الأخوّة، الأساس والطريق للسلام

1. في رسالتي الأولى بمناسبة اليوم العالمي للسلام، أرغب بأن أوجّه للجميع، أفرادًا وشعوبًا، الدعاء لحياة مليئة بالفرح والرجاء. في قلب كل رجل وامرأة تسكن، في الواقع، الرغبة في حياة مليئة تتميّز بشوق، لا يمكن قمعه، للأخوّة التي تدفعنا نحو الشركة مع الآخرين الذين نجد فيهم لا أعداء ولا منافسين وإنما إخوة لنقبلهم ونعانقهم.

في الواقع، تشكل الأخوّة بعدًا أساسيًّا للإنسان، الذي هو عبارة عن كائن علائقي. واليقين الحيّ لهذه العلائقيّة يحملنا لنرى ونعامل كل شخص كأخت حقيقيّة وأخ حقيقيّ، وبدون هذه العلائقيّة يصبح من المستحيل بناء مجتمع عادل وسلام صلب ودائم. من الأهميّة بمكان أن نذكّر فورًا بأننا نبدأ عادة بتعلم الأخوة في كنف العائلة، وخصوصًا بفضل أدوار أفرادها المسؤولة والمتكاملة، ولاسيما أدوار الأب والأم. فالعائلة هي مصدر كل أخوّة ولذلك فهي أيضًا الأساس والطريق الأولي للسلام، إذ أنها، وبحسب دعوتها، عليها أن تُعديَ العالم بمحبّتها.

إن العدد المتزايد للمواصلات والرسائل التي تغمر عالمنا يجعل أكثر حسيًّا اليقين بالوحدة والمشاركة في مصير مشترك بين أمم الأرض. فعبر التاريخ كما في تعدد الإثنيات والمجتمعات والثقافات، نجد بذور الدعوة لتشكيل جماعة مؤلفة من إخوة يقبلون بعضهم البعض ويعتنون ببعضهم البعض. لكن هذه الدعوة، غالبًا ما يعيقها الواقع وينكرها لاسيما في يومنا هذا، في عالم تميّزه "عولمة اللامبالاة" التي تجعلنا "نعتاد" ببطء على ألم الآخر وتغلقنا على أنفسنا.

وفي أنحاء كثيرة من العالم، يستمرّ الأذى الكبير الذي يطال الحقوق البشريّة الأساسيّة، وخصوصًا حق الحياة وحق الحريّة الدينيّة. والظاهرة المأساويّة للإتجار بالكائنات البشريّة التي يستغل أشخاص يفتقرون لضمير حيّ حياتها ويأسها، تشكل مثالاً مقلقًا. وعلى الحروب القائمة على نزاعات مسلحة تُزاد تلك الحروب الأقل وضوحًا ولكنها بذلك لا تقل وحشيّة، وهي الحروب الاقتصادية والمالية تستخدم فيها أدوات مدمّرة للحياة والعائلات والأعمال.

إن العولمة، كما أكّد البابا بندكتس السادس عشر، تقرّبنا لكنها لا تجعلنا إخوة[1]. بالإضافة إلى أن العديد من حالات التباين والفقر والظلم لا تشير فقط إلى نقص عميق في الأخوة، وإنما إلى غياب ثقافة التضامن أيضًا. والإيديولوجيات الجديدة التي تتميّز بفردانيّة منتشرة وأنانيّة واستهلاكيّة ماديّة تضعف الروابط الاجتماعيّة مغذيةً ذهنيّة "الإقصاء" التي تقود إلى احتقار ونبذ الأكثر ضعفًا والذين يُعتبرون "بلا فائدة". هكذا يصبح التعايش الإنساني أشبه بـ "تبادل خدمات" برغماتي وأناني.

في الوقت عينه، يظهر جليًّا أيضًا أن الأخلاقيات المعاصرة تعجز عن تحقيق أواصر أخوّة حقيقيّة، لأن الأخوّة التي تفتقد إلى مرجعيّة أب مشترك، يكون أساسها الجوهري، لا يمكنها أن تستمرّ[2]. لأن الأخوة الحقيقية بين البشر تتطلب أبوة متسامية. وبالاعتراف بهذه الأبوّة، تتوطّد الأخوة بين البشر أي أن أصبح ذلك "القريب" الذي يهتم بالآخر.

"أين أخوك؟" (تكوين 4، 9)

2. لنفهم بشكل أفضل دعوة الإنسان هذه للأخوّة، ولكي نتعرف بشكل أنسب على العوائق التي تقف حاجزًا في تحقيقها ونحدد الطرق لتخطيها. من الأهميّة بمكان أن تقودنا معرفة مشروع الله الذي يقدمه لنا الكتاب المقدس بشكل بارز.

بحسب رواية الخلق يتحدّر البشر جميعًا من والدَين مشترَكين، آدم وحواء، اللذين خلقهما الله على صورته ومثاله (راجع تكوين 1، 26)، واللذين وَلدا قايين وهابيل. نقرأ في قصة هذه "العائلة الأولى" بداية المجتمع وتطور العلاقات بين الأشخاص والشعوب.

كان هابيل راعي غنم، وقايين يحرث الأرض، لكن هويتهما العميقة ودعوتهما هي بأن يكونا إخوة، بالرغم من اختلاف نشاطهما وثقافتهما وطريقة تعاطيهما مع الله والخليقة. لكن قتل قايين لأخيه هابيل يشهد مأساويًّا على الرفض الجذري للدعوة إلى الأخوّة. وقصتهما (راجع تكوين 4، 1- 16) تظهر المهمة الصعبة التي دعي إليها جميع البشر، ليعيشوا متحدين ويعتنوا الواحد بالآخر. فقايين، بعدم قبوله لتفضيل الله لهابيل الذي قدم له الأفضل من بين غنمه - "نظر الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين وتقدمته لم ينظر" (تكوين 4، 3- 5) – قتل هابيل حسدًا. بهذا الشكل رفض الاعتراف بأنه أخ وأن يتواصل بإيجابية معه، ويعيش أمام الله آخذًا على عاتقه مسؤولياته بالإعتناء بالآخر وحمايته. وعلى السؤال: "أين أخوك؟"، الذي به سأل الله قايين، أن يتحمّل مسؤولية تصرّفه، أجاب: "لا أعلم. أحارس لأخي أنا؟" (4، 9). ومن ثمّ يخبرنا سفر التكوين أن "قايين خرج من أمام الرب" (4، 16).

علينا أن نتساءل حول الأسباب العميقة التي دفعت قايين لعدم الاعتراف برابط الأخوة ورابط التبادل والشركة الذي كان يربطه بأخيه هابيل. فالله نفسه قد أدان قايين ووبّخه على اقترانه بالشر: "الخطيئة رابضة عند بابك" (تكوين 4، 7). لكن قايين رفض أن يتصدّى للشرّ و"وثب على هابيل أخيه فقتله" (تكوين 4، 8) محتقرًا بذلك مشروع الله. وبهذا خان دعوته الأساسية في أن يكون ابنًا لله ويعيش الأخوّة.

تعلّمنا قصة قايين وهابيل أن البشرية تحمل في داخلها الدعوة للأخوة ولكنها تحمل أيضًا الإمكانيّة المأساوية لخيانتها. تشهد على ذلك الأنانيّة اليوميّة التي تقوم في أساس العديد من الحروب والظلم: إذ يُقتل العديد من الرجال والنساء بأيدي إخوتهم وأخواتهم الذين لا يعترفون بهم كإخوة لهم، أي ككائنات خُلقت للتبادل والشركة والعطاء.


"وأَنتم جَميعاً إخوة" (متى 23، 8)

3. يظهر تلقائيًّا السؤال: هل سيتمكن رجال ونساء هذا العالم من الإجابة بالكامل على رغبة الأخوة التي طبعها فيهم الله الآب؟ هل سيتمكنون بجهودهم فقط من الانتصار على اللامبالاة والأنانيّة والحقد، وقبول الاختلافات المشروعة التي تميّز الإخوة والأخوات؟

في إعادة صياغة كلمات الرب يمكننا أن نلخّص هكذا الجواب الذي يعطينا إياه الرب يسوع: لأن لكم أبًا واحدًا هو الآب السماوي، أنتم جميعًا إخوة (راجع متى 23، 8- 9). فجذور الأخوّة تكمن في أبوة الله. وهي ليست أبوة عامة، مبهمة و غير فعّالة تاريخيًّا، لا بل هي حب الله الشخصي المحدد والملموس لكل إنسان (متى 6، 25- 30). إنها إذًا أبوّة مولّدة للأخوّة لأننا عندما نقبل محبة الله تصبح هذه المحبة العامل الأروع في تحول الوجود والعلاقات مع الآخر، فتفتح البشر على التضامن والمشاركة الفاعلة.

تولد الأخوة البشريّة مجددًا بشكل خاص، بيسوع المسيح ومنه، بموته وقيامته. والصليب هو "المكان" النهائيّ لتأسيس الأخوة التي لا يمكن للبشر أن يولدوها بأنفسهم. فيسوع المسيح الذي أخذ الطبيعة البشرية ليخلّصها، وأحب الآب حتى الموت موت الصليب (راجع فيليبي 2، 8) هو الذي بقيامته سيقيمنا كبشرية جديدة في ملء الشركة مع إرادة الله ومشروعه الذي يشمل تحقيق ملء الدعوة إلى الأخوة.

يسوع يستأنف مشروع الآب ويعترف بأولويته فوق كل شيء. فالمسيح باستسلامه للموت حبًا بالآب يصبح مبدأً جديدًا ونهائيًا لنا جميعًا، نحن الذين دعينا لنعترف بأننا إخوة به لأننا أبناء الآب عينه. هو العهد نفسه والمكان الشخصي لمصالحة الإنسان مع الله والإخوة فيما بينهم. بموت يسوع على الصليب نجد أيضًا تخطّي الحواجز بين الشعوب، بين شعب العهد والوثنيين الذين لا يتحلون بالرجاء لأنهم كانوا لا يزالون غرباء عن الوعد. كما نقرأ في الرسالة إلى أهل أفسس: يسوع المسيح هو الذي صالح بجسده جميع البشر. إنه السلام لأنه جعل من الجماعتين جماعة واحدة وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وخلق في شخصه من هاتين الجماعتين شعبًا واحدًا، إنسانًا جديدًا وبشريّة جديدة (راجع أفسس 2، 14- 16).

من يقبل حياة المسيح ويحيا معه، يعترف بالله كأب ويهب له نفسه بكليتها ويحبّه فوق كلّ شيء. فالإنسان الذي اختبر المصالحة يرى في الله أبًا للجميع وبالتالي هو مدعوٌ لعيش أخوة منفتحة على الجميع. بالمسيح، يُقبل الآخر ويُحب كابن وابنة لله، وكأخ وأخت لا كغريب، أو غريم أو حتى كعدو. ففي عائلة الله، حيث يعيش الجميع كأبناء للآب عينه، لا وجود لـ "حياة للإقصاء" لأنهم طُعّموا جميعًا بالمسيح، إنهم أبناء بالابن. جميعهم ينعمون بكرامة متساوية ولا يمكن المس بها. جميعهم محبوبين من الله وخُلِّصوا بدم المسيح الذي مات على الصليب وقام من أجل كلِّ واحد منهم. ولهذا السبب لا يمكننا أن نقف غير مبالين أمام مصير الإخوة.

الأخوّة الأساس والطريق للسلام

4. من هذا المنطلق، من السهل أن نفهم أن الأخوة هي الأساس والطريق للسلام. فالرسائل العامة الاجتماعية لأسلافي تقدّم مساعدة قيّمة في هذا المجال. يكفي العودة إلى تعريف السلام في الرسالة العامة "ترقّي الشعوب" للبابا بولس السادس أو الرسالة العامة "الاهتمام بالشأن الاجتماعي" للبابا يوحنا بولس الثاني. نستخلص من الأولى أن النمو الشامل للشعوب هو اسم السلام الجديد[3]، ومن الثانية أن السلام هو ثمرة التضامن[4].

يؤكد البابا بولس السادس أن على الأمم أيضا أن تلتقي في روح من الأخوة، لا الأشخاص وحسب. ويوضح "في هذا التفاهم والولاء المتبادلين، وفي هذه الشركة المقدسة، يجب أن نعمل معا لكي نبني مستقبل البشرية المشترك"[5]. هذا الواجب يعني في المقام الأول المميزين. واجباتهم متجذرة في الأخوة البشرية والخارقة للطبيعة وتظهر بأبعاد ثلاثة: واجب التضامن، الذي يتطلب أن تساعد الأمم الثرية تلك الأقل تقدما؛ واجب العدالة الاجتماعية، الذي يتطلب إعادة تركيب العلاقات المعتلة بين الشعوب القوية وتلك الضعيفة لجعلها أصح؛ واجب المحبة الكونية الذي يقتضي العمل من أجل عالم أكثر إنسانية بالنسبة للجميع، عالم يكون فيه للكل شيء يعطى وشيء يؤخذ، دون أن يشكل تقدّم البعض عائقا أمام نمو البعض الآخر[6].

هكذا، إذا اعتبرنا السلام عملا تضامنيا، لا يسعنا، والحالة هذه، أن نفكر بأن الأخوة ليست ركيزته الأساسية. يؤكد البابا يوحنا بولس الثاني أن السلام هو خير لا يجزّأ. إما يكون خيرا للجميع أو لا يكون لأحد. يمكن اكتساب السلام والإفادة منه بطريقة واقعية، كأفضل ميزة للحياة وكنمو مستدام وأكثر إنسانية، فقط إذا برزت من طرف الجميع "عزيمة ثابتة ومثابرة على الالتزام لصالح الخير المشترك"[7]. وهذا يقتضي عدم الانجرار وراء "شهوة الربح" و"عطش السلطة". لا بد من الاستعداد لـ"خسران الذات في سبيل السوى بدل استغلاله وخدمته عوضا عن قمعه لمصلحة هذه الذات [....] [يجب ألا نعتبر] "السوى" – إنساناً كان، أم شعباً أم أمة – مجرد أداة تُستغَل قدرتها على العمل وقوة تحمّلها الجسدي بيسير من التكاليف، ثم تُهمَل جانباً عندما لا تعود تصلح للخدمة، بل أن نعتبره "شبيهاً لنا" و"عوناً"[8].

إن التضامن المسيحي يتطلب أن يُحب القريب ليس فقط كـ"كائن بشري بحقوقه ومساواته الأساسية تجاه الجميع، بل كصورة حية لله الآب، المفتداة بدم المسيح، والمحطّ الدائم لعمل الروح القدس"[9]، كأخ آخر. "إذ ذاك من خلال إدراكنا لأبوة الله الشاملة وأخوّة كل البشر في المسيح، "الأبناء في الابن"، وحضور الروح القدس وعمله المحيي ـ يذكّر البابا يوحنا بولس الثاني ـ تكتسب نظرتنا إلى العالم مقياساً جديداً للتأويل"[10] ولتبديله.

الأخوّة، شرط أساسي للتغلب على الفقر

5. في الرسالة العامة المحبة في الحقيقة ذكّر سلفي العالم بأن غياب الأخوّة بين الشعوب والبشر يشكل سببا هاما للفقر[11]. في العديد من المجتمعات نختبر نوعا عميقا من الفقر في العلاقات يعود إلى النقص في العلاقات الوطيدة وسط العائلات والجماعات. إننا نشهد بقلق نمو أنواع متعددة من الإستياء والتهميش والوحدة وأشكال متنوعة من التبعية المرضية. يمكن تخطي هذا النوع من الفقر فقط عن طريق إعادة اكتشاف وتثمين العلاقات الأخوية وسط العائلات والجماعات، من خلال مقاسمة الأفراح والأتراح، الصعوبات والنجاحات التي ترافق حياة الأشخاص.

فضلا عن ذلك، إذا كنا نشهد ـ من ناحية ـ انخفاضا في الفقر المطلق، لا يسعنا ـ من ناحية أخرى ـ ألا نقرّ بوجود نمو خطير للفقر النسبي، أي لانعدام المساواة بين الأشخاص والجماعات الذين يتعايشون في منطقة محددة أو في سياق تاريخي ـ ثقافي محدد. في هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى سياسات فاعلة تعزز مبدأ الأخوّة، وتضمن للأشخاص ـ المتساوين في كرامتهم وحقوقهم الأساسية ـ الحصول على "رؤوس الأموال"، والخدمات، والموارد التربوية والصحية والتكنولوجية كي تتاح لكل فرد فرصة التعبير عن مشروع حياته وتحقيقه، وينمو بالكامل كشخص.

كما لا بد من الإقرار أيضا بالحاجة إلى سياسات ترمي إلى التخفيف من التباين المفرط في المداخيل. يجب ألا ننسى تعليم الكنيسة حول ما يُسمى بالرهن الاجتماعي، الذي ـ استنادا إليه ـ يصبح من المشروع للإنسان، كما يقول القديس توما الأكويني، لا بل من الضروري أن "يملك الخيور"[12] لاستخدامها، أن يملكها لا "كملكية خاصة به، بل كملكية مشتركة يستطيع أن يلبي من خلالها احتياجات الآخرين"[13].

ختاما، ثمة شكل آخر لتعزيز الأخوة ـ وللتغلب بالتالي على الفقر ـ وينبغي أن يشكل أساسا لباقي الأشكال. إنه انفصال من يختار أن يعيش أنماط حياة بسيطة وجوهرية، ومن يتمكن ـ من خلال مقاسمة ثرواته الخاصة ـ أن يختبر الشركة الأخوية مع الآخرين. وهذا أمر أساسي من أجل إتباع يسوع المسيح وعيش حياة مسيحية أصيلة. وهذه ليست فقط حالة الأشخاص المكرسين الذين يبرزون نذر الفقر، بل تنطبق على العديد من العائلات والعديد من المواطنين المسؤولين الذين يؤمنون بحزم أن العلاقة الأخوية مع القريب تشكل الخير الأثمن.

إعادة اكتشاف الأخوّة في الاقتصاد

6.إن الأزمات المالية والاقتصادية المعاصرة الخطيرة ـ التي تستمد جذورها من ابتعاد الإنسان التدريجي عن الله وعن "القريب"، ومن البحث الجشع عن الخيور المادية، من جهة، وإفقار العلاقات الشخصية والجماعية، من جهة ثانية ـ حملت الكثيرين على البحث عن الرضاء والسعادة والأمن في الاستهلاك والربح بشكل يتخطى منطق الاقتصاد السليم. في العام 1979 شعر البابا يوحنا بولس الثاني بوجود "خطر أكيد وملموس وهو خشية الإنسان، فيما هو يوطّد سيادته على عالم الأشياء، أن يفقد أسباب هذه السيادة الأساسية فتخضع إنسانيته، بمختلف الأشكال، لهذا العالم ويطوّقه التنظيم العضوي للحياة الجماعية، بمختلف الطرق ـ ولو لم يفطن لهذا الأمر حالا ـ وتقيّده نُظُم الإنتاج والاستثمار وضغط وسائل الإعلام"[14].

ينبغي أن يدفع تتابع الأزمات الاقتصادية إلى إعادة التفكير بنماذج النمو الاقتصادي وإلى تبدل في أنماط الحياة. بإمكان الأزمة الراهنة اليوم، وعلى الرغم من تأثيرها الخطير على حياة الأشخاص، أن تشكل فرصة ملائمة لاستعادة فضائل الحذر، وضبط النفس والعدالة والقوة الداخلية. هذه الفضائل قادرة على مساعدتنا في تخطي الأوقات الصعبة وإعادة اكتشاف الروابط الأخوية التي تربطنا ببعضنا البعض، في الثقة العميقة التي يحتاج إليها الإنسان والقادرة على تحقيق ما يتخطى حدود تعظيم المصالح الفردية الخاصة. هذه الفضائل هي ضرورية خصوصا من أجل بناء وصون مجتمع يتلاءم مع الكرامة البشرية.

الأخوة تطفئ نار الحرب

7. خلال العام المنصرم، واصل العديد من أخوتنا وأخواتنا عيش خبرة الحرب المؤلمة، التي تشكل جرحا خطيرا وعميقا يصيب الأخوة.

عديدة هي الصراعات التي تجري في إطار اللامبالاة العامة. أعبّرُ لكل العائشين في أراض تزرع فيها الأسلحة الرعب والدمار عن قربي الشخصي وقرب الكنيسة بأسرها. تكمن رسالة الكنيسة في حمل محبة المسيح حتى للضحايا العزل في الحروب المنسية، من خلال الصلاة على نية السلام، خدمة الجرحى والجياع واللاجئين والمهجرين ومن يعيشون في الخوف. ترفع الكنيسة صوتها أيضا لتوصل إلى المسؤولين صرخة وجع هذه البشرية المتألمة، وكي يوضع حد للأعمال العدائية ومعها كل انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية[15].

لهذا السبب أود أن أوجه نداء قويا لمن يزرعون العنف والموت بواسطة السلاح: اكتشفوا مجددا في من تعتبرونه اليوم عدوا يجب قتله أخا لكم وأوقفوا يدكم! تخلوا عن طريق السلاح واقتربوا من الشخص الآخر بواسطة الحوار والغفران والمصالحة لإعادة بناء العدالة والثقة والأمل من حولكم! "من هذا المنظار، يبدو جليا أن الصراعات المسلحة تشكل، في حياة الشعوب، الحرمان المتعمد من أي إمكانية للتوافق الدولي، وتخلق انقسامات عميقة وجراحا مؤلمة تحتاج إلى سنوات طويلة لتلتئم. تشكل الحروب الرفض العملي للالتزام في بلوغ الأهداف الاقتصادية والاجتماعية العظيمة التي تطمح إليها الجماعة الدولية"[16].

لكن، طالما بقيت كميات كبيرة من الأسلحة قيد التداول، كما يحصل حاليا، يمكن أن توجد دائما ذرائع جديدة للقيام بأعمال عدائية. لذا أتبنى نداء أسلافي لصالح الحد من انتشار الأسلحة ونزع أسلحة الجميع، بدءا من السلاح النووي والكيميائي.

لكن لا يسعنا ألا نلاحظ أن الاتفاقات الدولية والقوانين الوطنية، وعلى الرغم من كونها ضرورية ومرجوة بشدة، لا تكفي وحدها لحماية البشرية من مخاطر الصراعات المسلحة. لا بد من ارتداد القلوب بشكل يسمح لكل شخص أن يرى في الآخر أخا يعتني به، ويعمل معه من أجل بناء حياة للجميع. هذا هو الروح الذي يحرك العديد من مبادرات المجتمع المدني، بما في ذلك المنظمات الدينية، لصالح السلام. أتمنى أن يستمر الالتزام اليومي للجميع في حمل الثمار وأن يتم التوصل إلى تطبيق فعلي للحق في السلام ـ في إطار القانون الدولي ـ كحق إنساني جوهري وشرط مسبق أساسي لممارسة باقي الحقوق كلها.

الفساد والجريمة المنظمة يناهضان الأخوة

8. إن أفق الأخوة يوجِّه صوب النمو المتكامل لكل رجل وامرأة. يجب ألا تُقمع أو تُهان الطموحات المُحقّة لكل شخص، خصوصا إذا كان فتيا، ينبغي ألا يُسلب منه الأمل في تحقيق هذه الطموحات. مع ذلك، لا بد من التمييز بين الطموح وسوء استعمال النفوذ. بل على العكس لا بد من التنافس في إكرام بعضنا البعض (راجع روما 12، 10). حتى في الخلافات، التي تشكل جانبا من الحياة لا يمكن إزالته، يجب أن نتذكر دائما أننا أخوة، وبالتالي أن نربي ونتربى على عدم اعتبار القريب عدوا أو خصما ينبغي التخلص منه.

الأخوّة تولّد السلام الاجتماعي لأنها تخلق توازنا بين الحرية والعدالة، بين المسؤولية الشخصية والتضامن، بين خير الأفراد والخير العام. على الجماعة السياسية بالتالي أن تتصرف بطريقة شفافة ومسؤولة لتعزيز كل هذا. على المواطنين أن يشعروا بأنهم ممثَّلون من قبل السلطات العامة في إطار احترام حريتهم. لكن غالبا ما تدخل مصالح أحادية الجانب على العلاقة بين المواطن والمؤسسات، فتشوهها وتساهم في خلق جو من الصراع الدائم.

روح الأخوة الأصيل يتغلب على الأنانية الفردية التي تعترض إمكانية أن يعيش الأشخاص بحرية وبتناغم مع بعضهم البعض. هذه الأنانية تنمو اجتماعيا، أكان في الأشكال المتعددة للفساد، المتشعبة جدا اليوم، أم في تشكيل المنظمات الإجرامية، بدءا من الجماعات الصغيرة وصولا إلى تلك المنظمة على مستوى عالمي والتي تستهدف كرامة الشخص في الصميم، مستنفدة في العمق الشرعية والعدالة. هذه المنظمات تسيء إلى الله بشكل خطير، تلحق الضرر بالإخوة وتفسد الخلق، خصوصا عندما تكون ذات صبغة دينية.

أفكر بمأساة المخدرات الممزِّقة التي يتم من خلالها جني الأرباح في إطار ازدراء القوانين الخلقية والمدنية، أفكر بإتلاف الموارد الطبيعية وبالتلوث الحاصل، بمأساة استغلال العمل؛ أفكر بالنشاطات المالية غير المشروعة وبالمضاربات الوهمية المالية، التي غالبا ما تكتسب طابعا مضرا ومسيئا لأنظمة اقتصادية واجتماعية برمتها، ما يعرض للفقر ملايين الرجال والنساء؛ أفكر بالدعارة التي تحصد يوميا ضحايا أبرياء، خصوصا وسط الأجيال الفتية، وتسلب منها المستقبل؛ أفكر بالإتجار المقيت بالكائنات البشرية، بالجرائم والانتهاكات الممارسة بحق القاصرين، بالعبودية التي ما يزال رعبها منتشرا في مناطق عدة من العالم، بمأساة غالبا ما لا تلقى آذانا صاغية، مأساة المهاجرين الذين غالبا ما يُستغلون بطريقة مخزية في إطار انعدام الشرعية. لقد كتب بهذا الصدد يوحنا الثالث والعشرون: "إن التعايش المرتكز إلى علاقات القوة وحسب ليس تعايشا إنسانيا. وفي ظله لا مفر من تعرض الأشخاص للقهر والقمع، عوضا عن تشجيعهم وتحفيزهم على تنمية الذات وإتقانها"[17]. لكن الإنسان يستطيع أن يرتد ويجب ألا نفقد أبدا الأمل في عيش حياة جديدة. أتمنى أن يشكل هذا الأمر رسالة ثقة للجميع، حتى من ارتكبوا جرائم فظيعة، لأن الله لا يريد موت الخاطئ، بل أن يتوب ويحيا (راجع حزقيال 18، 23).

في السياق الواسع للاجتماعية البشرية، ومن خلال النظر إلى الجريمة والعقوبة، يتجه الفكر أيضا صوب الظروف اللاإنسانية في العديد من السجون، حيث غالبا ما يعيش السجين في حالة "دون الحالة البشرية" وتُنتهك كرامته كإنسان، وتُخنق فيه كل رغبة في التحرر. الكنيسة تفعل الكثير في كل هذه البيئات، ملتزمة الصمت في غالب الأحيان. أناشد وأشجع الجميع على بذل جهود إضافية، على أمل أن تحظى هذه الأعمال التي يقوم بها رجال ونساء شجعان، بمزيد من الدعم النزيه والشريف حتى من قبل السلطات المدنية.

الأخوة تساعد في الحفاظ على الطبيعة وتنميتها

9. لقد نالت العائلة البشرية من الخالق هبة مشتركة: الطبيعة. إن النظرة المسيحية إلى الخلق تتضمن تقديرًا إيجابيًا لشرعية الإفادة من الطبيعة، شريطة التصرف بطريقة مسؤولة، بمعنى الإقرار بـ"اللغة" المكتوبة فيها واستخدام الموارد بحكمة لصالح الجميع، مع احترام جمال وغاية ومنفعة الكائنات الحية ووظيفتها في إطار النظام البيئي. الطبيعة موجودة بتصرفنا ونحن مدعوون لإدارتها بطريقة مسؤولة. لكن غالبا ما ننجر وراء الجشع وكبرياء التسلط والتملك والتلاعب والاستغلال؛ لا "نحمي" الطبيعة، لا نحترمها ولا نعتبرها هبة مجانية تتطلب الاعتناء بها ووضعها بخدمة الإخوة، بما في ذلك أجيال المستقبل.

إن القطاع الزراعي بنوع خاص هو القطاع الإنتاجي الأولي المدعو إلى تنمية وحماية الموارد الطبيعية لإطعام البشرية. في هذا الصدد، يدفعني الاستمرار المخزي للجوع في العالم لأتقاسم معكم السؤال التالي: بأي طريقة نستخدم موارد الأرض؟ على المجتمعات المعاصرة أن تفكر بهرمية الأولويات التي يوجَّه صوبها الإنتاج. في الواقع إنه لواجب ملزم أن تُستخدم موارد الأرض بطريقة تسمح للجميع بالتحرر من الجوع. كثيرة هي المبادرات والحلول الممكنة ولا تقتصر على زيادة الإنتاج. معروف أن الإنتاج الحالي كاف، وعلى الرغم من ذلك هناك ملايين الأشخاص الذين يعانون ويموتون من الجوع وهذا يشكل فضيحة حقيقية. لذا من الأهمية بمكان أن توجد السبل الكفيلة بجعل الجميع يستفيدون من ثمار الأرض، ليس للحيلولة دون اتساع الهوة بين من يملك الكثير ومن عليه الاكتفاء بالفتات وحسب، بل قبل كل شيء للاستجابة لمتطلبات العدالة والمساواة والاحترام تجاه كل كائن بشري. من هذا المنطلق أود أن أذكر الكل بضرورة تخصيص الخيور للجميع الذي يشكل أحد المبادئ الأساسية للعقيدة الاجتماعية للكنيسة. احترام هذا المبدأ يشكل الشرط الأساسي للسماح بالحصول المنصف والفاعل على تلك الخيور الأساسية والأولية التي يحتاج إليها كل إنسان وهي من حقه.

الخاتمة

10. تحتاج الأخوة لأن تُكتشف، تُحب، تُختبر، تُعلن ويُشهد لها. لكن وحدها المحبة التي يهبها الله تسمح لنا بأن نقبل الأخوّة ونعيشها بكامل.

يجب ألا تقتصر الواقعية الضرورية للسياسة والاقتصاد على تقنية خالية من المثالية، تتجاهل البعد المتسامي للإنسان. عندما يغيب هذا الانفتاح على الله يصبح كل نشاط إنساني أكثر فقرا ويتحول الأشخاص إلى أغراض تُستغل. عندما يقبل الاقتصاد والسياسة بالتحرك ضمن المجال الواسع الذي يضمنه هذا الانفتاح على من يحب كل رجل وامرأة، ينجحان في الارتكاز إلى قاعدة الروح الأصيل للمحبة الأخوية ويمكن أن يصيرا أداة فاعلة للنمو البشري المتكامل وللسلام.

نحن المسيحيون نؤمن بأننا أعضاء بعضنا البعض في الكنيسة، كلنا ضروريون لأن كل واحد منا أُعطي نعمة وفقا لمقياس عطية المسيح من أجل الخير العام (راجع أفسس 4،7.25؛ 1 قورنتس 12،7). لقد جاء المسيح إلى العالم ليحمل لنا النعمة الإلهية، أي إمكانية المشاركة في حياته. وهذا يتطلب نسج علاقة أخوية مطبوعة بالمبادلة والغفران وهبة الذات بالكامل، وفق وسْع وعمق محبة الله، التي قدمها للبشرية مَن صُلب وقام من الموت وجذب إليه الكل: "إني أعطيكم وصية جديدة: أن يحب بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إذا كنتم تحبون بعضكم بعضا" (يوحنا 13: 34-35). هذا هو الخبر السار الذي يتطلب من كل شخص خطوة إضافية وممارسة دائمة للتعاطف وإصغاء لآلام وآمال الآخر، حتى أبعد الأشخاص، سائرين على الدرب المتطلبة لهذه المحبة التي تعرف كيف تهب ذاتها وتبذل نفسها مجانا من أجل خير كل أخ وأخت.

المسيح يعانق كل الإنسان ويريد ألا يهلك أحد. "فإن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يوحنا 3، 17). يفعل ذلك بدون تحامل، دون أن يرغم أحدا على فتح بابَي قلبه وعقله. "ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والمتقدم كالذي يخدم" ـ يقول يسوع المسيح ـ "فأنا في وسطكم كالذي يخدم" (لوقا 22: 26-27). على كل نشاط إذاً أن يكون مطبوعا بموقف خدمة الأشخاص، خصوصا البعيدين منهم والغرباء. الخدمة هي روح هذه الأخوّة التي تبني السلام.

فلتساعدنا مريم، أم يسوع، على أن نفهم ونعيش يوميا الأخوة التي تنبع من قلب ابنها كي نحمل السلام لكل إنسان على أرضنا الحبيبة هذه.