لم تنفك الصحافة الغربية تردد: بمغادرتهم الاتحاد الأوروبي، عزل البريطانيون أنفسهم عن بقية العالم، مما سيرتب عليهم عواقب اقتصادية وخيمة.
مع ذلك، فإن الانخفاض في أسعار صرف الجنيه الإسترليني يمكن أن يكون ميزة داخل حلف الكومنولث، الذي يعتبر عائلة أوسع من الاتحاد الأوروبي، والمتواجد فوق القارات الست من العالم.
بعقليتها البراغماتية، يمكن ل (سيتي أوف لندن) أن تصبح قريبا، مركزا عالميا لليوان، وتثبيت العملة الصينية داخل الاتحاد الأوروبي نفسه.
الولايات المتحدة لا تزال قلقة بشأن قدرتها على إقناع الاتحاد الأوروبي بالمشاركة بنشاط في حلف شمال الأطلسي، واستعداد المملكة المتحدة لمواصلة التحالف العسكري الذي أسساه سوية منذ عام 1941 للسيطرة على العالم.
لأنه، وخلافا لادعاءات القادة الأوروبيين، "الخروج" لايعزل المملكة المتحدة، بل يسمح لها بالعودة إلى الكومنولث، وإقامة اتصالات مع الصين وروسيا.
تطويع الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي
كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تعتزمان دفع أعضاء الاتحاد الأوروبي، للإعلان عن زيادة ميزانياتهم العسكرية إلى 2% ، من الناتج المحلي الإجمالي، في قمة الحلف المزمع عقدها في وارسو يومي 8 و 9 تموز-يوليو 2016.
فضلا عن ذلك، هناك خطة انتشار لقوات عسكرية على الحدود الروسية يتعين اعتمادها، تشمل إنشاء وحدة لوجستية مشتركة، من الناتو، والاتحاد الأوروبي، تسمح بتجميع مروحيات، وسفن، وطائرات بدون طيار، وأقمار صناعية.
كانت المملكة المتحدة حتى الوقت الحالي، أكبر مساهم في الاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع، مع ما يقرب من 15٪ من ميزانيته الدفاعية. بالإضافة إلى ذلك، كانت المملكة المتحدة تقود عملية أتلانتا لتأمين حركة الملاحة قبالة سواحل القرن الأفريقي، فضلاً عن نشرها لسفن حربية في البحر الأبيض المتوسط.
أخيرا، كان من المنتظر أن تقدم المملكة المتحدة قوات عسكرية، لتشكيل مجموعة ة قتالية تابعة للاتحاد الأوروبي. مع "الخروج"، أصبحت كل هذه التعهدات لاغيه.
بالنسبة لواشنطن، فإن السؤال هو، ما إذا كانت لندن، ستقبل أم لا، زيادة الاستثمار المباشر في حلف شمال الأطلسي- بوصفها المساهم الثاني فيه- للتعويض عن ما ماكانت تقوم به داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن من دون أن تحصل على أي فوائد خاصة.
على الرغم من أن مايكل فالون، وزير الدفاع البريطاني الحالي قد وعد بعدم تقويض الجهود المشتركة لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، غير أن أحداً لا يرى، لماذا ستوافق لندن على وضع قوات جديدة تحت قيادة أجنبية.
لذلك، وبشكل خاص، طفقت واشنطن تشكك في استعداد لندن على مواصلة التحالف العسكري الذي أنشأته مع التاج البريطاني منذ عام 1941.
يجب علينا بالتأكيد ، ألا نستبعد احتمال أن يكون "الخروج"، مجرد تمثيلية من البريطانيين لإعادة خوض مفاوضات، لمصلحتهم، " بعلاقتهم الخاصة" مع "الأمريكان."
مع ذلك، من المرجح جدا أن تأمل لندن توسيع علاقاتها مع بكين، وموسكو، من دون التخلي عن مزايا تفاهمها مع واشنطن.
الوكالات السرية الأنغلوسكسونية
خلال الحرب العالمية الثانية، وحتى قبل دخولهم الحرب، أبرمت الولايات المتحدة، اتفاقا مع المملكة المتحدة، موضحاً في ميثاق الأطلسي [1]. يلزم الاتفاق البلدين على الاتحاد، لضمان حرية الملاحة البحرية، وتوسيع نطاق التجارة الحرة.
تبلًورَ هذا التحالف مع اتفاق "خمسة عيون" الذي يستخدم حاليا كأساس للتعاون بين 17 وكالة استخبارات، تتبع لخمس دول مختلفة (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة،فضلاً عن ثلاث دول أخرى أعضاء في حلف الكومنولث، وهم : أستراليا، كندا، ونيوزيلندا.)
تثبت الوثائق التي كشف عنها إدوارد سنودن، أن شبكة "اشيلون" في شكلها الحالي، هي وكالة استخبارات عابرة للدول الوطنية، لا تستجيب لقوانين دولها الأم.
فهل تجسست"خمسة عيون" في آن واحد، على الأمين العام للأمم المتحدة، أو المستشارة الألمانية، وقادت عمليات رقابة واسعة على مواطنيها؟
أسست الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة أيضاً في عام 1948 وكالة ثانية عابرة للدولة الوطنية، (مكتب المشاريع الخاصة) الذي يقود شبكات (ستاي بيهايند) التابعة لحلف شمال الأطلسي، المعروفة باسم غلاديو.
أوضح البروفسور دانيال غانسر، أن هذا المكتب قد نظم العديد من الانقلابات والعمليات الإرهابية في أوروبا [2].
إذا كان في البداية قد لوحظ، أن "إستراتيجية التوتر"، كانت تهدف إلى تدارك وصول حكومات شيوعية بالطرق الديمقراطية في أوروبا، إلا أنه تبين أنها كانت تهدف أساساً لتغذية فوبيا الشيوعية، ولتبرير الحماية العسكرية الأنغلوسكسونية.
أظهرت وثائق سرية جديدة، تم نزع السرية عنها، أن هذا الجهاز موجود خارج أوروبا بالنسبة للعالم العربي [3].
أخيرا، في عام 1982، أنشأت الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واستراليا وكالة ثالثة عابرة للحدود الوطنية، على هيئة منظمة غير حكومية زائفة (نيد)، -الواجهة المرئية-وفروعها الأربعة [4]. تخصصت (نيد) في تنظيم الانقلابات المتنكرة في زي " ثورات."
على الرغم من وجود أدب مثير للانتباه حول هذه البرامج الثلاثة، إلا أننا لا نعرف شيئا عن الوكالات العابرة للحدود الوطنية التي تشرف عليها.
"العلاقة الخاصة"
الولايات المتحدة نفسها، التي أعلنت عن استقلالها، عبر انفصالها عن التاج البريطاني، لم تتصالح مع المملكة المتحدة، إلا في نهاية القرن التاسع عشر ( "التقارب الكبير"). نتج عنه تحالف البلدين في الحرب ضد الأسبان في كوبا، ثم في استغلال "بسطاتهم" الاستعمارية في الصين. هذا يعني، عندما بدأت واشنطن تكتشف نزعتها الامبريالية.
في عام 1902، تم تشكيل ناد أطلسي لتوطيد أواصر الصداقة المستعادة، (جمعية الحجاج)، يرأسها تقليديا العاهل الانكليزي.
توطدت المصالحة في عام 1917 مع مشروع مشترك لإقامة دولة يهودية في فلسطين [5]. ودخلت الولايات المتحدة الحرب إلى جانب المملكة المتحدة.
منذ ذلك الحين، تتشارك الدولتان في مختلف الوسائل العسكرية، بما في ذلك، بعد ذلك، القنبلة الذرية. مع ذلك، رفضت واشنطن أثناء إنشاء حلف الكومنولث، أن تكون جزءا منه، لأنها كانت تعتبر نفسها نداً للندن.
على الرغم من بعض المشاحنات خلال الهجمات البريطانية ضد مصر (قناة السويس)، أو ضد الأرجنتين (حرب "فوكلاند")، أو أثناء مهاجمة الولايات المتحدة لغرينادا، حافظت القوتان العظميان على دعم بعضهما بشكل واسع.
كفل التاج تمويل بدء الحملة الانتخابية لباراك أوباما في عام 2008، من خلال التبرع بسخاء، عبر تاجر الأسلحة العراقي، البريطاني الجنسية، نظمي عوشي.
خلال فترة ولايته الأولى، كان هناك عدد كبير من المعاونين المباشرين للرئيس الجديد، من الأعضاء السريين في "جمعية الحٌجاج" الذي كان يرأس فرعها في الولايات المتحدة، تيموتي غيتنر. لكن الرئيس أوباما، راح ينفصل عنها تدريجياً، معطيا الانطباع للتاج البريطاني بأنها لم تكن تتقاضى شيئا في المقابل.
ازداد الوضع سوءا مع كلمات قاسية له ضد ديفيد كاميرون في مجلة أتلانتيك [6]، وزيارة أوباما وزوجته للملكة اليزابيث الثانية في عيد ميلادها، والتي لم تؤت أكلها.
الكومنولث
في الانسحاب من الاتحاد، والابتعاد عن الولايات المتحدة، لم تجد المملكة المتحدة نفسها معزولة بتاتاً، بل صار بوسعها أن تلعب مرة أخرى ورقتها الرابحة: الكومنولث
لقد نسينا تماما أنه في عام 1936 أطلق ونستون تشرشل فكرة إدماج الدول الحالية للاتحاد الأوروبي في إطار الكومنولث. اصطدم اقتراحه حينذاك مع المخاطر المتزايدة، والحرب العالمية الثانية. فقط بعد الانتصار، عاد تشرشل نفسه إلى فكرة إطلاق "الولايات المتحدة الأوروبية" [7] واستدعى من أجل ذلك مؤتمر الحركة الأوروبية في لاهاي [8].
الكومنولث، هو منظمة مؤلفة من 53 دولة عضواً، ليس لديها سياسة إلا في مسألة القيم الإنجليزية الأساسية: المساواة العرقية، دولة القانون، حقوق الإنسان في مواجهة " عقل الدولة".
مع ذلك، يوفر الحلف لأعضائه اقتراحات بتطوير الأعمال والرياضة. فضلاً عن توفير خبراء في كل المجالات بشكل مشترك بين جميع الأعضاء.
الملكة إليزابيث الثانية، التي هي ملكة على 16 دولة عضواً، هي أيضاً رئيسة الكومنولث (منصب انتخابي غير وراثي).
ماذا يريد البريطانيون؟
من منظور لندن، الولايات المتحدة الأمريكية هي التي قطعت "العلاقة الخاصة" باستكانتها لغلو (غطرسة) عالم القطب الواحد، وإدارة السياسة الخارجية والمالية بمفردها. أتت هذه الأمور، في الوقت الذي لم تعد فيه الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأولى، ولا القوة العسكرية التقليدية الأولى في العالم.
من هنا برزت مصلحة المملكة المتحدة في عدم وضع "كل البيض في سلة واحدة"، بالحفاظ على الأدوات المشتركة لها مع واشنطن، والاعتماد على الكومنولث ، ونسج علاقات جديدة مع بكين وموسكو، إما بشكل مباشر، أو عن طريق منظمة شنغهاي للتعاون.
تحديداً في يوم "الخروج"، قبلت منظمة شنغهاي للتعاون اثنين من أعضاء الكومنولث، الهند وباكستان، والتي لم يكن فيها أي من أعضاء الكومنولث قبل ذلك التاريخ [9].
إذا تجاهلنا كل الاتصالات التي أجرتها المملكة المتحدة في السابق مع روسيا، لابد أن نلاحظ تقاربها مع الصين.
في شهر آذار-مارس الماضي، كشف (لندن ستوك اكستشانج) الذي يدير بورصة لندن وميلانو، عن مشروعه للاندماج مع دويتشه بورصه، التي تدير سوق فرانكفورت للأوراق المالية، وكليرستريم، ويوركس.
كان مترقباً أن تقرر الشركتان تنفيذ العملية بعد الاستفتاء على "الخروج". وكان هذا الإعلان مدهشاً إلى درجة أن الأنظمة الأوروبية، تمنع منعا باتا مثل هذه العمليات التي تعادل إنشاء " وضع مسيطر". وبالتالي فإنه يفترض أن كلتا الشركتان، كانتا تتوقعان خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
إضافة لما سبق، أعلنت بورصة لندن عن اتفاق مع "نظام تجارة النقد الأجنبي الصيني" وأصبحت في حزيران- يونيو، البورصة الأولى في العالم.
كل العناصر وٌضعَت لجعل (سيتي أوف لندن) حصان طروادة الصيني داخل الاتحاد الأوروبي، وعلى حساب الهيمنة الأمريكية.
[1] “The Atlantic Charter”, by Franklin Delano Roosevelt, Winston Churchill, Voltaire Network, 14 August 1941.
[2] Nato’s Secret Armies: Operation Gladio and Terrorism in Western Europe, Daniele Ganser, Cass, London, 2004.
[3] America’s Great Game: The CIA’s Secret Arabists and the Shaping of the Modern Middle East, Hugh Wilford, Basic Books, 2013.
[4] “التدخل الديمقراطي الغامض ”, بقلم تييري ميسان رئيس تحرير شبكة فولتير, شبكة فولتير , 22 كانون الثاني (يناير) 2004, www.voltairenet.org/article90009.html ; “الوقف الوطني للديمقراطية " نيد" الواجهة القانونية لوكالة الاستخبارات المركزية”, بقلم تييري ميسان, ترجمة سعيد هلال الشريفي, شبكة فولتير , 16 أيار (مايو) 2012, www.voltairenet.org/article174178.html
[5] « Qui est l’ennemi ? », par Thierry Meyssan, Réseau Voltaire, 4 août 2014.
[6] “The Obama Doctrine”, by Jeffrey Goldberg, The Atlantic (USA) , Voltaire Network, 10 March 2016.
[7] “Winston Churchill speaking in Zurich on the United States of Europe”, by Winston Churchill, Voltaire Network, 19 September 1946.
[8] « Histoire secrète de l’Union européenne », par Thierry Meyssan, Réseau Voltaire, 28 juin 2004.
[9] «La India y Pakistán entraron en la OCS el día del Brexit», por Alfredo Jalife-Rahme, La Jornada (México) , Red Voltaire , 1ro de julio de 2016.