المتحمسون لإعلان استقلال كوسوفو على أساس كونها دولة مسلمة، هم أشبه بالهر الذي يلحس المبرد، أو بالسمكة التي تبتلع الطعم لتجد نفسها بعد قليل في سلة الصياد الذي رمى به إليها.
لا شك في أن الانتصار لشعب مظلوم، أينما كان هو واجب إنساني تفرضه الرابطة البشرية، وأن هذا الانتصار يصبح ملزماً أكثر عندما تكون بينك وبين المظلوم رابطة أخرى أقوى من مجرد رابطة انتمائكما لآدم وحواء. غير أن ذلك لا يجوز أن يجرك إلى مقارنات ومواقف ستكون بلادك أول من يدفع ثمنها. ذاك ان إعادة مفهوم الدولة الدينية أو الدولة العرقية إلى الواقع الدولي بعد أن انقرض هذان المفهومان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو زرع متفجرة عنقودية في كل دولة مكونة من تعددية أعراق وتعددية أديان. ولا شك في أن العالم العربي يأتي في مقدمة هذه الأمم. وإذا كانت التعددية في الحالات السليمة مصدر غنى وارتقاء حضاري، فإنها في حالات المرض الفئوي تتحول إلى عامل تفتيت وتدمير ذاتي. حقيقة وعاها الاستعمار الغربي منذ أصبحت الامبراطورية العثمانية رجلاً مريضاً، وتهيأ هو لوراثتها، فراح يزرع الألغام الطائفية والمذهبية والعرقية، ليخلق المشكلة الكردية في العراق، والأمازيغية في المغرب، والطائفية في لبنان ومصر والسودان وأخيراً المذهبية في معظم الدول العربية، تفتيت تضاعف وتعاظم مع احتلال العراق، وبات يهدد كل دولة عربية بإخراج خاص للتفجير.
من هنا نكون نحن آخر من يحق له أن يصفق لأي تقسيم عرقي أو ديني أو طائفي، وإذا ما وجدنا أن من واجبنا الانتصار لمظلوم في هذا العالم على أساس الاخوة الإسلامية، فإن هذا الانتصار يجب أن يتم ضمن اطار حقه في التمتع بالحقوق الكاملة والمساواة ضمن دولته.
ولعل أطرف ردات الفعل المعبرة عن اختلاط المفاهيم، وغياب المنطق والوعي، هي تلك التي أصابت مسؤولاً فلسطينياً بالحماسة فراح يدعو إلى إجراء مماثل في فلسطين، ولكنه لم يسمع بالمثل الشعبي الإنجليزي القائل بأنه “لا تجوز مقارنة الاجاصة بالتفاحة”. فهل كانت قضية فلسطين يوماً مجرد قضية اضطهاد ديني أو عرقي؟ وهل كانت فلسطين يوماً جزءاً من دولة “إسرائيل” وهي اليوم تتهيأ للانفصال عنها وإعلان استقلالها؟ وهل هذا الاستقلال يأتي ثمرة لمشروع أمريكي اطلسي طويل الأمد، كذلك الذي عمد إلى تأجيج الأوضاع في البلقان، وتزكية الصراع الديني والاثني العرقي وصولا إلى زرع الأطلسي مكان الاتحاد السوفييتي في منطقة البلقان، وبالتالي الاقتراب أكثر من البوابات الروسية، ليأتي إعلان الاستقلال الآن واحداً من الردود على تحدي بوتين للأحادية الأمريكية في العالم. والدليل أن أول المعترفين كانت الولايات المتحدة وتلاها من ورث سعيداً توني بلير، بعد أن تحول هذا الأخير إلى تولي الملف الفلسطيني (ولله في خلقه شؤون وغرائب). ألا يعرف هؤلاء أو يذكرون كيف هبت مادلين أولبرايت، إلى تحرك دؤوب لا ينام الليل كي تمنع حصول حل سلمي لأزمة يوغسلافيا السابقة، يعيد الدولة إلى سيادتها والناس إلى تعايشهم، بعد أن كان بعض الأوروبيين وروسيا قد توصلوا إليه مع فرقاء الحرب الأهلية في البلاد؟ ثم هل كوسوفو كانت تخضع لاحتلال صهيوني استيطاني إحلالي يستورد المستوطنين من كل أنحاء العالم ويبني لهم المدن على أراضي المواطنين الأصليين؟
غير أن السؤال الأكثر خطورة في هذا السياق هو: ألا يعرف أن مقارنة فلسطيني لقضية بلاده بقضية كوسوفو هي إعطاء ضمني للصفة الدينية العرقية للصراع في فلسطين، وهذا ما يدفع الصهاينة ثمنه ذهباً. إن الصراع في فلسطين هو صراع قومي بالمعنى الاجتماعي التاريخي، لا بالمعنى العرقي العنصري. صراع يتقابل فيه طرف عنصري آحادي، يبني مقولة قوميته وكونه شعباً وكون له الحق في فلسطين، باختصار كل مشروعه ومبرر وجوده، على الدين، بل وتفسير معين للدين، يلغي كل آخر ويحتقره ولا يرفعه إلى مصاف الإنسان. في مقابل طرف عربي يبني وجوده القومي ووجوده على أرضه وحقه عليها على مسار تاريخي ألفيّ شكل على هذه الأرض أمة متواصلة متميزة بتعدد أديانها، واثنياتها وقبول كل منها للآخر في إطار مواطنة لم تعرف يوماً في تاريخها نفي الآخر والاعتداء على حقوقه الوطنية والدينية والإنسانية. بل على العكس احترمتها بأمر من تعاليم الدين نفسه.
باختصار شديد: سلاحنا وحجتنا الأقوى في مواجهة المشروع الصهيوني هي تعدديتنا عبر وجودنا التاريخي المستمر على أرضنا، مقابل عنصريته الأحادية عبر وجود أتباعه تاريخياً في مختلف مجتمعات العالم، ولملمتهم والمجيء بهم لاحتلال أرضنا، ومقولة من نوع المقارنة بكوسوفو تشطب كل هذا وتقدم للصهيونية هدية ثمينة.
هذا عدا عن الجانب السياسي الدولي الأوروبي، وهو أن مسألة البلقان كلها لا تهدف إلا إلى إضعاف روسيا وتثبيت الولايات المتحدة على قمة الهرم الدولي. فهل يأتي هذا في مصلحتنا؟
ثمة فارق بين التمسك بالإسلام كمكون أساسي لهويتنا الحضارية العربية الإسلامية، وبين انجرافنا في غمرة الشعور الديني لتبني سياسات تصب أولا في مصلحة تدميرنا وتدمير هذه الحضارة نفسها.
ان انفصال كوسوفو هو أشبه بانفصال جنوب السودان أو انفصال كردستان أو انفصال جنوب العراق أو انفصال القبائل في الجزائر أو انفصال طرف ما في لبنان، ولا يغير في الأمر شيئاً كون مسلمي كوسوفو قد تعرضوا للاضطهاد الذي تتوجب ادانته، ولا يعجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل له يضمن لهم حقوقهم وكرامتهم وخلاصهم منه.