صاحب "الرسالة" طوى رسالته كفنا على جسده ومضى. الرجل الذي افنى عمره في خدمة الحوار الحضاري بين الامم انهى عمره صراع الجهالات، وكأن المجرمين يريدون تثبيت صحة مقولته: التطرف هو عين الجهل. جسر بين الشرق والغرب هوى. جسر كان بحجم قامته يوم لم يكن الغرب غربا والشرق شرقا. جسر كان يعبِّد الطريق للقادم من تصادم، يوم كان "العدو" لا يحمل قسمات المنطقة ويوم كانت قسمات المنطقة مع العم سام ضد >يوري<. حمل سيناريو >الرسالة< في حقيبته عشر سنوات، يطوف حول وزارات الاعلام العربية علها توافق على عرض ظهور الاسلام في فيلم عالمي يخاطب الغرب في عقر داره بلغة التسامح والانفتاح والتوحيد. عشر سنوات وهو يقف امام باب هذا المسؤول العظيم وذاك الوسيط، يحاور بالكلام والمال والجهد وتعب الاعصاب كي يسمحوا بفيلم خال من >المحاذير< و>الممنوعات<، ثم تلا فعل التنازل تلو التنازل الى ان استقر الامر على سيناريو حذفت منه غالبية افكاره وتصوراته، التي رأى انها مفيدة لخلق صدمة حضارية لدى الآخرين. على النص المراقب والمحذوف، حقق >الرسالة< رسالته، اقبل عليه الغربيون وهم مندهشون كيف لخص النجاشي الفارق بين الاسلام والمسيحية بالخط الوهمي الفاصل بين وقفته ووقفة المبعوثين المسلمين اليه. وأتبع رسالته الدينية الحضارية برسالة سياسية عروبية قومية حضارية ايضا عن قدر الدفاع ضد المستعمر ولو بأصعب الظروف واضعف الامكانات... عمر المختار نموذجا. عربي، سوري، اميركي، فنان، مبدع، مخرج، منتج، سبق جميع اقرانه في اختراق المزاج الغربي بلغته ومفاتيحه واساليبه وطرقه. ابدع عن الغرب من الشرق وابدع عن الشرق من الغرب، توسعت مساحات حضوره في امكنة صعبة الاختراق على من يحمل سحنته، وفرض هويته فرضا في افكار لم تكن تعترف بها. يوم هاجم قراصنة الجو البرجين في 11 سبتمبر، تأكد العقاد ان الضربة طالت ايضا >رسالته< و>رسائل< امثاله، ويوم دخل العالم كله صراع الجهالات باسم صراع الحضارات تساءل ان كانت سينما الخيال تستطيع ان تغير صورة ساعات البث الحية على امتداد اللحظة... فالجميع في الغرب والشرق صاروا كتابا ومنتجين ومخرجين لآلة الموت والدمار بين الشعوب والحضارات، في افلام واقعية، الابطال فيها ابناء الحضارات وكذلك... المتفرجون والضحايا. وقبل ان يعرف الجواب عن تساؤلاته كان مشهد العالم يزداد بشاعة وبؤسا، فادرك ان الافلاس لم يقتصر فقط على السينمائيين. >سيرى العالم على اختلاف اجناسه واديانه صورة جديدة جديرة ان تضيء النفوس في كل عصر<... هكذا كتب في نهاية فيلم >الرسالة< قبل عشرين عاما. وبعد تسمره القسري مع الملايين امام الفيلم الواقعي >الحرب على الارهاب< قال: >التطرف هو عين الجهل<. وقبل يومين في عمان حصد الجهل عينه ورأسه وجسده كما اودى بابنته وعشرات الابرياء، في تفجيرات ممهورة بختم معروف. سقط مصطفى العقاد باوراق رسالته، كفنوه بها. لم يكتب بحبر قلمه نهاية فيلمه... كتبها بالدم.

مصادر
الرأي العام (الكويت)