في دمشق كانا عصفورين في قفص وأثناء العودة إلى الأردن مات أحدهما وبقي الآخر، كانت طفلتي الصغرى تخشى أن يموت الآخر وهي التي أصّرت أن تقتني عصفوراً دمشقياً، لكنه نجا بحمدالله، ولأنها أرادت له رفيقاً فقد اشتريت لها آخر يشبهه واعتقلناه معه في القفص ذاته، وبدأنا نترقب ردود أفعال القادم من سوريا تجاه هذا الغريب الذي بدأ يقاسمه الغذاء والماء، وكانت ردة فعله بعكس ما توقعنا فهو لم يكترث أو لم يفرح بقدوم شريك له،وقيل بذلك الكثير، فقد يكون انطوائياً بطبعه، وقد يكون مكتئباً لسبب نجهله، وقد وقد،،،

غير أن تزامن الحدث داخل القفص مع صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية الذي تم شخصنته ليصبح تقرير "ميليس" قد رجّح فرضية أن يكون لدى هذا الكائن مخاوفه وهواجسه السياسية تجاه البلد التي هجَرَها قسراً، هذه الكائنات اختبرت الاعتقال والتهجير القسري بفارق القوة الجسدية بينها وبين الآدميين الذين يقتنونها لتزيين بيوتهم أو لتلبية رغبات أطفالهم ولذا هي تستشعر مصادر التهديد، ماريّا "مُعتَقِلة" العصفور الحقيقية بدأت بتوجيه تهمها الخاصة حول العصفور وبالتحديد حينما برع في منع الآخر من مشاركته حبيبات طعامه، وبدأت تتعاطف مع الآخر أو المقتنى الأحدث.

أكاد أجزم على الرغم من أن هذا قد لا يستوي مع المنطق بأن العصفور الدمشقي كان يستشعر التهديد الذي حل ببلده، ولا أجد أنني أخالف الصواب حينما أفسر سلوكه تجاه الآخر وإصراره على حماية الحبوب والماء بملازمته مكانهما إلى جانب القفص بناء على تلك المخاوف، فغريزة الاجتناب هي حالة دفاعية ولا شعورية تشمل جميع الكائنات، تلك الغريزة إن صحت التسمية هي التي تدفع الكائن للتصدي والمقاومة وتولد لديه الدافعية لحماية ذاته وحقوقه وممتلكاته، لكن الفارق بيننا نحن بني البشر الذين تم تصنيعهم وتصنيع اتجاهاتهم وردود أفعالهم وبين الكائنات الأخرى هو أنها تتفوق علينا بحاسة استشعار التهديد وبآليات المقاومة، فهي حتى اللحظة لم تخضع لعمليات تزييف الوعي ولا لعمليات إبادة المشاعر والأحاسيس.

صدقاً يحزنني هذا العصفور الذي يخشى ميليس ويتصدى له بتوهم عدو بديل يسقط عليه سخطه لكن عزائي في اعتقاله هو أن البعض نصحني بإبقائه في القفص كونه لا يعيش في البر، وعزائي في مخاوفه وتوتره وسلوكياته التي تبدو عدوانية هو أنه من الكائنات التي لم تزل على قيد الوعي …

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)