لم يَجنِ تجاهل الأنغلوساكسون لِمُعاهدة ضمان السّلام التّي اقترحتها روسيا، وتركيزهم على أزمة اوكرانية وهمية، الثّمار المرجوّة. فرنسا قلقة، ألمانيا مشلولة، ولكنّ المجر قادرة على جذب جيرانها نحو موقفٍ مُطابقٍ لموقف روسيا: الدّفاع عن القانون الدّولي.
أيأتي هذا المقال في سياق:
– ١ تريد روسيا أن تجبر الولايات المُتّحدة الأمريكية على احترام ميثاق الأُمم المُتّحدة، ٤ كانون الثّاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215200.html
– ٢ تواصل واشنطن مشروع مؤسّسة راند في كازاخستان، ثمّ ترانسنيستريا، ١١ كانون الثّاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215272.html
– ٣ واشنطن ترفض الإستماع إلى روسيا والصّين، ١٨ كانون الثاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215365.html
– ٤ واشنطن ولندن مُصابتان بالطّرش، ١ شباط ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215468.html
– ٥ واشنطن ولندن تحاولان أن تحميا هيمنتهما على أوروبا، ٨ شباط ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215574.html
بعد أن تمّ تسريب جوابَي النّاتو والولايات المُتّحدة على اقتراح روسيا المُتعلّق بِمعاهدة تضمن السّلام، تُندّد المملكة المتّحدة بهجومٍ روسيٍّ قادمٍ على اوكرانيا، في يوم الأربعاء ١٦ شباط (دون تحديد السّاعة). ترسل العديد من الدّول العضوة في الحلف الأطلسي جنوداً وعتاداً إلى أوكرانيا والمناطق القريبة منها، بينما تُرسل دولٌ عضوةٌ أخرى قادتها لِيَلتقوا بالسّلطات الرّوسية في موسكو.
إيمانويل ماكرون يُقحم نفسه في المشهد
أبرز رحلة إلى موسكو كانت زيارة رئيس فرنسا والإتّحاد الأوروبي إيمانويل ماكرون. ذهب هذا الأخير إلى الكرملين مُتأمِّلاً تهدئة اللّعبة وتجنّب حربٍ دون جدوى حول أوكرانيا. تتشابه زيارة ماكرون مع زيارة الرّئيس السّابق نيكولا ساركوزي، خلال حرب جورجيا: عدم القيام بأيّ شيء، ثمّ التّظاهر بأنّه أوقف الدّبّ الرّوسي المتوحّش، بينما كان هذا الأخير قد شبع مُسبقاً.
لم ينوِ الرّئيس فلاديمير بوتين أن يناقش أيّ شيء مع ماكرون، بحيث أنّ المعاهدة المُقترحة تخصّ الولايات المُتّحدة فقط. ولكن، بما أنّ الفرنسي الصّغير أتى ليتحدّث عن مواضيعٍ لا يفهم منها شيء، تسلّى الرّئيس الرّوسي، الّذي يتعاطاها منذ ٢٤ سنة، بتفسيرها لنظيره. لم ينتظر بوتين أيّ ردّة فعل من ذلك، مُكتفياً بِعرضه على ماكرون الحفرة الّتي يقبع هذا الأخير فيها: لا يمكن له أن يخون سيّده الأمريكي والدّفاع فجأة عن مصالح فرنسا الّتي يُهملها منذ وقت طويل.
دام الحديث خمس ساعات، ممّا يُظهر أهمّيّة فرنسا في نظر روسيا. بالطّبع، لم ينتج أيّ شيء عنه، إلّا التّذكير، خلال اللّقاء الصّحافي الّذي تلاه، بأنّ روسيا قوّة نوويّة. أيّاً كان، كان الرّئيس ماكرون يتأمّل بأن يعلن إنقاذه للسّلام. بذلك، عند عودته إلى باريس، أعلن ماكرون أنّه تمّ توصّل إلى اتّفاق، وأنّ روسيا لن تجتاح اوكرانيا، أيّ أنّه كرّر ما تقوله روسيا منذ أسابيع. لسوء حظّه، ردّ المتحدّث بِاسم الكرملين دميتري بيسكوف ادّعاءاته دون تأخير، مؤكّداً أنّ الرّئيسين لم يتناقشا وبالتّالي لم يتّفقا على أيّ شيء.
بما أنّ فرنسا لا تملك سوى النّقاش كوسيلة لتهدئة الأوضاع في اوكرانيا، عادت إلى فكرة الإجتماعات وفق "صيغة نورماندي" (أي اجتماعات تضم أوكرانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا) . النّتيجة كانت معروفة مُسبقاً: ما زالت اتّفاقات مينسك بين حكومة كييف والإنفصاليين في إقليمَي دونيتسك و لوهانسك دون تطبيق، لأنّ كييف ترفضها، رغم توقيعها عليها. ترفض كييف بشكلٍ مُطلقٍ فكرة تكريس قوانين خاصّة بالمواطنين النّاطقين بالرّوسيّة. بانتظار ذلك، تصل القوانين السّارية إلى حدّ منع تعليم الرّوسيّة في بلدٍ ينطق نصف الشّعب بها.
لم تكن أيّة حكومة في أيّ مكان لترفض هذا المطلب الشّرعي. تبرّر كييف رفضها بالتّذكير بأنّها لم توقّع على هذه الإتّفاقات إلّا تحت الضّغط، وبشكلٍ خارجٍ عن إرادتها. بالمقابل، يذكّر الإنفصاليّون بأنّ القوّات الأوكرانية المتمركزة أمامهم تضمّ فوج أزوف، الّذي يتّخذ رموز النّازيّة شعاراً له ويقوده العقيد أندري بيليتسكي، الّذي أعطى لنفسه لقب "الفيورِر الأبيض". لا يخفي أعضاء هذا الفوج، الّذي يوجّهه مُرتزقة إريك برينس (مؤسّس بلاكواتِر)، نيّتهم بأن يقضوا على "الرّوسكوف"، ولا يتوقّفون عن قصفهم. لهذا السّبب أعلن الإنفصاليّون استقلالهم، الّذي لم يعترف أيّ أحدٍ به للأسف، ولا حتّى روسيا.
من الممكن أن تكون فرنسا قد طالبت اوكرانيا بأن تنظّم جيشها قليلا، ولكنّ ذلك غير ممكن أبدا. نعم، إريك برينس يتصرّف وكأنّه مقاولٌ خاصٌّ، ولكنّ الجميع يعلم بأنّه يأتمر من وكالة الإستخبارات المركزيّة، الّتي سبق لها أن استخدمت أندري بيليتسكي وعدداً من الآخرين للإطاحة بالرّئيس فيكتور يانوكوفيتش عام ٢٠١٤. العقدة معقودة، وغير قابلة للحلّ.
ا
أولاف شولتس يماطل
توجّه المستشار الألماني اولاف شولتس إلى واشنطن. مثل الفرنسيين، لا يصدّق شولتس ادّعاءات الأنغلوساكسون المتعلّقة بوقوع حربٍ في اوكرانيا، ولكنّه يخشى أن تمنع الولايات المُتّحدة تشغيل انبوب نورد ستريم ٢، تحت ذريعة أو أخرى. هذا الأنبوب يشكّل شرياناً حيويّاً للنّموّ الإقتصادي الألماني. لن يأتي نورد ستريم ٢ بديلاً عن الأنبوب الحالي، الّذي يمرّ بأوكرانيا، ولكنّه سيسمح بتلبية الطّلب المتزايد على الطّاقة. دون هذا الأنبوب، لن تتكمّن ألمانيا من تطوير قطاعها الصّناعي.
موقف المانيا صعب جدّا، بحيث أنّها تؤوي ما يزيد عن ٤٠٠٠٠ جندي أمريكي في قواعد محميّة بشدّة ومستفيدة من الحصانة المحلّيّة. المانيا، الّتي لم تعد مُحتَلّة رسميّاً، لا تتمتّع بالسّيادة على أرضها. بالإضافة إلى ذلك، تركت ألمانيا مسألة أمنها للنّاتو وأهملت جيشها. لا تقوم ألمانيا حتّى بتنفيذ الموجبات الواقعة على عاتقها بموجب حلف شمال الأطلسي. إذا اضطُّرّت ألمانيا إلى مُجابهة الولايات المُتّحدة، لن تصمد اكثر من بضعة ساعات.
إضطّرّ الإشتراكي أولاف شولتس، ليتمكّن من تشكيل حكومته، إلى التّحالف مع الخُضُر، أي الحزب الأكثر تشدّداً في تطبيق العقيدة الأطلسية منذ فترة يوشكا فيشر وحروب يوغوسلافيا. أُجبِر شولتس على اختيار أنالينا بايربوك، المُناصرة للبيئة والكارهة لكلّ شيءٍ روسي، خصوصاً الغاز، وزيرةً للخارجية في حكومته.
يحاول المُستشار شولتس أن يحافظ إذاً على الغموض في مواقفه. في البيت الأبيض، لم يتوقّف شولتس عن تكرير أنّ بلاده والولايات المُتّحدة ستعملان دائماً يداً بيد، ولكنّه ابتعد بعنايةٍ عن تحديد ماذا ستفعلان. أصبحت الطّبقة السّياسية في الولايات المتّحدة تنظر إليه بعين الرّيبة.
فيكتور أوربان يضحك شامِتاً
أمّا رئيس الحكومة المجريّة، المسيحي-الدّيموقراطي فيكتور اوربان، الّذي كان يُقَدَّم على أنّه "فاشي" منذ فترة قصيرة، فهو يهنّئ نفسه على المواقف المُغايِرة عن القطيع الّتي اتّخذها. اوربان هو القائد الوحيد في أوروبا والنّاتو الّذي يحتفظ بعلاقة صداقة طويلة المدى مع فلاديمير بوتين. يلتقي الرّجلان بكلّ محبّةٍ مرّةً كلّ عام، على الأقل (إلّا خلال مرحلة وباء الكوفيد).
بدأ فيكتور اوربان مسيرته السّياسيّة مُناضلاً في سبيل استقلال المجر عن السّوفيات، ولكنّه لم يكن يوماً مُعادياً للرّوس، وهو أمرٌ لا يفهمه الامريكيون، بالرّغم من بساطته. عبر تبنّي عقيدة بريجنيف، كان الإتّحاد السّوفياتي قد حوّل حلف وارسو قسراً إلى نظيرٍ للنّاتو: أتباعٌ ومتبوع. لهذا السّبب، الّذي ناضل من أجله ضدّ السّوفيات، يستاء أوربان من تصرّفات النّاتو.
في أواخر عام ٢٠٢١، تفاوض الصّديقان حول مسألة إمداد المجر بالطّاقة. أوّلا فيما يتعلّق بتوسيع شركة روساتوم الرّوسيّة لِمُفاعلٍ نوويٍّ مجريٍّ يهدف إلى تلبية كامل حاجة البلاد من الطّاقة، ثانياً فيما يتعلّق بشراء المجر كامل حاجتها الأساسية من الطّاقة للأعوام السّتّة عشر القادمة مقابل ثمنٍ أرخص من سعر السّوق بخمس مرّات. بالإضافة إلى ذلك، تحصّل اوربان على مشروع إنشاء سكّة حديد كبيرة وصناعة لقاح (كما يعرّفه لويس باستور) سبوتنيك المُضاد للكوفيد في المجر.
لم يستخدم اوربان حقّ الفيتو يوماً فيما يتعلّق بالعقوبات الّتي اتّخذها الإتّحاد الأوروبي ضدّ روسيا. هكذا تصرّف يزيد عن حدّه في العلاقات مع بروكسل، ولا حاجة له بمطلق الاحوال، لأنّ موسكو تستخدم هذه العقوبات لتعيد قولبة اقتصادها دون أن تحتاج لأيّ اجراءاتٍ استبدادية. بالمقابل، اعترض أوربان بحزمٍ على انضمام اوكرانيا إلى حلف النّاتو، الّذي يتطلّب قبول جميع الأعضاء. برّر أوربان رفضه بتخلّف اوكرانيا عن تنفيذ اتّفاقات مينسك والإعتراف باللّغة الرّوسيّة.
عملياً، اوربان قادر على لعب دور الرّئيس شارل ديغول عام ١٩٦٦: إخراج بلاده من القيادة المُتكاملة، دون سحب توقيعها على معاهدة شمال الأطلسي. شركاؤه الثّلاث في مجموعة فيشغراد، بولندا، تشيكيا، وسلوفاكيا، يراقبونه من الوراء عن كثب.
اعلنت كرواتيا الّتي يقودها الدّيموقراطي الإجتماعي زوران ميلانوفيتش أنّها لن تشارك في أيّ حربٍ للنّاتو ضدّ روسيا، أمّا مقدونيا الشّماليّة، الّتي يقودها الإشتراكي ديميتار كوفاتشيفسكي، فقد أعلنت دعمها لموسكو. يعي البنتاغون الخطر: وِحدة الحلف الأطلسي مهزوزة. بذلك، بدأ البنتاغون من الآن بالتّأمين على قواعده في أوروبا، حيث قام للتّوّ بالتّوقيع على عقد إيجارٍ مع حصانة محلّيّة في سلوفاكيا. كذلك، بدأ البنتاغون بخوض مفاوضات ثُنائية مع الدّنمارك حول اتّفاق تعاونٍ دفاعيٍ خارج إطار النّاتو.