تلقت الديبلوماسية الفرنسية باستياء بالغ المعلومات التي تحدثت عن مضمون لقاء الرئيس جاك شيراك والنائب سعد الحريري الثلثاء الفائت “21 حزيران” وما قيل عن موقف فرنسي مناوئ لاعادة انتخاب الرئيس نبيه بري لرئاسة مجلس النواب، فضلاً عن الكثير الذي قيل ايضاً عن اجتماع باريس في 13 حزيران والذي جمع سفراء فرنسا برنار ايمييه والولايات المتحدة جيفري فيلتمان وبريطانيا جايمس واط الى ممثل عن الاتحاد الاوروبي. ولم تكتم الديبلوماسية الفرنسية امتعاضها من ان كل ما يتردد انما كان المقصود به هو الايحاء بـ"وصاية" فرنسية، واميركية، تخوض في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية وتفرض على اللبنانيين خياراتهم الوطنية.

ودحضاً لذلك كله رسمت مصادر ديبلوماسية فرنسية لوحة السياسة الفرنسية في لبنان وفق المعطيات الآتية:

اجتماع باريس:

لم يتعدّ كونه اجتماعاً لسفراء ثلاث دول معنية بلبنان ضم موظفين ليس لاي منهم سلطة سياسية، وهو رمى الى تشجيع المضي في الاصلاحات الداخلية في هذا البلد من ضمن مقومات سيادته وحريته واستقلاله تحقيقاً للاهداف الآتية:
- تأكيد مساعدة لبنان والتفكير في مستقبله وتقديم هذا الدعم في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، وسبل تقديم المساعدات بعد تأليف الحكومة الجديدة عندما تطلبها هذه.
- لم يتوخّ اجتماع باريس اي وصاية جديدة على لبنان ولا التدخّل في الوضع الاقتصادي اللبناني، سواء في الوسائل أو في القرار. وهو لم يرد اكثر من عرض اقتراحات غير مفروضة على اللبنانيين في اي حال. وقد تولى السفراء المعنيون نقل نتائج اجتماع باريس واقتراحاته الى المسؤولين اللبنانيين.
- لم يصدر عن اجتماع باريس اي بيان أو قرارات وانما خلاصة مشتركة غير رسمية بين السفراء شددت على الاتي: على لبنان اجراء اصلاحات سياسية واقتصادية لكل مشاكله، ومن اجل ان يكون ذلك فاعلاً ينبغي ان يقوم بالاصلاح رجال نظيفو الكف ونزهاء ولا شبهة فساد تشوب سمعتهم.
- ان المجتمع الدولي على استعداد لمساعدة لبنان اياً يكن الشكل الذي يمكن ان تتخذه هذه المساعدة سواء في صيغة "مؤتمر اصدقاء لبنان" او في صيغة "مؤتمر باريس"، في لبنان وخارجه، وذلك استجابة منه للرؤية والخطة والاهداف التي يكون قد اعدها اللبنانيون وبناء على اقتراحهم.
- على لبنان ان يهتم بالقرار 1559 السير في تنفيذه مرحلياً عبر حوار وطني يأخذ في الاعتبار القدرات اللبنانية والمصلحة العامة. وليس للمجتمع الدولي ان يقول للبنانيين كيف يديرون حواراً داخلياً مع "حزب الله" لحمله على التخلي عن سلاحه تنفيذاً للقرار 1559. واذا كان المجتمع الدولي لا يظهر استعجالاً لهذا التنفيذ، الا انه يرى كما ترى فرنسا خصوصاً ان يبدأ الحوار من خلال آلية سريعة تساعد في ايجاد حل للمشكلة وان اقتضى بلوغه بعض الوقت. وذلك اظهاراً لعزم اللبنانيين و"حزب الله" تحديداً على معالجة هذه المشكلة. اذ ثمة اصرار دولي على تنفيذ القرار كاملاً.

وبحسب المصادر الديبلوماسية الفرنسية، فان "حزب الله" حزب لبناني يمارس مسؤولياته من ضمن المؤسسات. ولانه حزب سياسي ينبغي ان يمارس السياسة مجرداً من سلاحه، وخصوصاً اذا ارادت الغالبية النيابية انخراطه في الحكومة الجديدة مباشرة او بقريبين منه على غرار تجربة الوزير طراد حمادة. الا ان ليس لباريس ان تتدخل في شأن كهذا او في خيار الغالبية النيابية حيال الحزب، سوى ان تقول ان على هذا الحزب تنفيذ القرار 1559 كاملاً.

الانتخابات النيابية:
- لدى الديبلوماسية الفرنسية شعور بان الانتخابات النيابية اجريت بحرية وديموقراطية وشفافية على نحو ما لاحظ كثيرون واورده تقرير لجنة المراقبة الدولية. وهي وان أسفرت عن نتائج لم ترضِ البعض، فانها ادخلت الى مجلس النواب شخصيات جديدة عكست روح التجديد فيه. ولذلك ترى ان مجلس النواب الجديد ممثل لكل التيارات وفئات الشعب اللبناني، وبات على اللبنانيين من الآن فصاعداً تحمّل مسؤولياتهم للخوض جدياً في الاصلاح. وفرنسا تشجع بقوة على الحوار السياسي داخل مجلس النواب حتى وان اتسم بعضه بتشدد، ولكن مكانه في البرلمان وليس في الشارع.
- ليس لباريس ان تتخذ موقفاً ضد الرئيس نبيه بري او معه، وليس لها ان تختار الرئيس المقبل للبرلمان اللبناني ولا يدخل هذا في مسؤولياتها، بل هو قرار النواب اللبنانيين وحدهم وهم يقولون اذا كانوا يريدونه رئيساً لمجلسهم ام لا. وفي كل حال لم يكن للديبلوماسية الفرنسية مرشحون، وهي لا تتدخل في انتخابات رئاسة المجلس كما لم تتدخل في الانتخابات النيابية، مكتفية بالتحدث عن المبادىء، وللبنانيين ان يقرروا من يشاؤون رئيساً للمجلس اكان بري ام سواه. وتالياً ينبغي وضع حد للاوهام التي يشيعها البعض في اوساط اللبنانيين عن هذا التدخل.
- ان باريس التي تجمعها ببري علاقات جيدة تريد المحافظة عليها وتعرف حجم زعامته تدرك ايضاً ان المرحلة المقبلة تقتضي ان يلتزم المسؤولون جميعاً تحقيق الاصلاح ترجمة للتغيير الذي احدثوه في حياتهم السياسية اخيراً. وهو الخيار الذي يجب ان يقود خطاهم الى المرحلة المقبلة.
- تعتقد الديبلوماسية الفرنسية ان الانتخابات النيابية اسفرت عن غالبية برلمانية، وهذا يشير الى ان النظام الدستوري والديموقراطي اللبناني عاد الى العمل بانتظام. ورغم المساوىء التي انطوى عليها قانون الانتخاب، فان الانتخابات النيابية الاخيرة كانت احدى الاكثر حرية في تاريخ الانتخابات النيابية في هذا البلد. وهو امر لفت مجدداً الى اهمية احترام المؤسسات الدستورية واجراء الانتخابات في موعدها واحترام الدستور خصوصاً.
- على الغالبية النيابية الجديدة ان تمارس دورها في الاستشارات التي تسبق تأليف حكومة جديدة. وهو امر يحمل الديبلوماسية الفرنسية على التأكيد ان ليس لباريس مرشح لرئاسة الحكومة او لعضويتها، وانها لا تلقي دروساً في تأليف الحكومات، بل ان اللبنانيين هم الذين يختارون رئيس الحكومة ووزراءها. ولكن ذلك يوجب تأليف حكومة تمثيلية رئيساً واعضاء، متماسكة وتعكس حضوراً ومشاركة للفئات اللبنانية عبر اختيار اشخاص مؤهلين ونزهاء، ولعل من المستحسن الا تكون كبيرة من اجل ان تعمل بفاعلية. الا ان عليها التزام برنامج اصلاح سياسي واقتصادي طموح يبدأ بمناقشة قانون الانتخاب سريعاً.
- ترى باريس ان من الضروري المبادرة الى مناقشة قانون جديد للانتخاب لا يكتفي بتقسيم الدوائر الانتخابية، وانما يشمل ايضاً طريقة الاقتراع ولوائح الشطب والآلية المناسبة فضلاً عن الاستخدام القانوني للاعلام. على ان السجال حول قانون الانتخاب الذي يجري طبيعياً داخل مجلس النواب يكون من الملائم توسيع نطاق مناقشته الى الخارج بغية اجراء حوار وطني عميق للقوى غير الممثلة في المجلس ومنها هيئات المجتمع المدني لان على القانون الجديد ان يؤسس لحياة ديموقراطية سليمة.

ولم يفت المصادر الديبلوماسية الفرنسية ان تلفت الى أهمية اجراء الانتخابات النيابية في يوم واحد، ولاحظت انها لو اجريت في يوم واحد لاختلفت نتائجها الى حد بعيد، مع الاشارة الى انها تجرى في اكثر من بلد في يوم واحد.

الاصلاح:

- ان تشديد المجتمع الدولي على خوض لبنان في الاصلاح يتناول الادارة والبلديات بغية تطوير قوانينها واجراء اصلاح اداري وقضائي، وذلك يقود، في رأي الديبلوماسية الفرنسية، الى استجابة تطلعات الشباب والعمل على تنظيم مواجهة الدين والانفاق وعقلنة الادارة، وخصوصاً ان المجتمع الدولي خصص للبنان ملياري دولار جاهزة للانفاق متى حدد برنامجه الاصلاحي الطموح.
- ترى باريس ان مشكلة لبنان تكمن في سوء ادارته الوحدة الوطنية وعدم التعامل بجدية مع الاصلاح والتغيير الذي لا يقتصر على كونه شعاراً فقط. والاحرى الافادة من ارادة الدعم والمساعدة التي يوفرها له الآن المجتمع الدولي.

الاغتيالات:
- شعرت الديبلوماسية الفرنسية بان موجة الاغتيالات الاخيرة ترمي الى اثارة الذعر لتعطيل دورة الحياة، الا انها لا تعرف الفاعل، وثمة لجنة تحقيق دولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري بدأت اعمالها.
- ليس في وسع فرنسا الا تأكيد دعمها الكامل للجنة الدولية والسلطات اللبنانية، وفي الوقت نفسه توجيه رسالة قوية الى سوريا بمثابة انذار مفادها الآتي: لا نعرف المسؤول عن هذه الجرائم ولا نتهم احداً، ولا نعرف اذا كانت هي المسؤولة عن كل ما حدث. وسواء كان ما قيل عن سوريا صحيحاً او مغلوطاً فان هذه تتحمل امام المجتمع الدولي المسؤولية السياسية عن عدم الاستقرار في لبنان بسبب استمرار نشاط رجال استخباراتها على الاراضي اللبنانية. اذ تسنى للمجتمع الدولي حتى الآن التحقق من انسحاب الجيش السوري من لبنان، ولكن ليس هذه هي حال الاستخبارات السورية.
- تعتقد الديبلوماسية الفرنسية انه لن يكون ثمة مجال للانفتاح على سوريا وتحسين العلاقات معها ما لم يتوقف مسلسل الاغتيالات على الاراضي اللبنانية.

مصادر
النهار (لبنان)