تنطلق القراءة الإيرانية للواقع اللبناني من خلفيات إقليمية ودولية قابلة للاستثمار على قاعدة حاجة طهران إلى أوراق تفاوضية في ملف البرنامج النووي، وهي تعتبر أولاً وأخيراً ان امتداد السياسة الخارجية لأي دولة إقليمية كبرى يعني قدرتها على امتلاك أدوات وأذرع فاعلة وقابلة للحياة، ومن هنا يفسر الاهتمام الإيراني المتعاظم في الشأن اللبناني وأبرز تجلياته ومظاهره عمليات إحلال النفوذ الإيراني مكان السوري، وما يعزز هذا الاتجاه مقاربة طهران الأوضاع السائدة إقليمياً واعتقادها بالقدرة على استثمارها في الواقع السياسي اللبناني.

فطهران تنظر إلى الوضع في لبنان انطلاقاً من المشهد السياسي الإقليمي وتعتبر ان الأميركيين يتراجعون في كل المنطقة ويسعون إلى الحؤول دون خسائر جديدة لهم في لبنان، والمؤتمر الدولي الذي ستدعو إليه الإدارة الأميركية بهدف تحريك عملية السلام على المسار الفلسطيني سيفشل نظراً إلى مقدماته، فضلاً عن انه يتجاهل سورية ولبنان، وواشنطن، بدلاً من أن تسعى إلى الحصول على تنازلات من إسرائيل لمصلحة الفلسطينيين تضغط على الرئيس الفلسطيني ليقدم التنازلات، كما ان السياسة الأميركية في العراق لا تحتاج إلى كثير عناء لاكتشاف فشلها في السيطرة على الوضع الأمني هناك وسط الحديث عن حاجتها إلى التعاون مع الأطراف الإقليمية الأخرى بهدف معالجة الوضع، واضطرار واشنطن إلى الحوار مع دول الجوار وتطبيق توصيات تقرير بيكر – هاملتون. كما ان السياسة الأميركية الضاغطة على سورية لم تفعل فعلها، وواشنطن مضطرة للعودة إلى صيغ التعاون والحوار مع دمشق في الإطارين العراقي والإقليمي. كما ان سياسة التلويح بالحرب والعقوبات عبر مجلس الأمن تجاه إيران تراجعت بقوة، خصوصاً حين عجزت أميركا وفرنسا عن حشد الموقف الأوروبي، خلال الاجتماع الأخير لدول الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات إضافية على إيران، بعدما كانت فرنسا تصدرت السعي إلى عقوبات جديدة. ما شكل فشلاً للسياستين الفرنسية والأميركية في نظر طهران عززته عودة وكالة الطاقة الدولية إلى الإمساك بالملف النووي الإيراني، ما يعني سحب هذا الملف من مجلس الأمن الذي من المرجح ألا يعود إليه نهائياً، مع الانطلاقة الجديدة للتعاون بين طهران ووكالة الطاقة الدولية. إضافة إلى ذلك فإن قمة دول آسيا الوسطى المحيطة ببحر قزوين، شكلت حدثاً كرّس التعاون بين هذه الدول، ومنها إيران، في معالجة شؤون المنطقة، خصوصاً إمدادات النفط والأنابيب نظراً إلى حاجة هذه الدول إلى مرور الإمدادات إلى الخليج، ما أدى على تكريس اتفاقات ذات أهمية استراتيجية تضع مصالح هذه الدول فوق مصلحة بعضها مع الولايات المتحدة الأميركية.

وفي ظل استمرار الخلاف على مشروع الدرع الصاروخية الأميركية، حققت زيارة الرئيس الروسي إلى طهران تعاوناً روسياً – إيرانياً يشمل الملف النووي، في سياق الإصرار الروسي على استعادة موسكو دورها على الساحة الدولية والذي باتت واشنطن ترى فيه عودة إلى الحرب الباردة. وما يؤكد ذلك ما قاله مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي أثناء استقباله بوتين عن رغبته بتعاون بين روسيا قوية وإيران قوية، ما يعني قيام ثقل دولي في وجه واشنطن في إطار هذا التعاون. كما ترى طهران ان خسائر واشنطن تتعاظم في آسيا. فهي على وشك خسارة أفغانستان وربما باكستان بفعل سياساتها التي أدت إلى تنامي دور الإسلاميين المتطرفين، كما ان أخطاء السياسة الأميركية في المنطقة تتكاثر وآخرها استفزاز تركيا عبر قرار الكونغرس تحميل أنقرة مسؤولية المجازر ضد الأرمن، ما سبب مشكلة بينها وبين واشنطن، وما يزيد الطين بلة ما يجرى حالياً في شمال العراق.

إن قراءة طهران لهذا الواقع الإقليمي تعني اعتبارها واشنطن في عين العاصفة الشرق أوسطية المقبلة، وهي، أي واشنطن، مضطرة لإيجاد بيئة توافقية على انتخابات الرئاسة اللبنانية من منطلق ان لبنان بات الساحة الوحيدة التي ما زالت تعتبرها مصدر دفع لسياسات واشنطن في المنطقة، وعليه تعتبر طهران ان ليس من مصلحة واشنطن الفراغ الرئاسي في لبنان، الأمر الذي يعطي طهران مساحة مقبولة للتحرك في اتجاه إيجاد صيغة توافقية حول اسم الرئيس العتيد الذي تأتمنه إيران وسورية.

وإذا كانت هذه الرؤية تعتبر واقعية إلى حد ما، ثمة مؤشرات واضحة على خلاف ذلك، مفادها ان حسابات الربح والخسارة في ملف الانتخابات الرئاسية اللبنانية تعتبر ضرباً في المجهول، وعند ذلك ربما تلعب جميع الأطراف لعبة أخرى هي الفراغ، باعتبارها تنتج خسارة لجميع الأطراف، إلا ان الفارق يكمن في حجم الخسارة لكل طرف ومدى استثماراته لاحقاً في فرض الحل المناسب له. وهنا يمكن التمييز تحديداً بين الموقفين السوري والإيراني في هذا المجال، وفي هذه الحال تبدو طهران متوافقة إلى حد كبير مع الرؤية الواقعية للعبة القادرة على إنتاج بيئات قابلة للاستثمار السياسي في غير مجال، وعليه ان الفراغ لا يناسب طهران في هذه المرحلة، فيما الموقف السوري يرغب في إنتاج صيغة رئاسية مستنسخة لما قبل اتفاق الطائف وما بعده.

مصلحة إيران تقتضي القدرة على التحكم والاستثمار في الواقع اللبناني، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة، فسياسة قلب الطاولة، أو لعبة حافة الهاوية يصعب التحرك فيها، ومن هنا تُفسر المواقف الإيرانية البرغماتية من كل الملفات الداخلية اللبنانية وعدم لجوئها إلى مواقف ذات توجهات حاسمة، ذلك ما يظهر في شكل مباشر في سلوك المعارضة في لبنان وعدم لجوئها في كثير من المحطات الداخلية في الحسم على رغم قدرتها على ذلك.

الاستحقاق الرئاسي اللبناني بات داهماً على جميع اللاعبين، وباتت الخيارات تضيق بأصحابها شيئاً فشيئاً، لذلك يصعب على أي طرف التكيف بمسارات موافقة ويصبح أسير رد الفعل لا الفعل، وهنا تكمن خطورة هذا الواقع على لبنان تحديداً، ففي العام 1988 لم تتفق دمشق وواشنطن على الرئاسة اللبنانية ما أدى إلى حكومتين متنافستين وفراغ رئاسي دفع لبنان ثمنه غالياً، ولم تنتج تلك الفترة سوى تسوية «اتفاق الطائف» فعلى أي أسس ستركز المرحلة المقبلة.

قدر لبنان كما بات معروفاً ان يعيش على التسويات الإقليمية والدولية سلماً أهلياً بارداً يستمر في أحسن أحواله عقداً ونيفاً من الزمن، فهل انتهى مفعول اتفاق الطائف والبحث جار الآن عن صيغ أخرى للبنان والمنطقة؟ ربما هي أسئلة مشروعة تحتاج إلى إجابات محددة وسريعة قبل فوات الأوان.

في مطلق الأحوال فإن ظروف الدول الفاعلة في الشأن اللبناني هي صعبة ودقيقة، الأمر الذي ينتج مواقف متشددة في مفاوضاتها واستثماراتها، وإذا كانت الأطراف اللبنانية تمكنت سابقاً من قطف أو استثمار أي مشروع حل لها في البيئة السياسية الداخلية، فإنها الآن غير قادرة على ذلك وفي أحسن أحوالها ستكون وقوداً لصراعات إقليمية ودولية تطل برأسها على كل المنطقة، وبالتالي فإن اللاعبين اللبنانيين هم الأضعف إن لم نقل «عدة شغل» لإنتاج تسويات داخلية تعكس واقعاً إقليمياً ودولياً مستجداً، فهل يعي اللبنانيون ذلك. إن التوكيد في تاريخ لبنان الحديث كما المعاصر يثبت ان قرار اللبنانيين لم يكن يوماً في أيديهم والخوف اليوم ان يكون البحث جارياً عن صيغة للبنان تنهي صورته الحالية.

المنطقة بجميع دولها وشعوبها تمر بظروف حرجة جداً، من أفغانستان إلى العراق مروراً بإيران ولبنان وسورية وفلسطين وصولاً إلى السودان، منطقة تعج بالبراكين القابلة للانفجار فهل تعي الدول المؤثرة في انتخابات الرئاسية اللبنانية ومن يمثلها في لبنان ذلك أم انها تعي والجميع يبحث عن الأوراق التي تحفظ مصالحه؟ على الأرجح ان الجميع يعرف ذلك، لكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)