أميركا الّتي استطاعت الهيمنة العسكريّة على الأرض والفضاء معاً... أميركا الّتي أسقطت منافسها الكبير في القرن العشرين، القطب السوفييتي، رغم إمكاناته الضخمة في كل المجالات... أميركا الّتي ورثت الإمبراطوريّات الأوروبيّة وجعلت من دولها نجوماً تسبح في الفلك الأميركي... أميركا الجبار الدّولي الأوحد تقف مرّة أخرى خلال سنوات قليلة من عمر القرن الحادي والعشرين بمظهر العاجز والضعيف كما لم تكن عليه من قبل!.

الصدمة الأولى الّتي أظهرت العجز الأميركي كانت العمليات الإرهابية الّتي حدثت في نيويورك وواشنطن وأودت بحياة آلاف من المدنيين الأبرياء الّذين سقطوا ليس فقط ضحيّة الإرهاب واستخدام الطائرات المدنيّة لضرب مؤسسات مدنيّة، بل أيضاً نتيجة التقصير السياسي والأمني الأميركي وعدم الاستعداد السليم لمثل هذه الأعمال رغم توقّع المخابرات المركزيّة الأميركية لإمكانية حدوثها.

الحدث الآخر المخزي الّذي تعيشه أميركا الآن هو نتائج الإعصار كاترينا حيث ظهرت أميركا كأي دولة من دول العالم الثالث المتخلّف، يعاني عشرات الألوف على أراضيها من الحصار والجوع والعطش والحاجة إلى الرّعاية الطبّية والمساعدة العاجلة.

أحداث سبتمبر 2001 كشفت العورات الأمنيّة والسياسية في أميركا، وإعصار كاترينا كشف العورات الاجتماعية والعنصريّة في الحياة الأميركية.

وكما أنَّ المشكلة لم تكن في القدرات الأمنيّة والتكنولوجية لأميركا في توقع أحداث سبتمبر 2001 والتحوّط لها، فإنَّ المشكلة لم تكن أيضاً في قدرات أميركا على التعامل مع نتائج الإعصار كاترينا، بل في غياب القرار السياسي وفي التقصير الإداري للجهاز الحكومي الفيدرالي. فهل يمكن تفسير الأمرين (سبتمبر 2001 وإعصار كاترينا) بأنَّهما حصيلة «غرور العظمة» الأميركية وتحوّل مكامن القوّة إلى عناصر ضعف ووهن لدى القطب العالمي الأوحد الآن؟!

اعتقد أنَّ هذا التفسير ربما ينطبق على المجتمع الأميركي لكنّه لا يصح في تفسير ما حدث. فتقرير وكالة المخابرات الأميركية للرئيس بوش في شهر أغسطس 2001 كان واضحاً في توقعاته بشأن إمكانيّة حدوث أعمال إرهابية في نيويورك وواشنطن وبأنَّ عناصر من «القاعدة» قد تستخدم طائرات مدنيّة في أعمالها،

وقد قرأ الرئيس الأميركي هذا التقرير في يوم 6/8/2001 خلال إجازته في تكساس ولم يقرّر هو أو إدارته أي إجراءات استثنائيّة لمنع حدوث ما كان في معلومات وتقديرات جهاز المخابرات المركزيّة. وهذا الأمر عرفه وسمعه وشاهده الأميركيون والعالم خلال جلسات لجان الاستماع في الكونغرس الأميركي الّتي سبقت إصدار التقرير الشهير عن أحداث سبتمبر 2001 .

فإدارة بوش قرّرت عدم الاستعداد لمواجهة احتمالات أعمال إرهابية في أميركا، لأنّها كانت تريد توظيف هذه الأحداث حين حصولها من أجل البدء في تنفيذ أجندتها الّتي أعطت الأولويّة للحرب على العراق منذ مجيئها للحكم في مطلع العام 2001، إضافة إلى توظيف ردة الفعل على الأعمال الإرهابية في أميركا لصالح رئيس جاء بقرار من المحكمة الدستوريّة العليا بعد أزمة دستوريّة لأسابيع طويلة وبعد أنْ فاز المرشّح الديمقراطي آل غور بغالبيّة أصوات المقترعين الأميركيين.

وحصلت إدارة بوش على ما أرادته عقب 11 سبتمبر 2001، وإنْ كانت طبعاً لم تتوقع أنْ تكون الخسائر البشريّة والمادّية بالحجم الكبير الّذي حصلت فيه، فربما كانت تقديراتها أنَّ الحد الأقصى قد يكون تحطم طائرات مدنيّة بمن فيها، مما يعطي الأعذار المحلّية والدولية لسياسة الحروب والانتشار العسكري الأميركي في العالم، ومما أيضاً يوجِد مظلّة سياسية وقانونية لإجراءات داخلية ولتعزيز شعبية الرئيس الأميركي الضعيف.

أمّا إعصار كاترينا، فكان متوقّعاً أنْ يخلّف الكثير من الخسائر قبل أيام من وصوله لشواطئ ولايات خليج المكسيك، لكن الإدارة الفيدرالية لم تقم بالاستعدادات الضروريّة لمثل هذه الحالات، واستمر الرئيس الأميركي في إجازته حتّى بعد يومين من نتائج الإعصار. ولم تتحرك الحكومة المركزيّة الأميركية وتنشط عملياً على الأرض الأميركية المنكوبة، إلا بعد مرور أيام على الإعصار المدمر.

لا شك هناك خسائر مادّية وبشرية كبيرة حصيلة الإعصار لكن الخسائر الأميركية ستشمل أيضاً الجانب الاجتماعي حيث برزت في المجتمع الأميركي مشاعر الغضب لدى الأميركيين الأفارقة (ذوي البشرة السوداء) واعتبار أن التقصير الرسمي حصل لأسباب عنصريّة ولم يكن مجرد إهمال إداري أو قصور في الإمكانيّات. هي خسارة كبرى لأميركا أنْ تتغذى فيها من جديد مشاعر التمييز العنصري والتفرقة على أساس اللّون بعدما تجاوزت أميركا هذه الحالة منذ معارك الحقوق المدنيّة في الستينات.

إنَّ القوة الحقيقية لأميركا هي في تعدّديتها وفي تكامل ولاياتها وفي نظامها الدستوري الّذي يساوي بين جميع المواطنين، وحينما تهتز عناصر القوّة هذه فإنَّ الضعف والوهن لا يكون حينذاك في القرار السياسي أو في الحكومة المركزيّة، بل في خلايا المجتمع الأميركي كله.إنَّ أميركا تعيش في السنوات الأولى من عمر القرن الحادي والعشرين حالات من التمييز الديني والثقافي بحق بعض العرب والمسلمين صنعتها أحداث سبتمبر 2001 ، وهي الآن ستعاني من مشاعر التمييز العنصري بعد إعصار كاترينا.

وهذه المشاعر بالتمييز على أساس لون أو عنصر أو عرق أو ثقافة هي الّتي تهدد وحدة أي مجتمع وتعطل أي ممارسة ديمقراطية سليمة.لكن إعصار كاترينا ليس بالضرورة أنْ يكون كل عصيره مرّاً. فما حدث يوم 28/8/2005 ربما سيأخذ الكثير مما أعطاه يوم 11/9/2001 للرئيس الأميركي بوش. لقد أعطت الأعمال الإرهابية في نيويورك وواشنطن الكثير من الإيجابيات لأجندة إدارة بوش في عهدها الأول، أعطته حريّة التصرف ونشر القوات العسكرية الأميركية في العالم،

فإذا بأعمال الطبيعة الغاضبة تأخذ من إدارة بوش هذه الأولويّة وتجعله بنظر الأميركيين مطالباّ بأنْ يحافظ على الجيش الأميركي وقوات الحرس الوطني في ولاياتها لتكون جاهزة لحالات الطوارئ الداخليّة... أحداث سبتمبر 2001 زادت من شعبيّة بوش لدى الأميركيين الّذين وقفوا صفّاً واحداً خلف قيادتهم للتعامل مع إرهاب الخارج على الأرض الأميركية، وكان ذلك في العام الأول من إدارة بوش الأولى، وها هو إعصار أغسطس 2005 يأخذ من شعبيّة إدارة بوش الثانية في عامها الأول أيضاً.

أحداث سبتمبر 2001 أوجدت إطمئناناً أميركياً لدور وإجراءات الحكومة المركزيّة، وإعصار أغسطس 2005 أثار مخاوف الأميركيين من قدرة حكومتهم المركزية على التعامل مع حالات الطوارئ والنكبات. أحداث سبتمبر 2001 أجازت لإدارة بوش استخدام مئات المليارات على حروب الخارج،

بينما نتائج الإعصار ستدفع الأميركيين إلى التساؤل عن أسباب عدم استخدام هذه الأموال في أوضاع الداخل الأميركي. الإدارة الأميركية لن تتراجع حتماً عن أجندتها وسياستها في شؤون الساحة الدولية، لكن حتماً سيراجع المجتمع الأميركي حساباته السياسية والانتخابية في أي معركة انتخابية أميركية قادمة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)