دخلت الأزمة السياسية الإسرائيلية مرحلة المواجهة المباشرة، بعدما كانت نذرها تتجمع وتشير إلى الخطر الداخلي المقبل، خطر الانقسام والتفتت الحزبي (راجع مقالنا في الشرق الأوسط2005/8/7). وقد انتقلت الأزمة نحو المنحى العملي المباشر بدءا من الإعلان عن استقالة وزير المالية بنيامين نتنياهو، من إعلان عوزي لنداو زعيم الجناح اليميني المتشدد في حزب الليكود الحاكم عن ترشيح نفسه لرئاسة الليكود كمنافس لزعيم الحزب آرييل شارون.

لقد جاءت استقالة نتنياهو يوم التصويت في الحكومة على تنفيذ المرحلة الأولى من الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، فظهرت وكأنها اعتراض على هذا التوجه، ولكن سبق لنتنياهو أن وافق على هذه الخطة داخل الوزارة أكثر من مرة، كما أنه تولى بصفته وزيرا للمالية تأمين الأموال اللازمة لتنفيذ الخطة، مما يؤكد أن دافعه للاستقالة ليس خطة الانسحاب بل أمرا آخر يخصه، فما هو هذا الأمر؟ من المعروف أن نتنياهو يسعى لاستعادة زعامته لحزب الليكود منذ أن خسر الانتخابات في عام 1999 أمام حزب العمل بزعامة إيهود باراك. وبعد سقوط باراك من السلطة عام 2000 إثر فشل مفاوضات كامب ديفيد، حاول نتنياهو أن يعود إلى زعامة الحزب، ولكنه وجد أمامه آرييل شارون فقرر الانسحاب من المنافسة. وسعى إلى الهدف نفسه عام 2002 فنافس شارون على زعامة الحزب وفشل، ورضخ للأمر الواقع وقبل أن يتعاون مع حكومة شارون كوزير للمالية من دون أن ينسى هدفه الدائم: العودة إلى زعامة الحزب.

كان نتنياهو يراقب سياسة شارون، ويراقب بشكل خاص خطته للانسحاب من غزة، وكان يشاهد المعارضة الحادة التي تواجهها هذه الخطة داخل الأطر الثلاثة لحزب الليكود (الجمهور المؤيد ــ مندوبي الحزب للمركز القيادي ــ اللجنة القائدة)، وكان يدرس بدقة تضاؤل نسبة التأييد لشارون داخل هذه الأطر الثلاثة، ويتحين الفرصة المناسبة لكي يعلن تمرده على شارون لكي ينال تأييد المعارضين داخل الحزب، منتزعا الزعامة منه. ولكن عاملا جديدا دخل على المعادلة ولم يكن واردا من قبل، وهو إقدام عوزي لنداو على ترشيح نفسه، وهنا أحس نتنياهو بالخطر، وكان لا بد له أن يستقيل بسرعة، وأن يبدأ العمل داخل الحزب بسرعة، لكي لا ينفض المعارضون من حوله، ويتجمعوا حول عوزي لنداو. وظهرت على أثر ذلك بسرعة التحليلات الإسرائيلية التي تقول إن نتنياهو لم يستقل لأسباب سياسية، إنما استقال لأسباب شخصية تتعلق بتطلعه الدائم إلى الزعامة السياسية التي يعتبر نفسه مؤهلا لها أكثر من غيره. وبهذا تكون الظروف قد فرضت على نتنياهو أن يخوض معركة مزدوجة، إقصاء لنداو من جهة، ومنافسة شارون من جهة أخرى.

ولكن من هو عوزي لنداو؟

ولد عوزي لنداو عام 1943 في مدينة حيفا، وتربى سياسيا داخل حزب حيروت اليمين (الذي أصبح فيما بعد حزب الليكود)، وأصبح عضوا في الكنيست عام 1984، وأصبح وزيرا مرتين في حكومات آرييل شارون، ملتزما بخط يميني متشدد، فكان معارضا للمفاوضات مع الفلسطينيين، ومعارضا لمؤتمر مدريد، ومعارضا لاتفاق اوسلو، وقاده هذا المنهج بشكل تلقائي لكي يكون معارضا لخطة الانسحاب من غزة. ولكن الفارق بينه وبين نتنياهو أنه فصل من الحكومة بسبب احتجاجه على هذه الخطة، بينما صوت نتنياهو معها. ونشط لنداو بعد فصله في أوساط التيار اليميني المتشدد داخل الليكود، وأصبح زعيما له، كما أصبح زعيما لنواب الليكود المعارضين داخل الكنيست (13 نائبا من أصل 40). وهو يسعى الآن إلى عقد اجتماع للجنة الحزب المركزية لاتخاذ قرار بإجراء انتخابات لرئاسة الحزب خلال ستين يوما، وفي ظنه أن المنافسة ستكون بينه وبين شارون، ولكن استقالة نتنياهو أدخلت عاملا جديدا إذ ستكون المنافسة الآن ثلاثية بين لنداو ونتنياهو من جهة وشارون من جهة أخرى.

ولكن ماذا عن آرييل شارون، الطرف الثالث في المعادلة؟

يواجه شارون ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يفوز ثانية في انتخابات الحزب، ويترأس قائمته في انتخابات الكنيست المقبلة.

الاحتمال الثاني: أن يخسر شارون انتخابات رئاسة الحزب، وأن يدفعه ذلك إلى تزعم انشقاق داخل حزب الليكود.

الاحتمال الثالث: أن يفوز شارون برئاسة الحزب، وأن يفوز لنداو أو نتنياهو بمنصب الرجل الثاني، ويكون على شارون أن يتعاون مع أحدهما، حيث سيكون شارون مضطرا في هذه الحالة إلى تقديم تنازلات سياسية لإرضاء الأطراف المتصارعة. وهو وضع لا يرتاح إليه شارون وقد يدفعه أيضا إلى التفكير بتزعم انشقاق داخل الحزب.

وأيا يكن الاحتمال الذي سيفرض نفسه، فإن حزب الليكود بدأ يفقد الكثير من متانة وحدته الداخلية، وبدأت علامات التشرذم تظهر واضحة عليه، وفي جذرها خلاف سياسي عميق يصعب جره نحو موقف وسط.

ويعيد هذا الوضع إلى الأذهان، التطورات التي طرأت على حزب العمل، وحولته من حزب حاكم مسيطر إلى حزب لا يتجاوز نوابه في البرلمان 19 نائبا من أصل 120. وكان تدهور حزب العمل قد بدأ بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ودفع ثمن خسائره فيها بخسارته لانتخابات 1977، والتي ربحها اليمين (الليكود) لأول مرة بزعامة مناحيم بيغن، ثم بدأت شعبيته تتهاوى بالتدريج، جنبا إلى جنب مع نمو التيارات اليمينية والتيارات الدينية ــ الأصولية. ثم دخلت الساحة عوامل جديدة تمثلت بأصوات المهاجرين الروس والتي انحازت بأغلبيتها نحو اليمين المتطرف، سواء بزعامة نتان شيرانسكي أو بزعامة أفيغيدور ليبرمان.

وبما أن حزبي العمل والليكود شكلا القطبين المركزيين في السياسة الإسرائيلية، فإن تفتتهما يقود إلى تغيرات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، فقد أدى تفتت حزب العمل اليساري إلى نمو وسيطرة حزب الليكود اليميني. وكذلك الآن، فإن تفتت حزب الليكود سيؤدي إلى نمو وسيطرة القوى اليمينية الأشد تطرفا، وإلى نمو وسيطرة التيارات الدينية الأصولية.

لقد سجل المراقبون السياسيون توجه المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين بدءا من سقوط حزب العمل في انتخابات 1977. وكان اليمين يسجل مزيدا من التقدم في كل دورة انتخابية تلت ذلك. وها نحن نشهد مرة ثانية اندفاعة اجتماعية جديدة نحو اليمين المتطرف، ونحو اليمين المتحالف مع الأصولية الدينية. ولا شك أن تحول المجتمع الإسرائيلي شيئا فشيئا نحو المزيد من المواقف اليمينية، سيؤثر على بنية دولة إسرائيل، كما سيؤثر على موقعها السياسي، وعلى علاقاتها مع دول العالم، وبخاصة دول العالم الحليفة لها، وفي المقدمة من ذلك الولايات المتحدة الأميركية.

لقد وقع بنيامين نتنياهو في شبكة المواقف المتناقضة، بين رؤيته الايديولوجية وبين الوقائع السياسية الدولية (المفاوضات مع منظمة التحرير)، واكتشف أنه لا يستطيع تخطي تلك الوقائع، وقاده ذلك إلى الخسارة السياسية. وها هو شارون يواجه المشكلة نفسها، فيتراجع عن قناعاته الايديولوجية لصالح الوقائع الدولية السياسية (إرضاء واشنطن)، ويدفع ثمن ذلك معارضة واسعة داخل حزبه.

ولكن المجتمع الإسرائيلي يبدو وكأنه ينتقم من نفسه، فأمام كل تجربة مماثلة، تندفع إلى الواجهة قوة يمينية جديدة أشد تطرفا.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)