طوال الأسبوع الفائت، انتظرت موسكو جواباً على اقتراح معاهدة ضمان السّلام. لم تأتي واشنطن على سيرتها مُطلقا. على العكس، إتّهمت هذه الأخيرة روسيا بالتّحضير لمهاجمة اوكرانيا و التّخطيط لعمليّاتٍ تحت راية زائفة بهدف تبرير ذلك. لم يعد من الممكن لروسيا أن تتراجع، ولكنّ أيّ تحرّكٍ من قِبَلِها قد يؤدّي إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة.
يأتي هذا المقال في سياق:
– ١ تريد روسيا أن تُجبر الولايات المُتّحدة الأمريكية على احترام ميثاق الأُمم المُتّحدة، ٤ كانون الثّاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215200.html
– ٢ تواصل واشنطن مشروع مؤسّسة راند في كازاخستان، ثمّ ترانسنيستريا، ١١ كانون الثّاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215272.html
ما زالت الصّحافة الغربية غير قادرة على اتّباع العلاقات بين الدّول الثّلاث الكُبرى (الصّين، الولايات المُتّحدة وروسيا) لأنّها تُجزّؤها، وتحلّل كلّ مشكلةٍ على حدىً، مُتجاهلةً الصِّلات بينها. خصوصاً، تتجاهل الصّحافة الغربية الفروقات بين القانون الأنغلوساكسونيّ وقانون الأمم المُتّحدة، ممّا يؤدّي إلى مشاكلٍ عديدةٍ في التّفسير.
إلتقت الولايات المُتّحدة بروسيا ثلاث مرّاتٍ هذا الأسبوع، لمناقشة ضمانات السّلام:
– في جينيفا على مستوى نوّاب وزراء الخارجية؛
– في بروكسل ضمن إطار اللّجنة المُشتركة بين النّاتو وروسيا؛
– وفي فيينّا، ضمن إطار مُنظّمة الأمن والتّعاون.
كرّرت الولايات المُتّحدة تحذيرها فيما يخصّ تمركز ١٠٠ ألف جندي روسي على الحدود الرّوسيّة-الأوكرانية، فيما استنكرت روسيا رفض الولايات المُتّحدة مناقشة اقتراح السّلام.
في الوقت آنه، تناول الكونغرس الأمريكي مسألة عقوبات ضدّ روسيا، فيما وسّعت وزارة الخارجية الأمريكية موقفها من روسيا إلى الصّين، وبدأت وزارة الدّفاع بالتّفكير في توسيع ترسانتها النّووية.
خلف السّتار، قادت الولايات المُتّحدة عمليّة بهدف زعزعة استقرار كازاخستان وأوكلت الإتّحاد الأوروبي مهمّة فرض حصارٍ اقتصاديٍّ شاملٍ على ترانسنيستريا.
إذا كانت الولايات المُتّحدة ترفض أكثر ممّا سبق الإستماع إلى المُؤاخذات الرّوسيّة والإجابة على ما تقوله روسيا، فإنّ موسكو تهدّد اليوم بنشر قوّاتٍ لها في الحوض البحر الكاريبي.
التّقدّم الإيجابي الوحيد يتعلّق بإمكانية إعادة تفعيل المفاوضات الأمريكية-الرّوسية حول مسألة الصّواريخ النّووية متوسّطة المدى، الّتي سحب الرّئيس دونالد ترامب بلاده من المعاهدة المتعلّقة بها.
مُحتوى المُفاوضات
عندما وصل الوفد الأمريكي إلى جنيف، تعشّى الأعضاء فيه بلطفٍ مع نُظرائهم الرّوس، ثم أخبروهم عند بداية المحادثات في صباح اليوم التّالي أنّ نطاق صلاحيّاتهم لا يتعدّى مسألة انتشار القوّات الأمريكية والرّوسية في أوكرانيا.
عند وصوله إلى جنيف، كان نائب وزير الخارجية الرّوسي سيرجي رايبكوف قد أعلن أنّ "مشاكلاً أخرى تهمّنا أكثر: عدم توسيع حلف النّاتو، إزالة البُنى التّحتيّة المبنيّة، رفض عدد من الإجراءات، وذلك بشكلٍ غير تبادلي، بل أُحاديّ الجانب، من جهة الغرب". [1]
أجاب الرّوس إذاً أنّ صلاحيّات الوفد الأمريكي لا تلتقي إلّا بشكلٍ عرضيٍّ بالهدف الرّسمي لِلّقاء: الضّمانات الّتي تؤمّن السّلام العالمي. ثمّ مرّت ويندي شيرمان مع سيرجي ريابكوف على المواضيع الّتي يمكن لهم أن يتحاوروا فيها مُستقبلاً، ولم يجدوا إلّا موضوعاً واحداً: معاهدة جديدة لتقليص حجم الصّواريخ النّووية متوسّطة المدى، بعد أن كان الرّئيس ترامب قد انسحب من المُعاهدة المعنيّة بذلك.
في اليوم التّالي، شاركت ويندي شيرمان في الإجتماع ضمن إطار اللّجنة المُشتركة بين النّاتو وروسيا في بروكسل. كان سفراء الدّول الحليفة يشكّون بنوايا واشنطن بعد أن تخلّت لطالبان عن أفغانستان وخانت فرنسا عبر اتّفاق الأوكوس. بذلك، تركت السّيدة شيرمان المنبر لهم ليعبّروا عن آراءهم أولاً، ثمّ أعلنت للوفد الرّوسي ما يفيد بالآتي: "نعم، نحن ثلاثون أمامكم، ولكن من حيث مواقفنا فإنّنا نشكّل طرفاً واحداً." ثمّ رسمت مشهد أوروبا بحال تنازلت واشنطن أمام موسكو: قارّة مقسّمة من جديد إلى منطقتي نفوذ، الأولى أطلسية، الثّانية روسيا، تماماً كما كان الحال أيام الحرب الباردة.
أيقظ هذا الإستعراض أسوء ذكريات السّفراء الحاضرين، بحيث أنّه لم يعد أيّ منهم يستمع لأيّ شيءٍ آخر. لم يعد نفي الوفد الرّوسي وتذكيره بأنّه ليس سوفياتيّاً ولا يريد تقسيم القارّة إلّا ضجّةً غير مفهومةً حول آذانهم. ربّما قام الرّوس من جديد بتقديم طلباتهم بأن يُحترم ميثاق الأمم المتّحدة والوعود المقدّمة، ولكن لم يعد أحد يذكر ذلك.
أمّا الإعلام الأمريكي، فكان تعليقه حول الإجتماع هو أنّه أعطى لحلف النّاتو، الّذي كان الرّئيسان ترامب وماكرون قد طعنا به، سبباً جديداً لوجوده: محاربة روسيا.
في هذه الظّروف، لم يعد الإجتماع الثّالث إلّا- كما قال سيرجي لافروف- "تسويفيّاً". لا تملك منظّمة الأمن والتّعاون أيّ سلطة لِاتّخاذ القرارات، بل هي مجرّد منتدىً مكوّناً خلال الحرب الباردة يسمح بتقييم المواقف. أمّا الرّئاسة السّويدية لمجلسه الدّائم، فهي على صورة هذا البلد: رسمياً مُحايدة، ولكنّها تُناقش داخليّاً انضمامها القريب إلى حلف النّاتو. إتّخذ الحلفاء موقفاً دفاعيّاً، فيما حاولت الولايات المُتّحدة كسب الوقت. لم ينتج عن الإجتماع بياناً نهائيّاً حتّى.
كانت موسكو تتوقّع ردّ واشنطن لِاقتراحاتها بالجُملة، ولكنّها تفاجأت بطريقة تلاعب الدّبلوماسيّون الأمريكيّون بأعضاء النّاتو ومجلس الأمن والتّعاون. هذه المرّة الثّانية الّتي يصطدم فلاديمير بوتين فيها بتصرّفات أوروبيّي الإتّحاد الغير عقلانيّة. كي لا ننسى، عام ٢٠٠٧، كان الرّئيس بوتين قد تخيّل أنّه تمكّن من إبعاد الاوروبيّين الغربيّين عن عرّابهم الأمريكي عبر توجّهه لمؤتمر ميونخ للأمن وطلبه لهم بأن يتساءلوا عن مصالحهم [2]. تخيّل مخطئاً أنّه سيحبس انتباههم، خصوصاً الألمان بينهم. تتكرّر الظّاهرة اليوم.
لا بدّ من ملاحظة أنّ معظم القادة الأوروبيّين، باستثناء الرّوس خصوصاً، لا يريدون أن يكونوا مستقلّين، بل يفضّلون التّخلّي عن مسؤوليّاتهم والإنبطاح أمام نظامٍ عالميٍّ غير شرعيٍّ ووحشي.
هستيريا في واشنطن
في واشنطن، يعي البيت الأبيض أنّه لم يعد قادراً على تحقيق سياسته العالمية، ولكنّ الطّبقة الحاكمة لم تفهم ذلك بعد. شكّل الكونغرس مسرحاً لمواقف طنّانة ندّدت بالتّطاول الرّوسي وبالتّحديد الرّئيس بوتين. وصل الأمر إلى مناقشة بعض البرلمانيّين عقوباتٍ ضدّ هذا الأخير شخصياً، ممّا يعني تعليق العلاقات الدّبلوماسيّة مع بلاده. لا يبدو أنّ أحداً منهم يعي تراجع الولايات المُتّحدة من الصّدارة عسكرياً واعتلاء روسيا والصّين هذا المركز.
أقلّ غباء من العقوبات بحقّ الرّئيس بوتين هي تلك الّتي يمكن أن تطال من جديد أنبوب نورد ستريم ٢ الرّوسي. دافع السيناتور ماركو روبيو عن فكرة فرض عقوباتٍ على الألمان اللّذين يتعاقدون مع "الشّيطان"، بما فيهم المستشار الإشتراكي-الدّيموقراطي السّابق غيرهارد شرودر، الّذي قاد عمليّة بناء الأنبوب، لكي يفقدوا القدرة على الإختيار [3]. على العكس، وبناءً على نصائح البيت الأبيض، إرتأى الدّيموقراطيون أنّه من الأفضل أن يُشَجَّع الألمان على اختيار الطّرف الصّحيح بأنفسهم، بدلاً عن إجبارهم. دعمت الحكومة الاوكرانية هذه الخطوة الّتي تنمّ عن منطقٍ سليمٍ، مُذكّرةً أنّ الألمان كانوا قد اتّفقوا مع روسيا على ضماناتٍ لكي لا تستخدم إمدادات الغاز كسلاحٍ بيدها [4].
كلّ هذا التّجاذب السّخيف لم يكن ليكون لو لم يتمّ تناسي السّبب الّذي كان قد دفع الرّئيس جو بايدن إلى رفع العقوبات عن نورد ستريم ٢ عشيّة انعقاد القمّة الامريكية-الرّوسيّة في جنيف [5]: كانت وسيلة لتحميل الأوروبيين فاتورة الأضرار النّاتجة عن الحرب في سوريا. كانت الفكرة هي أن يشتروا الغاز الرّوسي مقابل ثمنٍ جيّدٍ ولكن أعلى بنسبة طفيفة من العادة. لم يعد أحد يذكر حتّى أنّ الولايات المُتّحدة قد خسرت هذه الحرب.
كلّ شيء يستمرّ كأنّ شيئاً لم يحصل
بعيداً عن التّنازل، وسّعت وزارة الخارجية الرّواية الرّوسيّة لتشمل الصّين، الّتي تدعم روسيا. روسيا تريد اجتياح أوكرانيا وفرض سلطانها على كامل أوروبا الوُسطى والشّرقيّة، وتريد الصّين أن تحتلّ كامل بحر الصّين.
إذا كان الخلاف مع روسيا قد وُلِد بعد انهيار الإتّحاد السّوفياتي، فإنّ الخلاف مع الصّين يعود لحقبة زمنية أبعد بكثير، فترة الإستعمار المأساوية.
تستند وزارة الخارجية الأمريكية إلى قرارٍ من محكمة التّحكيم في لاهاي يعود لسنة ٢٠١٦، حُكِم فيه ضدّ الصّين في نزاعٍ حدوديٍ بينها وبين الفِلِبّين، لكي تردّ جميع حجج وبراهين بِكين [6]. ولكنّ محكمة التحكيم ليست مثل محكمة عادية، وبما أنّ الصّين لا تعترف بها، لم يتمّ التّحكيم على أيّ شيء، بل تمّ بكلّ بساطة تكريس الرّواية الفلبّينية المتعلّقة بالنّزاع. بعيداً عن البتّ في أيّ شيء، لا يُظهر كلّ هذا إلّا طريقة تفسير الولايات المُتّحدة للقانون الدّولي بشكلٍ عامٍّ وميثاق الأمم المُتّحدة خصوصاً.
تطالب الصّين بكلّ أحقّيّة بالجزر الّتي كانت تحكمها في القرن الثّامن عشر والّتي اضطرّت أن تتخلّى عنها في حقبة انهيارها تحت ضربات الإستعمار. بقيت معظم هذه الجزر غير مأهولة لفترة طويلة، إلى أن تغيّر ذلك منذ حوالي ثلاثين عام، أي منذ انهيار الإتّحاد السّوفياتي. عبر محاولتها إعطاء هذه الجزر لحلفائها في المنطقة، تُظهر الولايات المُتّحدة إمبريالية إحتلالية تتطابق مع تلك الّتي تظهر مع وضعها لأوروبا الوُسطى والشّرقية تحت إمرة النّاتو.
بالإضافة إلى ذلك، خلال بحر الأسبوع، واصلت واشنطن عمليّة زعزعة استقرار كازاخستان، مُستندةً على النّداءات للإنقلاب على النّظام الّتي وجّهها مختار أبليازوف من باريس. أخيراً، شجّعت واشنطن الإتّحاد الأوروبي على ضرب الحصار حول ترانسنيستريا، الدّولة الغير مُعتَرَف بها الّتي تقع بين أوكرانيا ومولدافيا [7]. يبدو أنّ واشنطن هُزمت في كازاخستان، ولكنّها تحضّر الحلقة القادمة في ترانسنيستريا.
الولايات المُتّحدة تحبس نفسها في النِّكران وترسل وفوداً عند كلٍّ من أتباعها لتنذرهم من هجومٍ روسيٍّ وشيكٍ على أوكرانيا بعد عمليّة تحت رايةٍ زائفة.
خُلاصة مُؤقّتة
أظهرت أحداث هذا الأسبوع، مثلما كان مُنتظراً، أنّ الولايات المُتّحدة لا تعتزم على الإطلاق احترام لا ميثاق الأُمم المُتّحدة ولا وعودها. لن تتراجع أبداً بنفسها، واقتراحاتها تهدف إلى تكريس الواقع الحالي.
يبدو أنّ استراتيجيّتها تستند على فكرة أنّ الرّوس والصّينيّين لن يجرؤوا على المواجهة. بعبارةٍ أخرى، استراتيجيّتها مبنيّة على نظريّة "الرّجل المجنون" الّتي كان الرّئيس نيكسون قد استخدمها سابقاً ضدّ الإتّحاد السّوفياتي: نعم، أنا مُخطئٌ ونعم، ربّما لستُ الأقوى، ولكنّني مجنونٌ و ردّات فِعلي غير عقلانية وغير قابلة للتّوقُّع. لا أريد حتّى أن أربح، يمكنني أن أخرب وأكسّر كلّ شيء. هذا التّصرّف هو مجازفة، ولم يسمح للولايات المُتّحدة بأن تنتصر في حرب الفيتنام.
من الواضح أنّ روسيا كانت قد توقّعت الخطوة اللّاحقة عندما نشرت مشروع معاهدة ضمان السّلام. ولكن سيتوجّب عليها أن تعدّله لأنّ واشنطن نجحت في جمع كلّ أتباعها الخائفين وراءها. إذا حصلت المواجهة، ستكون نوويّةً ستكون حصيلتها دون شكّ مئات الملايين من الضّحايا.
إذا كانت واشنطن تخطّط لمناوشةٍ جديدةٍ في ترانسنيستريا، فإنّ موسكو تخطّط لِلخطوة اللّاحقة، على الارجح في حوض البحر الكاريبي، على صورة أزمة الصّواريخ الكوبيّة عام ١٩٦٢. سيتعلّق الأمر بالتّسبّب في صدمة تُوعّي الطّبقة الحاكمة الامريكية وتفهمها أنّها لم تعد تملك التّفوّق الّتي أمعنت طويلاً في سوء استخدامه.
[1] « Riabkov place les USA en face de leurs responsabilités », Réseau Voltaire, 10 janvier 2022.
[2] “الحكم الأحادي القطب مخالف للقانون وللأخلاق”, بقلم فلاديمير بوتين, شبكة فولتير , 11 شباط (فبراير) 2007, www.voltairenet.org/article145391.html
[3] Fact Sheet on the Ted Cruz bill on Nord Stream 2, Voltaire Network, January 12, 2022
[4] Document send by Naftogaz to the US Congress, Voltaire Network, January 12, 2022
[5] “بايدن -بوتين، يالطا 2 ولا برلين جديدة”, بقلم تييري ميسان, ترجمة سعيد هلال الشريفي, شبكة فولتير , 22 حزيران (يونيو) 2021, www.voltairenet.org/article213441.html
[6] « Propagande : les Chinois sont expansionnistes », Réseau Voltaire, 13 juillet 2016.
[7] « Josep Borrell organise le siège du Donbass et de la Transnistrie », Réseau Voltaire, 10 janvier 2022.