تختلف نظرة النّاس إلى كلمة السياسة باختلاف المجتمعات والنظم الدستورية القائمة فيها. فالسياسة في البلدان التي تحكمها أنظمة حكم ديمقراطية، تعني مشاركة في الحملات الانتخابية والتطوّع في العمل لصالح هذا المرشّح أو ذاك والانغماس العملي في قضايا وبرامج عمل وأنشطة حركية ترتبط باستحقاقات انتخابية محدّدة زمنياً.
أمّا في البلدان «غير الديمقراطية»، فإن السياسة تأخذ معنى أكثر جدّية والتزاماً، حيث يقترن العمل السياسي بأساليب وأطر حزبية يتحرّك معظمها في قوالب سرّية تضمن لها الوجود والاستمرار، في ظلّ قوانين تمنع أصلاً وجودها السياسي.
لكن هذا الفرز العام بين مفهوم السياسة في «الأنظمة الديمقراطية» ومفهومها في «الأنظمة غير الديمقراطية»، يتفرّع عنه أيضاً اختلافات بين من يمارسون السياسة لمصالح خاصّة فئوية، وبين من يستخدمون العمل السياسي من أجل خدمة مبادئ وأهداف عامّة يستفيد منها المجتمع ككل.
طبعاً السّمة المشتركة بين كلّ المجتمعات، بغضّ النظر عن طبيعة الحكم الدستوري فيها، هي ابتعاد أكثرية الناس عن العمل السياسي، ووجود ما يُعرف باسم «الأكثرية الصامتة» التي تتجنّب السياسة والسياسيين وترى فيهما شرّاً لابدَّ من الابتعاد عنه!
ويكبر حجم هذه «الأكثرية» كلّما كانت الممارسة السياسية في المجتمع قائمة على أساليب خاطئة أو على قناعة بفقدان الأمل في التغيير، أو على انحسار العمل السياسي في أشخاص وأطر حزبية ليست محلاً لثقة النّاس.
وقد يكون العامل النفعي أحياناً سبباً لدى البعض للابتعاد عن العمل السياسي، تخوّفاً من محاذير وانعكاسات سلبية على العمل أو المال أو الأهل، إلا أنّ هذا العامل النفعي قد يكون هو نفسه أحياناً أخرى وراء قرار البعض بالعمل مع هذا «الزعيم السياسي» أو تلك «الجماعة السياسية».
إذن، هي دوافع مختلفة للابتعاد أو الاقتراب من السياسة والعمل السياسي، وتتحكّم فيها أولاً وأخيراً، طبيعة الظروف والمجتمعات ومدى الحرّيات العامّة فيها.
في الحالات كلّها، أجد أنّ السؤال المشروع هو: هل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل الابتعاد عن السياسة يصلح الأوطان والمجتمعات؟!
بشكل معاكس لهذا السؤال، أجد أنّ الابتعاد عن السياسة ومشاكلها يزيد من تفاقم الأزمات ولا يحلّها، يصنع الفراغ لمنتفعين وانتهازيين يملأونه بمزيد من السلبيات، يترك الأوطان والمجتمعات فريسة سهلة للطامعين بها، ويضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق إذا انحصر «الساسة» فيها على أصحاب مفاهيم وأطر وأساليب انشقاقية.
إنّ كلمة «السياسة» في أصولها اللغوية ـ حسب مرجع «لسان العرب» ـ هي من «ساس الأمر سياسةً: أي قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة فعل السائس. يُقال: هو يسوس الدّواب إذا قام عليها وراضها، والوالي ـ الحاكم ـ يسوس رعيّته». ويكون الفرق هنا إمّا في أن نشارك وأن نختار من «يسوسنا» من أجل تحقيق الخير لأنفسنا ولأوطاننا، أو نترك لمن لا نثق بهم أن يقودونا إلى حيث لا نريد فنكون ضحايا ظلمنا لأنفسنا وظلم الآخرين لنا.
في الحاضر العربي، هناك مزيج من الأسباب التي تدفع الناس إلى السلبية وتجنب الانغماس في العمل السياسي. بعض هذه الأسباب مرتبط بأزمات هي من صناعة خارجية ناتجة عن احتلال أو تدخّل أجنبي سافر، وبعضها الآخر هو محصّلة تراكمات داخلية من عوامل سوء الحكم وتعثّر محاولات الإصلاح والتغيير السليم.
وقد أصبحت هناك علاقة جدلية بين سوء الأوضاع في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج، كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطَب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها. فكلّما غابت البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة في المجتمعات، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيد من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد. وتزداد المشاكل الداخلية تأزّماً كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج، من أجل ضمان استمراره في الحكم أو لمزيد من المصالح الخاصّة التي يوفّرها الخارج مؤقتاً، فإذا بها لاحقاً تصبّ بهم وبالأوطان معاً في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.
وللأسف ارتضت أقلام عربية أن تكون هي أيضاً عنصراً مساهماً في إشاعة مناخ السلبية والانقسام بين أبناء الأمّة العربية، فراحت تكرّر تصنيفات وتسميات كانت في العقود الماضية من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدم التحليلات السياسية لبعض الأقلام العربية!
فكيف سيكون هناك مستقبل أفضل للشعوب والأوطان والأمّة ككل إذا كان العرب مستهلكين إعلامياً بأمور تفرّق ولا تجمع؟!
أيضاً، هناك باعث آخر للسلبية لدى الناس سببه وجود «حالمين» يعيشون أوهاماً عن السلام مع عدو لم يعرف إلاّ لغة الحرب والقتل والدمار، وآخرين عاجزين عن الحرب لكنّهم يراهنون على المقاومة حتى آخر شهيد في الوطن الآخر!
كذلك هناك من يتحدّث في هذه الأمّة عن «يقظة دينية»، بينما هي لدى البعض عودة إلى «أصولية جاهلية» تهتمّ بالقشور ولا تركّز على مبادئ الدين وقيمه. ومسكينٌ هذا الجيل العربي الجديد الذي يتمزّق الآن بين تطرّف سلبي لا مبالٍ، وبين تطرّف جاهلي يدفع بعضه باسم الدين للعنف ولما هو أصلاً من المحرّمات الدينية.
إن الشعوب والمجتمعات ستنهض وتنخرط إيجابياً في العمل السياسي، حينما تتحوّل الحركات السياسية إلى قوى جامعة فعلياً لكلّ أبناء أوطانها، فلا تنسخ سيئات الواقع إلى داخل أفكارها وكوادرها.
إن «الشارع العربي»، بالمعنى السياسي، هو حالة تحرّك جماهيري عربي تتّصف بالشمولية الحركية، وبالوقوف خلف قضيةٍ واحدة، وبوضوح الهدف المطلوب إنجازه. فهل تتوفّر الآن هذه العناصر في المنطقة العربية بحيث تحدث حركة جماهيرية عربية واحدة؟
فالجماهير العربية لا تخرج من تلقاء نفسها إلى الشوارع، ما لم تكن هناك نقطة جذبٍ لها تدفعها للحركة وللتفاعل الحيوي معها. فأين هي نقطة الجذب العربية الآن؟ وهل هناك إمكان للفصل بين «القضية» و«القيادة» و«الأسلوب»، وهي عناصر جذب الجماهير العربية للتحرّك في الشوارع؟
هناك الآن حالة «تكيّف» عربي مع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتمزّق بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخل الأجنبي، ومع أوضاع الفساد السياسي والاقتصادي التي وصلت في بعض البلدان إلى حدّ العفن، غير أنّ من يعيشون فيها وحولها اعتادوا على رائحتها الكريهة..
حتى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية، فإن شعارات بعضها انتقلت من عموميات «الأمّة» إلى خصوصيات المذاهب والاجتهادات، كما انتقل هذا البعض في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح وما يجلبه من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
فبعدما كانت أهداف العرب في الخمسينات والستينات هي التوحّد بين الأوطان، أصبح الهمّ الأساس الآن هو الحفاظ على وحدة كل وطن من خطر التشرذم والتقسيم. وبعدما كانت الحرّية تعني تحرّراً من الاحتلال والتسلّط الأجنبي، أصبحت معايير الحرّية تقاس الآن بمدى «الاستقلال» عن العلاقة مع دول عربية أخرى! كذلك بتنا نرى التراجع في مسائل العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد وكيفية توزيع الثروات الوطنية.
الجماهير العربية تحرّكت وتتحرّك حين تكون هناك ثقة بأنَّ حركتها هذه ستؤدّي إلى تغييرٍ نحو وضعٍ أفضل، وبأنَّ قيادتها لن تخذلها أو توظّف حركتها لصالح قضايا ومصالح فئوية على حساب القضية الكبرى والمصلحة العامة.
ولعلّ هذا ما يفسّر كيف كانت حركة الشارع العربي زاهرةً ونابضة في الخمسينات والستينات، وكيف أنَّها ركدت وخبت في الربع الأخير من القرن الماضي، بعدما تحوّلت القضايا العربية المشتركة إلى «قضايا عربية متصارعة»، وبعد أن اشتعلت أكثر من حربٍ أهلية عربية في أكثر من مكان، وبعد أن شاخت حركة المنظمات السياسية العربية أو اتجهت في مساراتٍ فئوية ومحلية.
من هنا أهمية وجود القيادات والمؤسسات السليمة والأساليب الواضحة في إبعادها، إضافة إلى ضرورة معالجة الخلل ما بين القضايا العادلة وبين «المحامين» الفاشلين المتولّين الدفاع عنها.
إن سياسة «حسيبك للزمن» لن تثمر سوى تراكم السوء، فالإرادة الإنسانية مطلوبة في عملية تغيير أوضاع أي قوم حتى يغير الله ما بأنفسهم، والإنسان ـ الجماعة هو دائماً القوة الحاسمة في تغيير أي مجتمع وإصلاح أموره. ربما تكون السياسة شرا، لكن شر ما فيها أن لابدَّ منها.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)