تحرك الشمال الشرقي في سورية لم يأخذ مساحة أساسية في إعادة رسم الأزمة السورية، ورغم استعجال أنقرة في استيعاب ما قام به "الاتحاد الديمقراطي" (الكردي)، إلا أن الصورة الكاملة يمكن ان تتضح لاحقا على الأخص ذهاب التحليلات بعيدا في جعل الصراع القائم في الجزيرة السورية وفق نموذج جاهز
تحرك الشمال الشرقي في سورية لم يأخذ مساحة أساسية في إعادة رسم الأزمة السورية، ورغم استعجال أنقرة في استيعاب ما قام به "الاتحاد الديمقراطي" (الكردي)، إلا أن الصورة الكاملة يمكن ان تتضح لاحقا على الأخص ذهاب التحليلات بعيدا في جعل الصراع القائم في الجزيرة السورية وفق نموذج جاهز، فما يحدث عمليا هو تحولات حقيقية في شكل سورية وفي صياغة ازمتها التي دخلت على خط مختلف يوحي بأن الموضوع الكردي يمكن أن يغير من نوعية التحالفات الداخلية السورية.
عمليا فإن مباحثات السيد صالح مسلم في تركيا لم تقدم جديدا، رغم أنها تفصح عن رغبة تركية في ضم PYD (الاتحاد الديمقراطي) إلى الجبهة التي تحارب ضد الجيش السوري، لكن حسابات هذا الأمر تختلف عن أي فصيل آخر، ليس لأن "جناح" العمال الكردستاني في سورية، بل لتناقض الصراع القائم حاليا مع امتداد المسألة الكردية في سورية، فوفق سياق الأزمة سورية يمكن تسجيل ملاحظتين أساسيتين:
– الأولى أن مشاركة الأكراد في الاحتجاجات في سورية ظهرت وفق مسار مختلف لما كان يحدث في معظم المدن السورية، فلم يكن هناك عنف ولم يدخل الدم في تحركهم، وكانت تظاهراتهم تعاكس المسار الذي ظهرت فيه الأزمة السورية تحت عناوين ديمقراطية يشكل "الدم" جزءا أساسيا منها، فالحراك في الشمال الشرقي لسورية كانت تسيطر عليه هموما سياسية واضحة وليس مجرد "إسقاط للنظام" مهما كان الثمن.
– الثاني أن دخول الأكراد ضمن المعارضة السورية وخاصة فيما يطلق عليه "المعارضة الخارجية" سجل تجاهلا للمسألة الكردية على حساب حضور أشخاص، تماما كما حدث لكل الطيف السوري عبر اختصاره بشخصيات تم تجمبعها على عجل، لكن الفارق أن المسألة الكردية كانت مبنية بشكل مختلف عن المعارضة السورية، وهي تملك امتدادا إقليميا و "عصبية" مختلفة إضافة لنوعية علاقاتها مع الدول التي كانت عاملا في تعميق الأزمة السورية.
بالتأكيد فإن الصراع القائم اليوم يملك مؤشرات على أن المعارك تدور في دائرة حقول النفط، وأن ما بين الاتحاد الديمقراطي وجبهة النصرة صراع من الصعب التعامل معه وفق نمط تقليدي في "حشد العداء" ضد السلطة السورية، لأن الأزمة بذاتها لم تعيد تشكيل الأكراد داخل المساحة السورية بل وضعتهم في "التصور" القادم لسورية، الأمر الذي جعل تحركهم أكثر وضوحا بينما يمكن لـ"التمرد المسلح" في سورية أن ينسف هذا "التصور" لأنه يتناقض استراتيجيا معه، فالأكراد اليوم وعلى الأخص "الاتحاد الديمقراطي" يملكون أبعادا سياسية مختلفة تماما عن تكوين المعارضة في "الائتلاف"، وهم في المقابل يتحركون دون معارك مباشرة مع الجيش السوري، وحتى إن جرت مثل هذه المعارك فهي ثانوية لأبعد الحدود، ويؤشر تحركهم إلى ثلاثة أمور: الأول ان المسألة بالنسبة لهم تتجاوز الحفاظ على الوجود الكردي إلى إعادة تأصيل هذا الوجود في أي مشهد قادم، فهم يتحالفون مع العديد من القوى في محيطهم، وهم أيضا يتعاملون إقليميا دون أن يدخلوا في لعبة التحالفات التي تضعها تركيا او السعودية أو حتى قطر سابقا.
الأمر الثاني لا ينظر التحرك الكردي الحالي إلى الدولة على أنها عدوا يجب سحقه، أي أنهم أبعد ما يكون عن "الكتائب" التي ظهرت وحاولت خلق ما هو معروف بفكر تنظيم القاعدة "إدارة التوحش"، فالمعنى الأساسي هنا أن التحرك الكردي ميز بوضوح بين التوجهات السياسية ومؤسسات الدولة، ورغم الفوضى الحاصلة اليوم في "الجزيرة السورية"، لكن كل التطورات حدثت عندما تم فتح المعابر في الشمال الشرقي لـ"المجاهدين"، وقبل ذلك كان الحراك الكردي يظهر بوضوح دون تأثيرات على الأداء العام للدولة.
الأمر الثالث هو أن الخطاب السوري وعلى الأخص مع بداية معارك رأس العين قبل أشهر عديدة، اعتبر ما يجري تحرك شعبي ضد الارهابيين، وهو لم يسمي الأكراد بشكل مباشر لكنه اعتبر معارك رأس العين الأولى نموذجا هاما في الصراع القائم، وبالنسبة للأكراد فإن هذا الأمر لم يضعهم في "جبهة السلطة" بل منحهم شرعية الدفاع عن مناطق تواجدهم كمواطنين في مواجهة حالة من الفوضى على طول الحدود السورية التركية.
وعلى عكس باقي الحدود مع تركيا فإن الشمال الشرقي لسوريا يشهد صراعا لجعلها بوابة مغلقة تجاه حركة الجهاد، وهو مؤشر على وضوح في الحراك في تلك المنطقة، وبالتأكيد فإن الصراع يمكن أن يتخذ مسارات مختلفة، لكن المسألة الكردية في سورية اتخذت "تصورا" يريد البعض الحفاظ عليه، بينما تسعى الحكومة التركية إلى تحويله لعامل فوضى داخل الأزمة السورية.