عام 2002 وبعد سنتين من توليه رئاسة الجمهورية العربية السورية قرر الرئيس الدكتور بشار الاسد اعفاء رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان اللواء غازي كنعان من مهماته اللبنانية واستعادته الى سوريا حيث الحاجة اليه اكثر نظراً الى خبرته الواسعة وتاريخه الحافل سواء في عملية "اصلاح" الداخل او في عملية تنقية العلاقات مع عدد من دول المحيط في مقدمها تركيا. وقرر في الوقت نفسه تعيين نائب كنعان او مساعده على مدى سنوات طويلة في لبنان العميد رستم غزالي في موقعه اللبناني. وقال العارفون انذاك والقريبون من دمشق ان تزكية رئيسه السابق له لعبت دوراً مهماً في هذا التعيين. ولم تكد تمضي فترة قصيرة على التغيير المشار اليه حتى ساءت العلاقة بين الرجلين، ولم يبق ذلك سراً اذ لا وجود لاسرار في لبنان. فاصدقاء كنعان من اللبنانيين فقدوا الحظوة عند غزالي، و"أخصامه" اذا جاز التعبير وهم للمناسبة في "الخط" نفسه قومياً ووطنياً لقوا الترحيب عند الاخير. وفي مرحلة لاحقة استرد الاصدقاء المذكورون الحظوة في عنجر وساعدهم في ذلك طلب كنعان منهم مباشرة الامتناع عن الاتصال به والتعامل مع الوضع الجديد "المستمر" نظراً الى استمرار السياسة والاستراتيجيا السوريتين. ولاحظ اللبنانيون في ذلك الحين وخصوصاً منهم الذين يتابعون العلاقة اللبنانية – السورية عن قرب ان اصحاب الحظوة الجدد والقدامى تخلوا عن صداقتهم القديمة وراحوا يطعنون في صديقهم السابق او ربما ولي نعمتهم اعتقاداً منهم ان ذلك يرضي من خلفه وربما كان اعتقادهم في محله. طبعاً حاول اصدقاء مشتركون اصلاح ذات البين بين المسؤولين السوريين عن لبنان السابق واللاحق. ونجحوا لكن نجاحهم لم يدم طويلاً لأن العميد غزالي اعتبر في حينه انه لن يكون في حاجة الى مساعدة أحد أو الى الافادة من خبرة أحد بعدما صارت علاقته مباشرة بالقيادة السياسية السورية العليا.

لماذا الكلام على هذا الموضوع بعدما صار اللواء كنعان في "دنيا الحق" كما يقال وبعدما غادر خلفه غزالي لبنان مع القوات السورية في 26 نيسان الماضي الى موقع أمني آخر داخل سوريا؟

بداية، لا بد من الاشارة الى ان هذا الكلام لا يرمي من قريب أو بعيد الى نفي مسؤولية كنعان عن الذي حصل في لبنان منذ عودته الى بلاده قبل أكثر من ثلاث سنوات، أو الى تأكيد مسؤولية خلفه عنه على جسامة ما حصل وانعكاساته البالغة السلبية على لبنان وسوريا. فنحن لا نملك المعلومات الكافية عن ذلك او بالأحرى أي معلومات وخصوصاً عن الحوادث الجسيمة التي زلزلت لبنان وتكاد ان تزلزل سوريا. ونحن كما كل اللبنانيين ننتظر تقرير لجنة التحقيق الدولية لمعرفة من ارتكب أخطر هذه الحوادث وهو اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهو قد يكون فارغاًُ كما تقول سوريا وبعض حلفائها في لبنان. وقد يكون مليئاً كما يقول بعض اخصامها الذين كانوا حلفاء وخصوصاً الذين اصيبوا مباشرة بذلك الحدث الرهيب. وقد يكون بين بين (اي رماديا) كما يقول بعض ثالث لم يعد يعرف لبنانيون كثر كيف يصنفونه. اما ما يرمي الكلام المذكور الى القاء الضوء عليه فهو في الواقع امران. الأول، ان اللواء (الراحل) غازي كنعان ثم العميد غزالي لم يكونا فاتحين على حسابهما في لبنان. بل كانا ينفذان سياسة عامة للبنان وضعتها سوريا وعمل ممثلاها المتعاقبان على تنفيذها. ولا ينفي ذلك حقيقة ان الاثنين طبعا كل باسلوبه وشخصيته التنفيذ العملي لتلك السياسة. ولا ينفي ايضاً حقيقة انهما ساهما في شكل او في آخر في اهتراء البلاد الأمر الذي اوصلها الى الحال التعسة الراهنة. ولم تحاسبهما القيادة على ذلك لأنهما لم يخطئا في السياسة العامة. والأمر الثاني، هو ان اللبنانيين وخصوصاً حلفاء سوريا وتحديداً الذين كانوا ممسكين بالمواقع السياسية في السلطة من مدنية وغير مدنية بتأييد ودعم كبيرين كان لهما دور مهم واساسي في الاهتراء المذكور من طريق علاقتهم القوية بالقياديين السوريين المذكورين اعلاه، ومن طريق ثقة سوريا بهم. فهؤلاء ادخلوا سوريا في مصالحهم وحساباتهم وطموحاتهم وسياساتهم التي لم تكن لها أي علاقة بمصالح لبنان او بمصالح سوريا وخصوصاً في السنوات القلية الماضية. اذ استعملوا "ذكاءهم" البالغ لتصوير انفسهم حريصين على سوريا عند قيادتها السياسة العليا ولتصوير منافسيهم واخصامهم وان من "الخط" نفسه حتى لا نتكلم عن اعداء هذا الخط على انهم اعداء خطرون لهم، وانهم حماتها وحماة وحدة المسار والمصير بين البلدين الشقيقين. طبعاً لا يعفي ذلك هذه القيادة من المسؤولية. اذ كان يفترض فيها ان تسأل وتحاسب. لكنها لم تفعل ربما لأن مشكلاتها كانت كبيرة وربما لأنها اعتقدت ان ما كتب في لبنان قد كتب وان لا قدرة للبنانيين على التغيير ولا رغبة لدى الخارج في مساعدتهم للتغيير وان التفاهمات السورية – الدولية التي تمت بين 1976 و2000 صارت ابدية رغم اهمال "صيانتها" سورياً اذا جاز التعبير.

الى أين من هنا؟

الى تأكيد حقيقتين. الاولى، ان انقاذ لبنان من الذي كان فيه ومن الذي هو فيه وتجنيبه ما قد يقع فيه نتيجة زلزال الاغتيالات التي بدأ قبل نيف وسنة وزلزال تقرير لجنة التحقيق الدولية المرتقب خلال فترة قصيرة جداً لن يكون ممكناً أو بالأحرى ثابتاً ودائما اذا لم يحمه اللبنانيون، وهذا يعني ان عليهم ان لا يكرروا مع "رعاة" لبنان الجدد أو "الاوصياء" كما يحلو للبعض ان يصفهم ما "ارتكبوه" في حق بلادهم وسوريا مع الراعي السوري او الوصي على مدى ثلاثة عقود تقريباً. اما الحقيقة الثانية فهي ان اللبنانيين في صورة عامة لا يستهدفون سوريا الشعب الشقيق بل التوأم للشعب اللبناني ولا سوريا النظام على تعلقهم بالديموقراطية وليسوا مسرورين لما يتعرضان له من ضغوط رغم اصرارهم على استعادة بلادهم منهما وعلى عدم وقوعها في ايدي جهات دولية اخرى. وانطلاقًا من ذلك فانهم يرحبون أو بالأحرى لا يمانعون في تسوية ما بين هاتين "السوريتين" والمجتمع الدولي رغم ان التسويات السابقة بينهما كانت على حسابهم وحساب وطنهم. أولاً لأنهم صاروا متأكدين ان المجتمع الدولي الذي اهتم بهم وببلادهم "بالصدفة" كما يقال لن يتخلى عنهم وان لاسباب ليست لبنانية في معظمها. وثانياً لأنهم يعرفون ان غياب التسوية يعني المواجهة الشاملة وان آثار المواجهة الشاملة لن توفرهم ولا سيما في ظل عدم نجاحهم حتى الآن في استعادة مناعتهم الوطنية أو بالأحرى في تكوينها باعتبار انها لم تكن موجودة سابقاً. والتسوية المطلوبة تقتضي تعاوناً سوريا جديدا وجديا مع العالم وتقتضي في الوقت نفسه سياسة جديدة تجاه لبنان غير التي نفذت على مدى ثلاثة عقود سواء كانت خاطئة أو صالحة وسواء كانت التطورات السلبية التي شهدها لبنان نتيجة لهذه السياسة او لاخطاء منفذيها.

مصادر
النهار (لبنان)