تتعدد الأسباب وراء الارتفاع السريع لأسعار النفط. فثمة من يقول ان السبب في عدم أخذ الدول الأعضاء في منظمة «أوبك» زمام المبادرة إلى رفع الإنتاج لتحقيق التوازن اللازم في الأسواق العالمية بين العرض والطلب. وحقيقة الأمر ان لا نقص فعلياً في الأسواق، إذ يعود القلق القائم إلى تخوف من انقطاع مفاجئ في الإمدادات المستقبلية لأسباب سياسية أو طبيعية أو صناعية، لأن حجم المخزون التجاري من النفط، خصوصاً في الدول الصناعية الغربية، هو في حدود المعدلات التي كان عليها في السنوات الخمس الماضية. أما الانتقادات الموجهة إلى «أوبك»، من وكالة الطاقة الدولية، فتتلخص في ان دول المنظمة لا تزيد الإنتاج بما فيه الكفاية لتمكين الدول الصناعية الغربية من تعويض المسحوب من المخزون التجاري في الأشهر الماضية.
تنتقد دول «أوبك» الدور الذي يلعبه المضاربون في أسواق النفط، لأن استثماراتهم اليومية فيها تُقدر بعشرات بلايين الدولارات، فيما يفوق حجم صفقات النفط التي يتعاملون بها يومياً عشرات أضعاف حجم إنتاج دول «أوبك» ذاتها، ولا يقابل، من ثم، تأثيرَهم ونفوذَهم الكبيرين في أسواق النفط، أيُّ مسؤولية تذكر منهم في تطوير صناعة النفط ذاتها.
يشار الى الصين هذه الأيام كأحد الأسباب الرئيسة وراء ارتفاع الأسعار، على رغم استنكار المسؤولين الصينيين هذه «التهمة». وتتلخص حجتهم في ان المتغير الأساس، بعد التحولات السياسية والاقتصادية المهمة في هذه الدولة الكبرى، يتمثل في ان الصين كانت دولة مصدرة للنفط حتى عام 1992، ولو بكميات قليلة.
إلا انها في ظل النمو الاقتصادي المستدام في السنوات الأخيرة وعدم اكتشاف حقول نفطية عملاقة جديدة في البلاد، اضطرت إلى استيراد ثلاثة ملايين برميل يومياً، ما رفعها إلى مقام الدولة المستهلكة الثانية في العالم، بعد الولايات المتحدة وقبل جارتها اليابان. ويضيف المسؤولون الصينيون ان استهلاكهم للنفط البالغ نحو 6.6 مليون برميل يومياً، هو نقطة في بحر الاستهلاك العالمي الإجمالي البالغ نحو 85 مليون برميل يومياً.
تحولت الصين من دولة مصدرة للنفط إلى دولة مستوردة مهمة، وتحققت زيادة هائلة في معدل الاستهلاك السنوي خلال العقدين الماضيين، إذ تضاعف حجم استهلاك النفط في السنوات العشر الأخيرة وحدها. وغيرت هذه التحولات الصينية ميزان العرض والطلب العالمي بصورة أساسية. فقبل التغيرات في الصين، كانت سوق النفط تستند أساساً الى المتغيرات الاقتصادية في الدول الصناعية الغربية، إذ انخفض المعدل السنوي لزيادة استهلاك النفط في كل من أوروبا واليابان إلى درجة كبيرة، وبقي يرتفع بمعدلات معقولة في الولايات المتحدة فقط، بسبب الاستهلاك المرتفع للبنزين هناك، الذي يفوق حالياً تسعة ملايين برميل يومياً.
وانعكست هذه الصورة على مستوى الأسعار العالمي، التي بقيت في حدود 20-25 دولاراً حتى عام 2003، حين بدأت الزيادة الكبيرة والملحوظة في استهلاك الصين، والتي رافقها في الوقت ذاته إضراب عمالي كبير في فنزويلا أدى إلى نقص كبير في إنتاج البلاد، وتدهور طاقتها الإنتاجية بواقع 400 ألف برميل يومياً، وهي ما زالت تعانيه حتى اليوم.
وبدأت في أوائل عام 2003 الاضطرابات السياسية في نيجيريا، وشنت «حركة تحرير دلتا النيجر» حرب عصابات ضد الحكومة الفيديرالية شملت تخريب المنشآت النفطية، ما أدى إلى وقف نحو 900 ألف برميل يومياً من الطاقة الإنتاجية لنيجيريا، أو ثلث طاقة البلاد تقريباً. ولا تزال أعمال التخريب قائمة حتى يومنا هذا، وان بمعدل أقل.
وشنت الولايات المتحدة حربها على العراق في ربيع 2003، ما أدى إلى توقف الإنتاج العراقي أشهراً. لأعمال التخريب وسوء الإدارة منذ تلك الفترة، لم يعد الإنتاج العراقي إلى مستوياته السابقة، واستمر يراوح حول مليوني برميل يومياً، بدلاً من اكثر من 2.5 مليون برميل يومياً الذي بلغه عام 2002. يضاف اليها التهديدات المستمرة ضد إيران بسبب أزمة الملف النووي.
من الواضح، إذاً، ان دور الصين هو أحد عوامل دولية كثيرة متشابكة ومعقدة تتداخل في تحديد مستوى أسعار النفط. وأدت هذه العوامل معاً إلى ولوج النفط حقبة جديدة على مستوى الأسعار. ويُعتقد، وهذا تخمين فقط، بأن النطاق الحالي للأسعار هو في حدود 50-80 دولاراً. أما في حال حدوث اضطرابات معينة، مثل التهديدات العسكرية التركية ضد كردستان العراق هذه الأيام، فيجب ان نتوقع ارتفاع الأسعار إلى أكثر من 80 دولاراً، كما يحصل الآن. ومن الصعب توقع مستوى الأسعار الجديد في حال نشوب صراع مسلح مع إيران.
لكن على رغم كل هذا، يتوقع ان تبقى الصين لاعباً أساساً في السوق العالمية للنفط في المستقبل المنظور. فهذا البلد العملاق يخطط لنقل نحو 300 مليون نسمة من الريف إلى المدن في حلول عام 2025، ويعني ذلك ان الزيادة في عدد سكان المدن الصينية تساوي تقريباً العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة اليوم. والتحول من الريف إلى المدن سيعني طبعاً زيادة كبيرة في استهلاك الطاقة، من بنزين وكهرباء. فالعيش في المدن يتطلب مستوى أعلى، وأنماطاً استهلاكية تختلف كلياً عن تلك السائدة في الريف، ما سيوجب زيادة في معدلات استهلاك الطاقة تفوق كثيراً الوضع الحالي.