحزب، وبعد تحقيق كتائبيي الرئيس امين الجميل ونجله بيار وقوات الكتائبي السابق سمير جعجع وحلفائهما ربحاً معقولا في الانتخابات النيابية الاخيرة في حين لم يجد بقرادوني وحزبه "مكانا" لهما فيها. ومن شأن ذلك اعطاء انطباع ان رئيس الكتائب يحاول اصابة عصفورين بحجر واحد الاول توحيد الحزب بعدما صار احزابا الامر الذي افقد الجميع وهو في المقدمة اي نفوذ او تأثير شعبي. والثاني المحافظة على موقع له داخل الحزب. الا ان من سمع وقرأ ما قاله بقرادوني قبل يومين وخصوصا دعوة كل من كانوا كتائبيين الى مؤتمر عام لتوحيد الحزب وتجديده يعتقد ان تكبير اطار الدعوة قد يكون لافشالها. اذ ماذا يجمع الآن "كتائب" الراحل الياس حبيقة مع "كتائب" الرئيس الجميل او مع "كتائب" الدكتور جعجع؟ علما ان بقرادوني كان في الماضي وايام احتدام المعركة بين جعجع والراحل جورج سعادة على رئاسة الحزب ينصح الاول علنا بالتخلي عن الكتائب وتأسيس حزب جديد باسم "القوات اللبنانية"، فماذا تغير اليوم لكي يصبح مع اعادة كل الاجنحة الى احضان الحزب الام؟

في اختصار ان "الرئيس" المحامي كريم بقرادوني "يلعب سياسة" حاليا كما يقال. فهو استعاد بعض انفاسه بعد نجاح حليفه الرئيس لحود في الصمود في موقعه حتى الآن على الاقل رغم كل الظروف الصعبة. ولذلك فانه يشعر انه يستطيع ان يحسّن مواقعه داخل الحزب المرمم اذا تمكن احد من ترميمه اولا من خلال الاعتراف من جديد بالكتائبيين الذين خاصمهم واحرجهم فاخرجهم وثانيا من خلال اقتناعه بان الحاجة اليه حزبيا في مجالات عدة، ابرزها الحكم وسوريا، لا تزال موجودة. لكن ترميم الكتائب اذا كان سينجح يقتضي اكثر من ذلك بكثير اذ يقتضي مراجعة من بقرادوني ومن كل الذين دعاهم الى العودة لتاريخ الحزب، وخصوصا اثناء الحروب الطويلة وفي المرحلة التي تلتها، وتقويما لها بحيث لا تبقى التناقضات قائمة. اذ كيف يستطيع بقرادوني الموالي في نظر مسيحيين كثيرين لسوريا ان يبرر موالاته هذه مع استمرار اقتناعه بمسيرة مؤسس الحزب ونجليه اللذين قضى اصغرهما اغتيالا؟ وكيف يستطيع الذين دعاهم ان يبرروا "تصالحهم" معه وخصوصا في حال استمرار خياراته المحلية والاقليمية؟ وكيف يستطيع في الجو الطائفي والمذهبي المشحون ان يرمم حزبا كان ولا يزال لطائفة واحدة او لابناء دين واحد مع الوعد بجعله عابراً للطوائف والمذاهب؟

مصادر
النهار (لبنان)