يقوم الإعلام العربي بتصوير الدولة الصهيونية على أنها دولة يهودية والإسرائليين على أنهم مستوطنون يؤمنون بالصهيونية إيماناً عميقاً ويتمسكون بيهوديتهم إثنية كانت أم دينية. وهي صورة لا أساس لها في الواقع! فعلى سبيل المثال من أهم أيام الصوم والحداد عند اليهود يوم التاسع من أغسطس الذي ينتظر فيه اليهود ذكرى سقوط القدس وهدم الهيكلين الأول والثاني (وهما واقعتان حدثتا في التاريخ نفسه تقريباً حسب التصور اليهودي). وتربط التقاليد اليهودية بين هذا التاريخ وكوارث يهودية أخرى يُقال إنها وقعت في اليوم نفسه، حتى وإن كان الأمر ليس كذلك، مثل: سقوط قلعة بيتار (135م)، وطرد اليهود من إنجلترا (1290)، وطردهم من إسبانيا (1462).

ويُقرَأ كتاب المراثي في المعبد اليهودي بعد صلاة المساء في هذا العيد. كما تُقرأ أثناء صلاة الصباح، أو بعدها، مراثٍ تتناول كوارث التاريخ اليهودي في ضوء شموع خافتة، ويجلس المصلون إما على الأرض أو يجلسون على مقاعد منخفضة (علامة الحداد). ويزور اليهود المدافن في ذلك اليوم، ويصلون من أجل عودة جماعة إسرائيل إلى فلسطين. وفي التاسع من أغسطس، يُحرَّم الاستحمام والأكل والشرب والضحك والتجمل، ولا يحيي المصلون بعضهم البعض في ذلك اليوم.

وقد وظّف الصهاينة أيام الصوم والحداد هذه في الوجدان اليهودي لتأكيد الكوارث التي حاقت باليهود (دون ذكر إنجازاتهم المختلفة في بلادهم) بل وحاولوا ربط هذه الكوارث بالهولوكوست، وكأن هناك مذبحة متوقعة ضد اليهود في أي لحظة، وأنه على اليهود الهجرة إلى إسرائيل والاستقرار فيها ليضمنوا سلامتهم. وقد اقترح مناحم بيجين أن يُحتفَل بذكرى الإبادة في التاسع من أغسطس، ولكن المؤسسة الدينية رفضت اقتراحه بدعوى أن التاسع من أغسطس مناسبة دينية، أما الإبادة فليست كذلك.

موجة الهجرة الأخيرة إلى الدولة الصهيونية، تبدي ابتعاداً عن اللغة العبرية والمجتمع "الإسرائيلي" والثقافة المحلية وتبدي انغلاقاً ذاتياً".

ولكن مع تصاعد معدلات العلمنة في الدولة الصهيونية والتوجه نحو اللذة، ينصرف الإسرائيليون عن مثل هذه الاحتفالات الحزينة التي تنغص عليهم حياتهم. وكما يقول "أوري أورباخ" (يديعوت أحرونوت 24 يوليو 2007) "لسوء الحظ، خُرب الهيكل في يوليو- أغسطس. ولكن بعد ألفي سنة، إسرائيل العلمانية أكثر انشغالاً في هذه الأشهر من أن تتذكر شيئاً حدث منذ وقت طويل جداً. ليس التاسع من أغسطس يوماً شعبياً في المجتمع الإسرائيلي. فإسرائيل المدنية تُحب الاحتفال، وأعياد إسرائيل أيضاً، لكن أيام الصوم ألم رأس غير قليل. يُحب الإسرائيليون اعتقاد أن التاسع من أغسطس شيء ما يتصل بالماضي فقط، بهيكل ما بعيد لا يشتاقون إليه حقاً، ولا يريدون بالتأكيد أن يعود إلينا فجأة. ما الذي بقي من هذا التراث اليهودي في إيقاع الحياة الإسرائيلية؟ آثار فقط. يُرى الهيكل رمزاً لسلطة دينية لا يريدها أحد اليوم. أصبحت القدس كلها مدفوعة أمام تل أبيب التي لا تقف. أضيفوا إلى ذلك حقيقة أن المدارس تجري عليها أعمال الترميم في يوليو- أغسطس وستفهمون أيضاً لماذا لا يلقي حتى الأولاد التاسع من أغسطس في إطار قانون التربية الإلزامية. الحديث ليس عن شعارات أو علامات فقط للذكرى، بل عن تربية. يصعب على المجتمع الإسرائيلي أن يتذكر أحداثاً حدثت في صيف العام الماضي فقط وقبل سنتين. ولهذا يبدو إتيانها بذكرى ثقيلة للخراب والكارثة مضافاً إليها صوم وأناشيد مراثٍ، أمراً مبالغاً فيه. الإحساس السائد هو أن التاسع من أغسطس مسألة المتدينين.

منذ عشرات السنين والقومية العلمانية تترك الرموز الدينية للذاكرة التاريخية. لا تهم أيام الصوم من أجل الخرابات المختلفة، لأنها ترى أن مثل هذه الأمور هي مجرد مسألة دينية فحسب. إن إسرائيل الحديثة تكتفي بالأعياد السعيدة، التي يوجد فيها كثير من الطعام. ثم يأتي التاسع من أغسطس فجأة مع سِحنة هادِم الاحتفالات. التاسع من أغسطس؟ ماذا، اليوم؟! دعنا من ذلك، يوجد متدينون من أجل ذلك.

وماذا عن تمسك الإسرائيليين بيهوديتهم وصهيونيتهم وهويتهم؟ نقلت صحيفة "معاريف" عن استطلاع أجرته وزارة الاستيعاب "الإسرائيلية" أن "موجة الهجرة الأخيرة إلى الدولة الصهيونية، تبدي ابتعاداً عن اللغة العبرية والمجتمع "الإسرائيلي" والثقافة المحلية وتبدي انغلاقاً ذاتياً".

وقالت الصحيفة إن 6% فقط من المستوطنين الجدد يستخدمون اللغة العبرية حتى بعد أربع سنوات من الوجود في "إسرائيل"، في حين أن 30% من المستعمرين يستخدمون اللغة الروسية في الحياة اليومية، وأضافت: "أنه يتضح من المعطيات أن استخدام اللغة العبرية في محيط العمل منخفض هو أيضاً مقارنة مع سنوات سابقة، ويصل إلى 40% بين القادمين الجدد. ونسبة المشاهدين للتلفزيون "الإسرائيلي" تنخفض وسط الذين وصلوا عام 1995، مقابل هؤلاء الذين وصلوا عام 90، ونسبة المشاهدة وسط المهاجرين للتلفزيون باللغة الروسية فقط ترتفع طوال الوقت، ووصلت إلى 70% وسط المهاجرين الذين وصلوا في السنوات الأخيرة، وكذا الأمر أيضاً بشأن الإصغاء إلى الراديو وقراءة الصحف".

وقد شهدت إسرائيل عاصفة كبيرة حين قررت وزيرة المعارف الإسرائيلية يولي تامير (من حزب العمل) المصادقة على كتاب تعليمي للصف الثالث في المدارس العربية يورد بعضاً من الرواية الفلسطينية عن نكبة العام 1948 ويستعمل مصطلح "النكبة" بدلاً من "حرب التحرير" (الإسرائيلية)» كما كان متبعاً على مدار ستة عقود. ووفقاً للنص الجديد الذي سيتعلمه تلاميذ الصف الثالث، فإن قسماً من السكان العرب (في فلسطين التاريخية) طُرد بعد الحرب عام 1948، وإنه تمت مصادرة أراض كثيرة مملوكة للعرب. وحرصت الوزارة على أن تؤكد أن العرب هم من رفضوا قرار التقسيم بينما وافق عليه اليهود. وقالت الوزيرة التي تنتمي لحزب "العمل" المحسوب على "يسار الوسط"، للإذاعة العسكرية إن "وجهة النظر العربية لما حصل عام 1948 تستحق أن تحتل مكاناً في السجال الإسرائيلي العام". وأضافت أن من شأن هذا السجال أن يساهم في تأكيد أهمية التعايش بين الشعبين العربي والإسرائيلي. وتابعت أنه يحق للمجتمع العربي في إسرائيل أن يعبر عن مشاعره، وكان بيان صادر عن الوزارة أوضح أنه "لابد من عرض الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية للأحداث التاريخية".

وقد واجهت وزيرة التعليم عاصفة مماثلة عقب مبادراتها ترسيم الخط الأخضر (حدود الرابع من يونيو 1967) في الخرائط التي يحتويها كتاب جغرافيا جديد. كما كادت محاولة وزير التعليم السابق يوسي سريد إدخال قصيدة للشاعر محمود درويش تؤدي لسقوط حكومة إسحاق رابين بعدما هدد شركاؤه بالائتلاف بالانسحاب من الحكومة. في عام 2000 قدم وزير المعارف "أمنون روبينشتاين" (من حركة ميرتس) اقتراح قانون، جاء في البند الحادي عشر منه أنه "يحق للطالب العربي أن يتعلم وفق مرجعيته الثقافية وانتمائه الجماعي" إلا أنه لم يواكب الاقتراح بأي مسارات لتفعيله. وقد ثارت ثائرة اليمين بطبيعة الحال، فقالت وزيرة المعارف السابقة في حكومة آرييل شارون، "ليمور ليفنات" (من الليكود)، إن القرار خطير للغاية "عندما نعلِّم التلاميذ في الوسط العربي أن اليهود طردوهم من بيوتهم، وأن إقامة دولة إسرائيلية كانت مصيبة. من شان هؤلاء أن يستنتجوا أن عليهم الخروج إلى مواجهة مسلحة ضد دولة إسرائيل". وأضافت "ستكون النتيجة أننا، وبفضل من وزارة المعارف، نربي طابوراً خامساً". وعزا وزير الشؤون الاستراتيجية المتطرف "أفيغدور ليبرمان" قرار الوزيرة إلى "عقدة "اليسار" الصهيوني وانهزاميته وبحثه المتواصل عن الأعذار عما كان واجباً علينا القيام به". ودعا اليسار إلى الكف عن "جلد الذات". واعتبر وزير التعليم السابق النائب اليميني المتشدد "زوفولون اورليف" قرار الوزيرة "نكبة لجهاز التعليم الإسرائيلي"، وقال إن "تامير تشطب بقرارها تاريخ الشعب اليهودي، وتكفر بإسرائيل كدولة يهودية وتمنح العرب شرعية عدم الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي".

ومن أطرف الأخبار وأغربها ما جاء في مقال "سيفر بلوتسكر" (يديعوت أحرونوت 19 فبراير 2007) أن الأستاذ الجامعي آرييل طواف من جامعة "بار إيلان" قام بإصدار كتاب إشكالي، يثير فيه تخميناً فحواه أنه في حادثة تاريخية واحدة من فِرية الدم في المدينة الإيطالية تورنتو في سنة 1475 ربما كان هناك أساس من الحقيقة". وفرية الدم هي اتهام اليهود بأنهم في عيد الفصح يخبزون فطيراً بدم طفل مسيحي! وقد حاول الأستاذ طواف أن يثبت تخمينه باستعمال بروتوكولات من تحقيقات تعذيب محاكم التفتيش، وهي طريقة مرفوضة منهجياً. والسؤال الآن: ما الذي يدعو أستاذاً جامعياً لأن ينشر هذا الكتاب الذي لا يستند إلى أي أدلة علمية؟! كما أنه حتى لو ثبتت هذه الواقعة الوحيدة، فهي ليست جزءاً من نمط، ولذا لا يمكن أن تكون ظاهرة. ولكن يبدو أن جو ما بعد الصهيونية بدأ يخيم على إسرائيل تماماً. والله أعلم.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)