أخطأت الصحافة الغربية في تقديراتها بخصوص الانتخابات الايرانية، وأخطأ مصوّروها حين ركّزوا عدساتهم على وجوه تشبه «وجوه الغربيين» وعلى محجبات خفيفات التحجب لا تخفى لهن رغبة في السفور.

قبل ذاك أخطأت الصحافة الغربية، وحذا البعض عندنا حذوها، حين أطلقت على الشبان والشابات اللبنانيين المتظاهرين في سبيل الاستقلال وصف «الأوكرانيين» و«الجورجيين» في لحظة انتفاضهم. فلبنان ما لبث أن تبدّى غابة للطوائف المتناحرة قبل ان يختار 17 مليون ايراني محمود أحمدي نجاد، الأصولي المتزمت والخميني الأصيل، رئيساً له وزعيماً.

هذا كله صحيح يدل، بين ما يدل، الى خطأ مهني يشير صحافيون غربيون كثيرون الى إلحاح استدراكه، ويتساءل صحافيون أكثر منهم عن أسباب الوقوع فيه. وهنا، تحديداً، نتجاوز المهني الى المفهومي، أو بالأحرى الى الطريقة التي يتم فيها تعقّل العالم وإدراك الآخر.

فالصحافة الغربية في الحالين بالغت في رؤية هذا الآخر، اللبناني والإيراني، مثلما ترى «الناس» الذين تكتب عنهم ولهم، أي مثل أبناء مجتمعاتها. وقد طبّقت عليهم المعايير التي تنطبق على مجتمعاتها تلك، فافترضت أن واحدهم يسعى الى الحرية، أو الاستقلال، أو التقدم، أو أنه يفضّل تعدد الألوان على اللون الواحد وتعدد الأشكال على الشكل الوحيد.

ولسنا هنا، طبعاً، أمام «محافظين جدد» يبسّطون العالم بالنوايا الحسنة قبل أن يشنوا حرباً من حروبهم على جزء من أجزائه، أو يبيعون النوايا الحسنة من مخزن النوايا الخبيثة العامر. فنظرة الصحافيين الغربيين قد تكون غبيّة وقد تكون أسيرة نوع من السذاجة المتفائلة بوحدة البشر، الا انها حصراً غير جوهرانية، أي انها تعزف عن تصوير الآخر «الشرقي» ذا «جوهر» ناجز يغاير «الجوهر» «الغربي» المرسوم بدوره ناجزاً. وهي، كذلك، غير حربية، تحتفي بعلامات السلام ومعالم التشابه والتقارب بين سكان هذا الكوكب.

والحق يقال إننا لم نحب هذا: لم نحب ان يشابه اللبنانيون الأوكرانيين والجورجيين، ولا أحببنا ان تتمثل إيران بوجوه تشبه وجوه الغربيين وبسلوكات تشبه سلوكاتهم. ومرد الغضب الذي عبّر عنه الكتّاب والمعلقون عندنا ليس عائداً الى طلب الدقة والصواب، بل الى تنميط ذاتي لا نتعرّف على أنفسنا الا به ومن خلاله. فنحن لنا «هويتنا»، بموجبها نتقدم فقراء، مسحوقين، غاضبين، ناقمين، ضحايا، لا نشبه أحداً الا أنفسنا. وهي صورة إذا كانت صحيحة جاز التساؤل عن جدارتنا، نحن الموصوفين، في استنباط حلول لمشكلاتنا، وفي ابتكار أوضاع تكون أفضل وأجمل وأرقى. فإذا ما تبنّى غربيون هذه الصورة لنا عنا، وقالوا إننا هكذا: نحتفل بانتخاب السيد نبيه بري رئيساً لمجلس النواب اللبناني فنقتل ثلاثة ونجرح سبعة، واذا ما بنوا على تلك الصورة واستخلصوا منها، كانت تهمتنا لهم حاضرة جاهزة: فهم تنميطيون وجوهرانيون وعنصريون يريدون منعنا من ان نكون مثلهم!

وهي أزمة تطال العلاقة مع الذات قبل ان تكون مع أي طرف آخر. ولا تجد أزمة كهذه ما يطمئنها الى أنها علامة صحة وحيوية أكثر من نظريات نقد الاستشراق والمستشرقين. فالأخيرون يخلقون شرقاً متوهّماً يكون، في فصل الصيف، جوهرانياً يكرهنا ويستثنينا، فيما يكون، في فصل الشتاء، تسحيرياً عابقاً بجمال يحبه الغرب، وفي ما بين الفصلين تتهادى «المركزية الأوروبية» تصنعنا على صورتها ومثالها.

وبطبيعة الحال، يمكن للنظر المتوازن ان يحفظ الأحجام فيسجل المبالغة المهنيّة بقدر ما يثمّن الانحياز الانساني الجامع الذي يقف وراءها. وقد سبق لمفكر شهير ان ناصر عمال باريس المتمردين فقال انهم يحاولون المستحيل ويقتحمون السماء، لكنه أضاف انه يقف معهم قلباً وقالباً. وربما كان شبان لبنان وإيران، او بعضهم، مصابين بما أصيب به عمال باريس يومها، يحاولون الممر الوحيد البالغ الضيق للتقدم. وهو، في الأحوال كافة، خير من أن يحتفلوا، على نحو «أصيل» يشبهنا، بانتخاب السيد بري.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)