الملاحظة الابرز على الدورة الاولى من الانتخابات النيابية المصرية هو الضعف الاستثنائي للمشاركة: أقل من ربع الناخبين المسجلين. حصل ذلك علما ان التوقعات كانت تشير الى احتدام المنافسة قياسا بمرات سابقة.

يخالف ضعف الاقبال التقديرات التبسيطية التي تقول ان <<الشعب>> توّاق الى ممارسة حقه بالاقتراع، ويكفي ان تتاح له الفرصة ليبرهن ذلك. يتضح مما جرى ان المواطن المصري مشغول بقضايا يعتبرها اكثر إلحاحا، وانه اعتاد على انعدام الثقة بهذه العملية الشكلية، وانه حاسم في نتيجتها النهائية. ان عقودا من إبعاد الناس عن الشأن العام تفعل فعلها. والحق في الاقتراع، كجزء من عملية ديموقراطية، هو حق يكتسب تدريجا، ويتم تعلمه بالممارسة. ان الديموقراطية تستولد الديموقراطية.

درجت العادة ان ينسب كل طرف الى نفسه النطق باسم الممتنعين. ولكن، في هذه الحالة، يمكن القول ان نسبة الانكفاء العالية هي مسؤولية النظام (اكثر مما هي مسؤولية احزاب عجزت عن التعبئة) الذي عوّد شعبه انه ينوب عنه، واكتفى، من المشاركة في الشأن العام، بالانصراف العام الى الامور الخاصة.

يستحسن ألا يهتم الحزب الوطني الحاكم بتعداد نوابه. لن يعفيه هذا من الاعتراف بأنه تلقى انذاراً وان كل مراقب للانتخابات يدرك ان ادعاءات هذا الحزب عن حجم تمثيله لا علاقة لها بالواقع. و<<الحيلة>> القائمة على استعادة النواب الناجحين الذين تمردوا وترشحوا كمستقلين ضد مرشحي الحزب، ان هذه <<الحيلة>> لا تشرف القائمين بها، حزبا ونوابا، وهي تزوير لاحق اسوأ مما لاحظته لجان الرقابة، كما انها خيانة ترتكب في حق الناخبين وتكرر ما شهدنا نماذج عنه سابقا وصولا الى دعوة احد مرشحي الرئاسة، قبل اسابيع، الى اختيار... غيره!

لقد كان الحزب، بقدر ما هو موجود بصفته حزبا يستحق الاسم، في ازمة. لم تفعل الانتخابات سوى الكشف عنها. وأزمته انعكاس لأزمة سلطة لم تعد تستطيع الاستمرار كما كانت، ولا تعرف كيف تتجدد. ان العكس كان ليكون غريبا. فعندما يكون جوهر البرنامج الاقتصادي مستقى من اسطر قليلة يوزعها صندوق النقد الدولي وصفةً للدول كلها، وعندما تكون السياسة الخارجية شديدة الانضباط تحت السقف الذي تحدده واشنطن، وعندما يثبت العجز عن بث الروح في مجتمع يبحث عن معنى، عندما تلتقي هذه العوامل وغيرها يصبح واضحا ان مصر الحالية لا تملك مشروعا واضحا لنفسها ولا، طبعا، لمنطقتها.
لم تكد النتائج تعلن حتى حصل توافق على التأكيد بأن <<الاخوان المسلمين>> أحدثوا مفاجأة. ربما كانت المفاجأة هي في <<السماح>> لهم بتحقيق هذه النتيجة لأن الدعم المنسوب الى <<الاخوان>> تأكد في انتخابات نيابية ونقابية سابقة، وهو دعم يتناسب مع ان التنظيم المحجوب عن الشرعية كان، ضمن صفوف المعارضة، الاكثر تقديما للتضحيات والاقدر على عقد تسويات. ولقد بات محسوما الآن ان <<الاخوان>> يحسنون الاستفادة من ثغرات السلطة، ومن الأسلمة المتمادية للمجتمع، ومن تشرذم قوى المعارضة الاخرى.

لقد انتهت المباراة ضمن المباراة (اي ضمن المعارضة) لصالح <<الاخوان>>. ولقد بدا انه يمكن لهم، بسهولة، إحداث ثقب في الانتفاخ <<الليبرالي>> الذي اوهم صاحبه، ايمن نور، في غمرة معركة الرئاسة، انه مشروع بديل. لقد تكفل نور، قبل اسابيع، بإلحاق الاذى بحزب <<الوفد>>، الا ان الاذى تأكد هذه المرة بشكل يفرض على الليبراليين، وأدعياء الليبرالية، الاقدام على مراجعة قاسية لأطروحاتهم.

ويصح ما تقدم، بالقدر نفسه، على القوميين واليساريين. ان السؤال المطروح على هؤلاء هو كيفية اعادة انتاج وعي وبرنامج في شروط مختلفة جذريا عن تلك التي شهدت نهوض حركة التحرر والتحول <<الاشتراكي>>.

لا مجازفة في الزعم ان لا بديل ليبراليا للنظام الحالي في المدى
المنظور. فهذا النظام يمارس الانفتاح الاقتصادي بوتيرة متسارعة، والسياسي بوتيرة اقل. انه، بمعنى ما، نظام ليبرالي من دون ليبراليين ولذلك يصعب جدا نهوض قوى تنافسه على هذه الارضية. من المنطقي، والحالة هذه، ترجيح قدرة <<الاخوان>> على فرض الثنائية (بصفتها شرطا للتعددية). ان تراجع التمايزات البرنامجية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي ينقل مركز المواجهة الى المجال الثقافي بمعناه الواسع. وليس سراً ان <<الاخوان>> يتمتعون، هنا، برغم ضبابية شعاراتهم، بأسبقية على الخواء المؤكد لحزب يشكل عبئا على الدولة بدل ان يكون رافعة، او حاميا، لها.

إذا اكدت الدورتان الثانية والثالثة اتجاهات الاولى فإن مصر متجهة نحو ثنائية السلطة الاخوان. سيكون على القوى الاخرى ان <<تقاتل>> كي تكون موجودة مثلما هي الحال في غير بلد عربي. ان هذه سمة من سمات المرحلة كما يبدو. وليس مستبعداً ان هناك، في السلطة، من يحبّذ هذه اللعبة باعتبارها رسالة <<ترهيبية>> الى قوى خارجية ضاغطة، والى قوى داخلية <<علمانية>> قد تفضل الانضواء تحت عباءة النظام بدل خوض مغامرة المعارضة بقيادة <<الاخوان>>.

عندما تنتهي الانتخابات سيكون ممكنا إجراء تقويم لحصيلة عام من الحراك الداخلي ومن الضغط الخارجي المحسوب. ولكن في انتظار ذلك لا بد من الاعتراف بأن تصدعا أصاب جدار الركود الذي تعيشه مصر. ولقد تعلمنا انه اذا امطرت في القاهرة فعلى الآخرين، في باقي العواصم العربية، فتح المظلات.

مصادر
السفير (لبنان)