ليس هنالك من «يضيء» على دور فرنسا في الأزمة أو «المحنة» التي يمر بها لبنان. والسبب هو ان الرأي العام اللبناني (والعربي) الى جانب الطبقة السياسية اللبنانية قد ترسّخ في وعيها «استقلال» السياسة الفرنسية (والاوروبية) عن السياسة الاميركية وخاصة ان الاستقلالية في السياسة الفرنسية قد تجلت خلال الفترة التي سبقت الغزو الانغلو - اميركي للعراق،
دون ان يتوقف الرأي العام العربي كثيراً عند «انهيار» هذه الاستقلالية الفرنسية، بعد ان اصبح الاحتلال الاميركي للعراق امراً واقعاً، وبعد ان «انضمت» فرنسا الى الدول التي «سلّمت» في مجلس الامن، بعد الاحتلال، بالدور الاميركي في العراق.. انطلاقاً من «الواقعية البراغماتية للسياسات الغربية التي تحاول تطبيق نظرية «اذا لم يكن ما تريد.. فأرِدْ ما يكون»، وخاصة ان التركيز الاميركي على محاولة «احتواء» الممانعة الفرنسية في وجه «المشروع الاميركي في العراق» بدءاً من محاولات كولين باول عندما كان وزيراً للخارجية في ايجاد قواسم مشتركة اميركية - فرنسية، واميركية - اوروبية، كانت قد اثمرت على هذا الصعيد، بحيث وجدت كونداليزا رايس الطريق ممهدة لترسيخ قيام نوع من شراكة الرؤية بين واشنطن وباريس للاوضاع السائدة في مجمل الشرق الأوسط وليس تجاه «الدور الاميركي» في العراق فقط، انطلاقاً من امكانية «منح» باريس دوراً مفصلياً في سوريا ولبنان بالذات، وذلك اخذاً بعين الاعتبار «لحنين» باريس الى دورها السابق المفقود في سوريا ولبنان واملاً «بتوظيف» خبرة فرنسا السابقة في لبنان وسوريا ايام الانتداب الفرنسي عليهما على ان يكون «الثمن» الذي تقدمه فرنسا «لاستعادة» هذا الدور المستوحى من «ارشيف» انتدابها السابق على لبنان وسوريا، هو تبني الرؤية الصهيو-اميركية للنزاع العربي - الاسرائيلي، والحلول المطروحة لإنهاء هذا النزاع على ضوء الرؤية الاسرائيلية المتبناة تبنياً كاملاً من الجانب الاميركي. ولما كان هنالك نوع من «المهر» الذي يُدفع مُقدّماً، وخاصة ان «الزواج» الفرنكو-اميركي الجديد يُراد له ان يكون «زواجاً كاثوليكياً» فقد كان على باريس ان «تدفع المقدم من الصَدَاق» (الصداق هو المهر) مواقف متصهينة إلى أبعد الحدود، فإذا بباريس شيراك الذي سبق له ان تمتع بالشجاعة الأدبية في تمييز الموقف الفرنسي عن الموقف الانغلو-اميركي في مجمل قضايا الشرق الاوسط والعالم، يتحول «بقدرة قادر» الى «رأس حربة» و«طليعة صِدام» للمنافحة عن وجهة النظر الاسرائيلية في اعتبار المقاومة الفلسطينية ارهاباً، وفي الاستنامة لقوى الضغط الصهيونية الفرنسية والفرنسية المتصهينة، حتى في منع مرور «ما يخدش شعور» اسرائيل ولو عبر اثير «المنار» بل حتى لو كان ما يمر عبر هذا الاثير هو «الحد الادنى» و«اضعف الايمان» من التنديد بالسياسات والطروحات الاسرائيلية، او فضح الايديولوجية الصهيونية العنصرية الى ان «تجلّى» التبني الفرنسي الاكثر تطرفاً من التبني الاميركي للرؤية الصهيونية لما يجب ان تكون عليه السياسات اللبنانية - السورية تجاه الحلول المطروحة للقضية الفلسطينية ولدرجة مماشاة فرنسا الكاملة للطرح الاسرائيلي، وتسويقه اوروبياً، وهو الطرح القائل بتجاوز «حق العودة» للفلسطينيين، بل «توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأرض التي يتواجدون عليها»، (وهو ان يطال لبنان وسوريا اكثر من غيرهما).
ثم جاءت ثالثة الاتافي عبر القرار 1559 الذي تجاوز حتى الطرح الاميركي - الاسرائيلي نفسه.. في تبني كل ما تريده اسرائيل من سوريا ولبنان وإدراجه في مشروع القرار، الذي «اذهل» الاميركيين انفسهم، ولدرجة انه كان بالنسبة للاسرائيليين والاميركيين على السواء، وكأنه «نبأ أجمل من أن يُصدَّق»، ولدرجة تريُّث واشنطن للوهلة الأولى في تصديق ما قرأته من نصوص هذا المشروع.. وكأنه «مائدة السماء» الجديدة التي هبطت على الاسرائيليين، ولكنها هذه المرة مائدة فرنسية، وليست كتلك التي تمنّى بنو اسرائيل ان يرسلها الله اليهم «كشرط من شروط ايمانهم به!
ولقد تحوّلت باريس مؤخراً الى «مباءة» يتجمع فيها كل الذين آلوا على انفسهم في لبنان تحقيق «ثأر سياسي مزدوج» قرّروه مسبقاً، وقبل كارثة اغتيال الرئيس الحريري من رئيس الجمهورية الحالي، قبل ان يتم «التمديد القيصري» لولايته، وضد الحكم القائم في سوريا، لأن ما يصحّ تسميته «بتجمع باريس» من المعارضين اللبنانيين لبقاء لحود في منصبه قبل التمديد وبعده... كان «رأس الحربة» الخارجي في مساندته ورعاية لهذا التجمّع، هو الرئيس شيراك الصديق الشخصي للرئيس الحريري، الذي بدا اداؤه منذ بداية التناقض بين الرئيسين لحود والحريري، وكأنه جزء لا يتجزأ من المعارضة اللبنانية الداخلية والخارجية، دون ان ينكر احد حتى من «حواريي» كل من شيراك والحريري، بأن الرئيس الحريري قد وصل في عمق ومتانة العلاقة مع الرئيس الفرنسي درجة عدم الإنكار بأنه كان يدعم الرئيس شيراك بما يتيسر من امكانات الدعم التي يستطيعها، ليس فقط خلال معارك شيراك الانتخابية التي اوصلته الى رئاسة الحكومة ثم الى رئاسة الجمهورية الفرنسية، بل منذ معاركه الانتخابية التي اوصلته لتولي منصب «عمدة مدينة باريس» وهو امر لم تركّز عليه «الميديا» الفرنسية او اللبنانية، لان مجرد اثارته اعلامياً يمكن ان يتم استغلاله من جانب منافسي او خصوم الرئيس شيراك الداخليين. لأن هؤلاء المنافسين والخصوم قد يستخدمون الحديث عن اي «دعم ولو مشروع» من جانب الرئيس الحريري للرئيس الفرنسي في معاركه الانتخابية، وخاصة في الفترة التي لم يكن فيها شيراك على انسجام ووئام تامين مع قوى الضغط الصهيوني في فرنسا (واميركا) للتشهير ضد الرئيس شيراك وتصوير الامر وكأن رئيس فرنسا له «مصلحة شخصية» مع سياسي موسر من بلد صغير كلبنان، مما يلحق بالرئيس الفرنسي افدح الضرر المعنوي، لأن طرح الأمر على هذه الصورة كان من شأنه ان يثير في وجهه العواصف حتى ولو كانت عواصف ظالمة.. اما «صاحب العهد» في لبنان الرئيس اميل لحود، فلم يكن على الأرجح، يسمح لنفسه ان يركّز على هذا الامر او يستغله ربما تورعاً عن «نشر غسيل التناقضات» بينه وبين الرئيس الحريري على «السطوح الفرنسية»! او انه كان من «اليتم الاعلامي» الداخلي والخارجي، الى الدرجة التي لا يجد له من يساعده على «توظيف» هذه الطروحات الاعلامية التي كان يمكن نقلها الى الداخل الفرنسي، ولكن كان من «حسن حظ» العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية الا يصل الامر الى هذا المستوى من تصدير الصراع الداخلي اللبناني الى الاعلام الفرنسي على نطاق واسع بحيث يتحول الى «صراع داخلي فرنسي»..
هنا لا بُد من سؤال يطرح نفسه: ما سرّ وضع المتضررين ـ من القرار 1559 الذي لا تنكر باريس ـ بل تعتز ـ بأنه من «كلمات وتلحين» الرئيس الفرنسي ـ رؤوسهم في الرمال، وعدم تركيزهم على الدور الفرنسي في «انتاج» هذا القرار الذي جرّ التوتر الى الساحة الداخلية والذي «وفر» المناخ الملائم للقتلة والمتآمرين، لأن يَنْفذوا من خلاله الى ارتكاب «جريمة العصر» في لبنان، المتمثلة باغتيال الرئيس الحريري على النحو الفظيع والمروّع الذي تم به، والذي اعطى الانطباع للوهلة الأولى بأنه يحمل طابع المجازر التي تتم على طراز المجازر الاسرائيلية التي انتقلت «عدواها» من الأرض المحتلة في فلسطين الى الأرض المحتلة في العراق مع فارق بأن الضحية الرئيسية في مجزرة «السان جورج» في بيروت كانت على مستوى غير عادي وتفوق في تداعياتها تداعيات اية مجزرة اخرى؟!
الجواب المنطقي على هذا التساؤل، هو ان عدم التركيز على الدور الفرنسي وعلى وجه التحديد دور مشروع القرار 1559 الفرنسي، في ايصال الأمور الى ما وصلت اليه الآن في لبنان من جانب الجهات المعارضة لهذا القرار وخاصة ما يتضمنه بالنسبة للمقاومة وسلاحها، وعلى رأس هؤلاء المعارضين تحديداً: حزب الله و«امل» و«القومي» (والشيوعي جزئياً) والتقدمي الاشتراكي (اعلامياً وتصريحاتياً) هو أن هؤلاء المعارضين للقرار 1559، في عدم تركيزهم على المسؤولية الفرنسية في «صنع» القرار 1559، والاكتفاء بالتنديد بالدور الاميركي المصرّ مع الفرنسيين والاوروبيين على تنفيذ ما يتضمنه القرار بالنسبة للمقاومة وسلاح المقاومة، ان هؤلاء المعارضين متأثرون بما يصح تسميته «بنصائح ملغومة» تقول بعدم «نفض اليد» من استعادة استقلالية الموقف الفرنسي والاوروبي عن الموقف الاميركي والبريطاني، في حين نرى ان هذا الموقف الفرنسي يزداد تشدداً في المطالبة والاصرار على تنفيذ القرار 1559 ضد المقاومة وسلاحها.. بحيث تحول السكوت على الموقف الفرنسي الذي تتعدى أضراره حتى الموقف الاميركي نفسه بل تتجاوز اضراره ما تضمنه القرار 1559 بالذات، لأن باريس تحولت الى منطلق لشن الحملات الشرسة على سوريا من جهة والى تصعيد التوتر الداخلي في لبنان، الى درجة تجاوز «تجمع باربس» في عدائيته و«هجمته» على سوريا وعلى الرئيس اللبناني (وهما الجهتان اللتان لم يتهمهما ميليس في «تحقيقاته») عدائية اسرائيل نفسها لهما، فضلاً عن عدائية اميركا. واذا كانت الجهات المعادية للقرار 1559 في لبنان وخاصة تلك التي لا تزال تعلن تضامنها مع سوريا، رغم كل التطورات التي ادت للانسحاب السوري ووصول الوضع في لبنان الى ما وصل اليه، تتجنب التركيز على الدور الفرنسي في رعاية «تجمع باريس» من السياسيين اللبنانيين المناوئين لسوريا وللعهد في لبنان، والذين يصل بهم الامر درجة عقد اجتماعات مشتركة سرية وعلنية مع المسؤولين الفرنسيين من «القمة الشيراكية» الى «القواعد الامنية الفرنسية» وبحث افضل السبل «للانتقام» من سوريا ومن الرئيس لحود، بسبب جريمة لم يثبت ضلوعهما فيها او موافقتهما عليها او تواطؤهما فيها، او حتى علمهما المسبق بها، فان السكوت على «الدور الفرنسي» الذي تجاوز في سلبيته التي تسهم في زعزعة الاستقرار في لبنان حتى شراسة وعداء الموقف الاميركي بل الموقف الاسرائيلي، قد تحول هذا السكوت على الدور الفرنسي الى «غطاء» ساتر لما يدبّر ليس ضد «صاحب العهد» في لبنان وضد النظام القائم في سوريا فقط، بل ضد المعارضين للقرار 1559 من احزاب لبنانية وفي طليعتها الأحزاب او الجهات الشعبية المؤيدة للمقاومة والمنادية بضرورة بقاء المقاومة وسلاحها ذخراً ومصدر قوة ولو معنوية للدولة اللبنانية، حتى في طروحاتها السلمية والمنفتحة على «الحلول التفاوضية» التي يعدون و«يتوعدون» بها الممانعين اللبنانيين والعرب، بحيث يمكن القول بأن عدم «الاضاءة» بناء لنصائح الناصحين» على الدور الفرنسي فيما وصلت اليه الأوضاع في لبنان، هو عملياً بالنسبة لمعارضي القرار 1559 نوع من التآمر على الذات..
واذا كان معارضو القرار 1559 يقصُرون تنديدهم بالقرار 1559 على الجانب الاميركي وحده.... بحيث تتسلح به الدولة اللبنانية لحمل الجانب الفرنسي والأوروبي على اعادة النظر في موقفه واتخاذ موقف «مستقل» عن الموقف الصهيو ـ اميركي، فان النتائج كما نراها على الارض، هي نتائج عكسية: بدليل انه عندما استنجد الرئيس السنيورة بالخبرات الامنية الفرنسية والاميركية، فلقد رأينا الجانب الاميركي اسبق من الجانب الفرنسي للحضور.. وبدأ الحديث عن امكانية ابقاء هذه الخبرات الاميركية في لبنان، حتى بعد الانتهاء من التحقيق في محاولة اغتيال الاعلامية المغدورة مي شدياق، بل لقد بدأت «التسريبات» حول امكانية زيادة عدد هؤلاء الخبراء الامنيين في المستقبل، بحيث يكونون نواة لقوات امنية دولية «تستقر» في لبنان. ولا يخفى على أحد ولا ينكر حتى مرسلو هذه الخبرات الينا، بأن طابع هؤلاء الخبراء الامنيين هو طابع استخباراتي بالدرجة الاولى.. ولو اردنا ان نسيء الظن ـ لا سمح الله ـ بأصل هذا الطلب الذي تقدم به الرئيس السنيورية الى دولتي القرار 1559» فرنسا واميركا، بارسال خبراتهما الأمنية الى لبنان، لكان بالامكان ابداء الهواجس من أن يكون الامر بداية التدخل الدولي المباشر لفرض «حلول مستقبلية» على لبنان على ضوء الحلول المطروحة للمنطقة... وان هؤلاء الخبراء هم طلائع تنفيذ «الحلم الصهيو - اميركي» القائل بفرض تنفيذ ما تضمنه القرار 1559 حول المقاومة وسلاحها ولو عبر «تدخل دولي» امني مباشر! بحيث كان الحادث الاخير فرصة لاستغلاله على ايدي اصحاب «لعبة الامم»!
فإلى الذين يديرون آذانهم «للنصائح الغبية او السيئة النية، حول وجوب عدم تسليط الأضواء على الدور الفرنسي الذي حوّل باريس الى مقر وقاعدة ضد معارضي القرار 1559 في لبنان، وبرعاية ومساعدة فرنسية مباشرة، انكم باعتقادكم الخاطئ بأنكم تستميلون الفرنسيين باقتصار تنديدكم على الاميركيين وحدهم، انما تخدمون الاميركيين الذين يتخذون من سكوتكم وتستركم على الدور الفرنسي «غطاء» مطلوباً اميركياً. للتستر على ما يجري ويدبّر في باريس، لأن ما يدّبر فيها هو بالضبط ما تريده اميركا وهي مستعدة لتحمّل الهجوم عليها ما دام الموقف الفرنسي يحقق ما تدعو هي اليه!