لا حاجة لوصف مفصل لأزمة التعليم العالي العربي، فقد جرى استعراضه في أوراق ودراسات عدة، والأهم من ذلك أن الحديث عن الأزمة عمم بحيث بات أي موطن قادراً على تشكيل انطباعه الخاص به حول المأزق من كمية الخريجين العاطلين عن العمل وحتى مستوى التعليم الجامعي. ولا شك بوجود عدد من الأبطال في بعض قاعات الجامعات والمختبرات يذودون بأجسادهم عن مستوى وشرف الأستاذ الجامعي، ولا يستسلمون لقاعدة صناعة الشهادات والتخريج الجماهيري. ولا شك بوجود بضع جزر تسمح على الاقل للطالب المتميز أو المجتهد أن يتخرج بمستوى جيد يمكنه من العمل في مؤسسات كبرى أو اكمال دراسته في جامعات ممتازة. ولكن حاجة المؤسسة التعليمية إلى أبطال هي الدليل نفسه على مأزق التعليم العالي. والاستثناء هنا يؤكد القاعدة.

ولا شك ان جماهيرية التعليم العالي وفتح بابه لفئات واسعة، وتشغيل أعداد هائلة من خريجي الجامعات نفسها في التدريس فيها في ترجمة مأسوية لعملية التكاثر الطبيعي تركا أثراً سلبياً على المستوى. والمتهم ليس جماهيرية التعليم، والحل ليس العودة الى قصره على النخبة، بل المذنب هو الدولة والمجتمع اللذان لم يستوعبا جيوش الطلاب كما لم تستوعب المدينة جيوش المهاجرين من الريف فـ «تريفت» بدل ان تمدنهم. وتحول جماهيرية التعليم الى إفقار العملية التعليمية هو الوجه الآخر لـ «ترييف» المدينة. المجتمعات نفسها التي لم تستوعب مدينتها الهجرة الريفية، لم تستوعب جامعاتها جماهيرية التعليم، فتحولت من جامعات وطنية واعدة يدرَس فيها خيرة الخريجين العرب من الجامعات الغربية بتفانٍ كأصحاب رسالة وطنية وقومية وتنويرية، الى جامعات تتعرض لضغط اجتماعي لقبول وتخريج اعداد أكبر، وحل مشكلة بطالة لأعداد أكبر من الخريجين بتشغيلهم، وتتدنى فيها المعايير الأكاديمية.

وفيما عدا الدراسة في الخارج، وقد كانت وما زالت خياراً فردياً، تجلى المخرج بالنسبة لبعض الفئات المجتمعية في إقامة معاهد خاصة تجارية الطابع، اي أقيمت بهدف ربحي، بحيث تضمن هذه الفئات شهادة معقولة في أجواء نخبوية لأبنائها في فروع وعلوم مهنية الطابع، مثل إدارة الأعمال والمحاماة والصيدلة والبرمجة وغيرها. وتساهلت الدولة مع هذه العملية ورخصت لها واعترفت بها لأنها تحررها من مسؤولية أوعبء تطوير التعليم الجامعي. والحقيقة أنه لا مجال للحديث عن تطوير علمي وبحثي حقيقي ناهيك عن أجندات اجتماعية تنموية في مثل هذه المعاهد. فهي ربحية الطابع، والبحث العلمي غير ربحي، وهو على الأقل استثمار ذو مردود مالي غير مضمون على المدى القصير. وتفريغ الاساتذة، وتحرير جزء من وقتهم من التدريس لغرض البحث في العلوم الاجتماعية والآداب والفلسفة، ليس مربحاً مالياً لا على المدى القصير ولا البعيد. ولكن دون هذه الأبحاث لا معنى لدور الجامعة التنويري أو الوطني في بناء الامة.

ومن يستثمرون في التعليم كعملية ربحية من خلال بناء مدارس وجامعات خاصة يطمحون ويحققون مردوداً مالياً سريعا لاستثماراتهم. وهذا يعني مصنع شهادات بمستوى معقول في فروع تعتبر مهناً مطلوبة ومرغوبة الى درجة دفع أقساط عالية. ولكنه لا يعني إنتاجاً علمياً بمستوى معقول. ومن يفصل بين تعليم خاص وعام لا يميز في الواقع بين التعليم كاستثمار بهدف الربح وبين التعليم كعملية اجتماعية غير ربحية قائمة على اعتباره خيرا عاما. فغالبية الجامعات الخاصة الشهيرة ذات المستوى الرفيع والانتاج العلمي في الغرب حيث توجد كما في حالتي بريطانيا والولايات المتحدة، خلافا لفرنسا والمانيا، هي جامعات خاصة فعلا، ولكنها ليست مشاريع لهدف الربح، إذ تملكها مؤسسات أو جمعيات علمية خاصة. وهي تجمع بين الاستثمار في التعليم من قبل صناديق صناعية وغيرها وبين التبرعات والوقفيات العائلية الخيرية واقساط الطلاب، وهي لا تربح، ولا تقام بهدف الربح، بل تستثمر مردود وقفياتها وأقساطها وغيرها في تطوير عملية التعليم وفي الأبحاث. وإلى جانبها تقوم جامعات دولة أو ولاية ممتازة في الكثير من الحالات. والامثلة أكثر من أن تعدد في مقال.

وقد قامت بعض المؤسسات الخاصة والتبشيرية من هذا النوع في لبنان في نهاية القرن التاسع عشر وحملت شعلة النهضة والتنوير وأسست للتعليم الجامعي العربي ذي المستوى الرفيع، وما زال بعضها مستمراً في حمل الرسالة. ولكنها رغم كونها خاصة، إلا انها لم تكن مؤسسات ربحية تجارية. إنها بمعنى ما عكس معاهد التعليم العالي التجارية الخاصة التي تنتشر حاليا بهدف الربح.

تحل هذه المعاهد التجارية مشكلة المهن لأقلية، ولكنها تحرم منها قسما كبيرا من الناس، اذ تدفع أجورا أعلى وتفرغ الجامعات الرسمية من عدد من الأساتذة الجيدين الذين سئموا من بذل جهدٍ لا تقدير له، والتعامل مع أجهزة بيروقراطية، ولا يحتملون الضغط الاجتماعي للمجتمع الاستهلاكي على عائلة حامل شهادة دكتوراة يتوقع ابناء عائلته أن يعيلهم بشكل معقول على الاقل، وذلك في غياب التقدير والمكانة التي كان يحظى بها في الماضي وتعوضه عن المعاش المتواضع.

ونحن إذ نحاول ان نجيب عن بعض الأسئلة التي يتجنب التيار القومي الاجابة عليها، ويجب ان يجيب عليها اذا اراد ان يتحول الى تيار قومي ديموقراطي يحمل هموم الجماهير ويطرح حلولاً لمشاكل الناس والمجتمعات، ولا يكتفي بالتخصص في الصراع مع إسرائيل أو أميركا، ننطلق من ان كل ما يمس جسد وروح الإنسان مثل الصحة والتعليم هو خير عام مثل الماء والهواء والأرض والأمن. وهذه أمور يجب الا تخضع لقوانين الربح. ولذلك يجب ان يكون التعليم الجامعي حقا عاما. ولا يكفي ان يكون حقا عاما لا تستوعب الدولة الجماهير التي تقذف بها الى الجامعات، وترميها هي كعاطلين عن العمل الى الشوارع، بل يجب ان يستثمر في التعليم لكي يتم استيعاب الأعداد وتخطيط السياسة التعليمية في تنسيق بين الدولة والقطاع الخاص ومتطلباته، ومتطلبات التنمية وبناء الأمة وبرامج تدريسها والأبحاث التي ينبغي ان تشجع في الآداب والتاريخ والعلوم الاجتماعية ايضا. ويفترض ان تجري هذه العملية برمتها من خلال عملية تفاعل مع المؤسسات الجامعية العالمية.

وأحد الحلول لتخفيف الضغط المجتمعي العددي على الجامعات هو التمييز بين كليات تدريس للدرجة الجامعية الاولى، وجامعات تدرس للشهادة الاولى أيضا، ولكنها تشمل الإنتاج المعرفي المنظم والبحث والشهادات العليا. والتمييز بين الكلية والجامعة لا يكون بالقسط الدراسي، بل يتم القبول فيها استناداً الى إنجازات الطالب وإمكانياته وخياراته.

لا يمكن للتعليم التجاري ان يضطلع بأي من هذه المهمات. فالاستثمار في البحث غير مجدٍ له. وهو لا يتخيل حتى الاستثمار في الطالب أو المدرس لكي يتطور علميا. ففي مثل هذه الحالة لن تكون جامعة واحدة ربحية في العالم مهما ارتفعت اقساطها، لان الاستثمار في العلم والبحث، وفي ساعات البحث على حساب ساعات التدريس وفي المرافق مكلف إلى درجة أنه غير ممكن من دون معونات من الدولة او صناديق وأوقاف من رأس المال الخاص. والتعليم الخاص هو أيضا بعيد جدا عن الأجندة المجتمعية وعملية بناء الامة والمواطن.

لا بديل إذا عن وضع برنامج من قبل دولة عربية او دول عربية عدة لتطوير التعليم الجامعي الخاص والعام غير الربحي وغير التجاري، والامتحان هو ضمان الحرية الأكاديمية في العلوم الطبيعية والاجتماعية وزيادة حجم الاستثمار في التعليم من الميزانية، وحماية الإدارة النزيهة للجامعات من الضغط السياسي والاجتماعي المعادي للمعايير العلمية في التوظيف وغيره.

لم يعد ممكنا تصور بناء مجتمع حديث من دون سياسة دولة وسياسة مجتمعية بشأن التعليم العالي، وذلك لأن هناك حاجة لتحديد حجم الإنفاق على التعليم بما في ذلك التعليم العالي من مجمل الدخل، ولملاءمة مستوى ومناهج التعليم الجامعي مع التطور العلمي في العالم، ولأن هنالك حاجة للاستثمار في البحث العلمي، وهذا أمر غير ممكن من دون استثمار مجتمعي بعيد المدى، ولأن الآلية المفحوصة لجسر الهوة بين الطبقات والفئات الاجتماعية هي التعليم الجامعي، أولاً كأداة حراك للفئات الاجتماعية ولتقليص التفاوت بين الغني والفقير. وثانياً لأنها الموقع الأهم لبناء نخب الأمة وقياداتها ولعملية جسر الهوة الثقافية والقيمية. في الجامعة يلتقي طلاب من نواح وطوائف وعشائر مختلفة، كما لا يلتقون في المدرسة التي باتت محلية في غالبية الحالات، وامتحان الجامعة يكمن في تحويلهم ولو بتفاوت الى نخبة وطنية واسعة متعلمة وحرة التفكير.

التعليم الجامعي مكون أساسي من عملية بناء الأمة بثلاثة أعمدة: 1- جانبها العلمي يقوم على التفكير الحر وتشجيع النقاش والنقد والبحث، وإخضاع هذا كله لمعايير ومقاييس علمية كونية في سياق عصرها. وحرية الرأي الجامعية ليست ثرثرة كسولة بل هي حرية الرأي النقدية التحليلية القائمة على بذل الجهد في الوصول الى المعلومات وعلى المنهج الذي ينظمها. ولكن يجب أن نذكر دائما أنه لا يمكن توفير دراسة جامعية حقيقية من دون أجواء من الحرية الأكاديمية. 2- ويقوم جانبها المجتمعي على بناء المواطن المنتمي الى وطن ولغة وثقافة، والواعي لفرديته وحقوقه كمواطن. الجامعة وطنية بلغتها وثقافتها وأجندتها، ولكنها كونية بآفاقها وبمعاييرها العلمية.3- لا توجد جامعة من دون بحث علمي، فالجامعة ليست مجرد مكان للتعليم والتعلم، اي هي ليست امتداداً للمدرسة الثانوية. والبحث العلمي يحتاج إلى استثمار وإلى تقدير اجتماعي، كما يجب ان يتحول الى معيار في تشغيل وتوظيف الأساتذة، اي يجب ان يفحص سنوياً كم وكيف انتاجهم العلمي، ووضع المعايير لمثل هذا الفحص.

لقد تم عملياً إضعاف هذه العناصر وتفريغها من مضمونها في التعليم الجامعي العربي، بدءاً بالحرية الأكاديمية وتحديدها بتدخل من قبل الدولة، وحتى من قبل التيارات السلفية على أنواعها، ونهاية بالاستثمار في البحث العلمي واعتبار الأخير أساسا ومعيارا للنجاح والفشل. وفي بعض الدول حصل الأخطر إذ وجد الفساد المستشري في مؤسسات الدولة طريقه الى المؤسسة الجامعية وفي نظام التعيينات والترقية بدل معيار النجاح في البحث والتدريس.

ولم يعد ممكنا طرح بديل مجتمعي وسياسي من دون معالجة هذا المجال فهو مصدر خبرائنا ومهنيينا ومدرسينا وسياسيينا وصحافيينا وغيرهم. ولا عذر فالكوادر اللازمة لطرح وبناء البدائل متوفرة فعلاً.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)