خشبة خالد العظم
الخشبة التي أنزلتها حكومة خالد العظم على الحدود السورية ­ اللبنانية العام 1950, وأغلقت الحدود بين البلدين, يكثر ذكرها اليوم على ألسنة اللبنانيين مع تفاقم أزمة تكدس الشاحنات. لم تكن الخشبة مجرد حاجز حدودي استخدمت لغرض اقتصادي في حينها. بل هي قصة جديرة بإعادة القراءة قبل أن تكررها الألسن كلازمة لغوية للتعبير عن القطيعة بمعنى العقوبة, لأن في قصة خشبة «خالد العظم» تحديداً مفارقات ومعاني ودلالات لم يقاربها الإعلام كثيراً, رغم صلاحيتها لأن تكون درساً في العلاقة مع الجار الشقيق, إن لم نقل في فن السياسة, ودرساً في تأثير الإعلام الانفعالي في المصالح المشتركة, نقول درساً, تجاوزاً, في زمن يندر فيه من لديه الرغبة في التعلم من الماضي.

أهم مفارقة في قصة القطيعة, كما رواها العظم في مذكراته, أنه لم يكن ليتمكن من تنفيذ قرار حكومته لإغلاق الحدود, لولا تسرع الجانب اللبناني, ولو أن الحكومة اللبنانية صبرت قليلاً وفكرت ملياً بالقرار لجنبت لبنان قطيعة مع سوريا دامت من العام 1950 ­1963!!
في التفاصيل يحكي العظم, أن حكومته أرسلت مذكرة إلى الحكومة اللبنانية تخطرها بوجوب إعادة النظر في اتفاق الوحدة الجمركية الموقع بين البلدين, وسد ثغراته الناتجة من فقدان سياسة اقتصادية موحدة وإهمال حق سوريا في المساهمة بإدارة الجمارك والمصالح المشتركة, ما يضر بمصالح سوريا, ويُبقي الوحدة مهددة بالاضطراب من حين لآخر. وأكدت المذكرة ضرورة موافقة البلدين على مبدأ الوحدة الاقتصادية, للتفاوض حول عناصرها, وطلبت الحكومة السورية أن تتبلغ رأي نظيرتها اللبنانية خلال مدة قريبة لا تتجاوز العشرين من شهر آذار “مارس”, الشهر الذي أرسلت المذكرة في اليوم السابع منه.

ويقول العظم: «لم نشأ نشر نص المذكرة قبل وصول الجواب, إلا إن الحكام اللبنانيين لم يكادوا يطلعون عليها حتى ثارت ثائرتهم بشكل عنيف وبدأت حملاتهم الخطابية والصحفية على الحكومة السورية بأشد ما يتصور من الأقوال والكتابات ووصفوا المذكرة بالإنذار وأنهم يرفضون بإباء وعنفوان الخضوع, مع أن لهجة المذكرة كانت مصاغة بقالب ناعم جداً»!! وهنا ينبه العظم إلى تفصيل أساسي وخطير أنه عندما حدد مهلة الرد على المذكرة بعشرة أيام باليوم السابع عشر من آذار €مارس€, لم يراعِ امراً مهماً, وهو أن الجمعية التأسيسية كانت عند منحها السلطة التشريعية لحكومته حددتها بأربعة أشهر تنتهي في الرابع عشر من آذار €مارس€ 1950, أي أن حق الحكومة بإصدار أي تشريع تقتضيه الظروف في حالة رفض لبنان الوحدة الاقتصادية كان موعد انتهائه قبل انتهاء الموعد المحدد للبنان. فلو أن الحكومة اللبنانية تأخرت في الجواب إلى ما بعد انقضاء سلطة العظم التشريعية, ولكانت حكومته عجزت عن اتخاذ المراسيم التي اتخذتها في 13 آذار “مارس” أي قبل انتهاء حقها التشريعي بساعات قليلة.

طبعاً أسهمت الصحافة اللبنانية بحملة قادها التجار,على الحكومة السورية ورئيسها, اُتهم فيها بأن موقفه نابع من ضغينة يحملها ضد رياض الصلح شخصياً, وخرج من اللبنانيين من يهدد سوريا بأن لبنان سوف يرتمي في أحضان إسرائيل, وبأن الضرر الذي سيصيب العلاقات السورية ­ اللبنانية سيصيب جميع البلاد العربية.
ما يثير العجب أن الكلام ذاته وأكثر, يتكرر اليوم رغم تغير الظروف, ويتصرف البعض في الجانب اللبناني مع الأزمة الراهنة التي تشهدها الحدود بالمنطق نفسه, على اعتبار أن إغلاق الحدود هي ورقة الضغط الوحيدة التي يمكن لسوريا استخدامها للانتقام من لبنان, دون النظر بأن ما كان ممكناً لسوريا في الخمسينيات غير ممكن لها الآن, وأن حكومة العظم التي فرضت القطيعة الاقتصادية استثنت الترانزيت والبضائع المعفاة من الجمرك والمحروقات.
كذلك خلال الأزمة التالية التي تكررت خلال فترة انفصال سوريا عن مصر, فقد خطرت لخالد العظم فكرة تحويل خط الترانزيت بهدف الضغط على حكومة لبنان لتقف على الحياد, لكي لا يتحول لبنان ساحة لمهاجمة سوريا, وما كانت هذه الفكرة لتخطر على باله لولا الحصول على ضوء أخضر من الأردن, وطرح الفكرة على العراق. إذاً, أي قرار بعرقلة خط الترانزيت أو تحويله ليس بالإمكان الانفراد به, واليوم أين سوريا من التنسيق مع العراق أو الأردن أو أي بلد عربي؟؟ اللهم إلا إذا كانت الضغينة والعواطف أقوى من المصالح الاقتصادية!! لذا فإن ترويج مصطلح «سياسة انتقامية» كلام عار من السياسة, لأن الانتقام فعل له علاقة بالماضي, والسياسة لها علاقة بالمستقبل والمصالح.

المفارقة الثانية, التي يتكشف عنها تاريخ العلاقات السورية ­ اللبنانية, تكمن في أن جزءاً كبيراً من مشكلة سوريا مع لبنان, هو في جوهره مشكلة إعلامية, فالحملات الصحفية ضد سوريا ليست جديدة, وسابقاً قيل ما هو أسوأ بكثير مما يقال اليوم, مع فارق أن سوريا كان لديها صحافة أيام الأزمات السابقة تصدت لتلك الحملات وعرفت كيف تدافع عن بلدها, بينما سوريا اليوم تفتقد صحافة مستقلة, كما تفتقد إعلاماً حكومياً قوياً قادراً على خوض معركة إعلامية. ما جعل صوت الإعلام اللبناني المدعوم من أطراف عربية ودولية ينفرد بالساحة ليظهر ضعف صوت الطرف الآخر, وكأنه صمت المتلبس بالذنوب. ومما يضحك فعلاً أن خالد العظم الذي لقبه اللبنانيون بأبي القطيعة, لجأ إلى لبنان وبقي فيه طوال فترة الوحدة, التي استمرت خلالها أيضا القطيعة, وحين قرر العودة بعد وقوع الانفصال صرح بضرورة فتح صفحة جديدة مع لبنان, ما جعل الأقلام ذاتها التي هاجمته تكتب مطولات في مديحه والتمني بتسلمه الحكومة!! إلا أن تمترس الدعاية الناصرية في الصحافة اللبنانية, حال دون فتح أي صفحة وعادت الصحافة لتمارس دورها المخرب في علاقة البلدين الجارين, تماماً كما يحدث الآن مع فارق استبدال المهاجمين بأطراف أخرى, المعلوم ومنها المتواري.

لا شك في أن كل ذلك لا ينفي وجود أزمة حقيقية على الأرض, كما لا يعفي سوريا من أخطائها, ولا يعفي لبنان من تهوره, لكن ما يجب التنبه له والحذر منه استمرار الحملات الإعلامية الحاقدة من تلك التي لا تترك للفهم والتفاهم مطرحاً. وليعذرنا الأخوة في لبنان عن ميلنا نحو الشعب السوري, لأننا ما كنا لنميل لولا جرح عميق لا سابق له أصاب قلوب السوريين من كلام عنصري أطلقه البعض عبر التلفزة دون أي إحساس بالمسؤولية. السوريون الذين بمنطق الجغرافيا والتاريخ لم يعانوا سابقاً من أي عقدة أو مشكلة تجاه لبنان, على الضد مما عرف بعقدة التميز اللبناني والاستئثار بمنطق الجغرافيا.

من نافل القول ان السياسيين كل يوم بلون, والمصالح كفيلة بجمع ألد الأعداء في صورة تذكارية حميمة, لكن ما تخلفه السياسة من ندوب في قلوب الشعوب من شأنها إنتاج أبشع صور قد تهدد المستقبل.
قليل من الصبر والتروي والاعتدال في فهم حقيقة ما يجري لا يضير الإعلام, إذا كان حريصاً على رفع الخشبة نهائياً عن الحدود وفي القلوب, ومهتماً فعلاً بالصالح العام وبالإنسان في البلدين.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)