أخيراً سيكون القاضي الألماني دتليف ميليس في دمشق في العاشر من الشهر الجاري، إذ يبدأ بصورة عملية التعاون السوري مع اللجنة الدولية، التي تحقق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري،

وسيكون في اطار هذا التعاون السوري مع اللجنة، قيام ميليس باستجواب عدد من المسؤولين السوريين وسماع شهاداتهم حول بعض الجوانب التي سبقت ورافقت وأعقبت اغتيال الرئيس الحريري في الرابع عشر من شباط (فبراير) الماضي، من أجل استكمال ملف التحقيق في القضية.

والحق، فإن التعاون السوري مع القاضي ميليس، جاء في أعقاب تردد سوري طال، وأحاطته مراوغة سياسية، ربما كانت في خلفياتها مستندة إلى تقدير سوري، بأن التحقيق من الناحية الجنائية، لن يذهب إلى نتيجة مؤكدة، وأنه قد يكون مجرد تحقيق سياسي هدفه المسبق ادانة سورية وعدد من حلفائها وأنصارها في لبنان، بصورة تجعلهم مسؤولين عن اغتيال الحريري أو ضالعين في جريمة قتله، كما أن من أسباب التردد السوري في التعاون مع لجنة التحقيق ورئيسها، خوف السوريين من انكشاف جوانب من نظامهم الأمني، خصوصاً أن بين المطلوب الحصول على شهاداتهم كبار شخصيات المؤسسة الأمنية في سورية التي اعتادت ورجالها العيش في الظل، حتى بعد خروج الأخيرين من الخدمة.

غير أن التطورات التي أحاطت بلجنة التحقيق وجهود رئيسها، خصوصاً بعد صدور التقرير الإجرائي الذي تم عرضه أمام مجلس الأمن، واعتقال الأربعة الكبار من رجال الأمن اللبناني، دفعت جميعاً إلى إحداث تبدل في الموقف السوري حيال ميليس ولجنته، واتخذ كلام الرئيس الأسد إلى مجلة «دير شبيغل» عن إمكان استجواب أي مواطن سوري مضموناً عملياً، اثر توجيه سورية الدعوة للقاضي ميليس لزيارة دمشق، واستجواب من يريد في اطار مهمته، وهو ما سيفعله في العاشر من الشهر الجاري.

والتحول السوري قد يعود في أساسه إلى ثلاث نقاط أساسية، أولاها: إدراك سورية أن مهمة اللجنة جدية، وأن عدم التعاون معها سيقود سورية إلى التصادم مع الإرادة الدولية، معبراً عنها في موقف مجلس الأمن الدولي، والثاني: أن مجريات التحقيق – إضافة إلى شخصية المحقق ومهنيته العالية – تؤكد الطابع الجنائي للتحقيق، وهو ما يتقاطع مع إعلانات برغبة سورية في معرفة الحقيقة عن اغتيال الحريري، والأمر الثالث: أن انكشاف جانب من النظام الأمني السوري وشخصياته، هو أقل ضرراً من دخول سورية في مواجهة ذات طابع دولي، خصوصاً أن تغييراً وزارياً سورياً مرتقباً، سينزع الصفة الرسمية عن وزير الداخلية اللواء غازي كنعان الذي قيل أنه سيكون بين الذين يستجوبهم ميليس.

وسورية في تعاونها مع اللجنة ورئيسها، ستؤكد تجاوبها مع رغبات المجتمع الدولي وقراراته، وهو سلوك طالما نددت سورية بإسرائيل لأنها لم تعمل به، ودأبت إسرائيل على تحدي رغبات المجتمع الدولي ورفض تنفيذ قراراته، كما أن سورية في تعاونها تسقط الذرائع التي يستخدمها خصومها من مستويات عدة ضدها في الموضوع اللبناني وفي اغتيال الحريري على وجه الخصوص، إذ ترددت اتهامات بضلوع سورية في اغتياله.

ولا شك، أن التعاون السوري مع ميليس، وان كان يؤدي إلى انكشاف في بعض جوانب النظام الأمني السوري، فانه سيؤكد في جانب منه، أن السلطات حريصة على إثبات أن نظامها الأمني متوافق مع سياساتها، وأنها لن تقوم بالتغطية على أية ممارسات يقوم بها أعضاء وقياديون في النظام الأمني، من خلال الحجب كما جرت العادة في السابق.

أن أهمية التعاون السوري مع لجنة التحقيق الدولية ورئيسها القاضي دتليف ميليس، تتجاوز كل النقاط السابقة إلى نقطة أكثر أهمية، خلاصتها، أن اختيار سورية التعاون جعلها خارج الخيار الثاني، وهو خيار دخول المواجهة الدولية، وهذا سلوك، بغض النظر عن خلفياته، يؤكد امكان التغيير السوري الذي وان بات ممكناً على صعيد السياسة الخارجية وفي واحد من مواضيعها الساخنة، فانه يمكن أن يتكرر في المواضيع الأخرى، كما يمكن أن يحدث الأمر ذاته إذا توفرت الرغبة والإرادة السياسية السورية للمضي في هذا الطريق.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)