في كل مرة تقرر وزارة الخزانة الأمريكية تجميد أرصدة قادة وسياسيين من دول العالم الثالث ، يندفع سؤال يحيرني .. ألم يعد في كل دول الدنيا من صناديق بنوك آمنة غير صناديق بنوك العم سام ..؟ وهاهي تثبت مرة تلو الأخرى أنها تجعل من هذه القضية وسيلة ضغط وإكراه لإلزام الآخرين بسياساتها، أو تجميد ومصادرة هذه الأموال كما في كثير من الحالات، وما حصل للأرصدة الإيرانية، والعراقية بعدها، وأرصدة دول كثيرة ، أو قادة من هذه الدول ، لا نعرف عنهم الكثير ، ولما لم أجد لهذا السؤال جواباً شافياً توجهت لصديق ممن يعملون في المال والاقتصاد ، كررت سؤالي على مسمعه، وانتظرت الجواب ... ضحك كثيراً قبل أن يقول :
هناك بنوك ، وشركات استثمار أموال في العديد من دول العالم، وكلها مصدر ثقة ومأمونة، وحساباتها سرية، والأرصدة فيها تتمتع بحماية عالية، حتى أن حكومات الدول التي فيها مثل هذه البنوك، والشركات لا تستطيع الاطلاع على الأرصدة وأصحابها وحساباتهم الجارية أو الادخارية، أو الاستثمارية إلا بموجب أحكام من المحاكم المختصة، ولأسباب مبررة ومقنعة قد تمس أمن الدولة ، ويستثمر فيها الكثير من رجال الأعمال ومن كافة دول العالم ، لكن للاستثمار والإيداع في البنوك الأمريكية وأيضاً الكندية قصة أخرى، خصوصاً بالنسبة لقادة دول العالم الثالث من النسقين الأول والثاني ، وهي قصة قديمة وطويلة .

قلت : لقد جعلتني أتشوق أكثر لمعرفة هذا السر الذي يدفع بالبعض لأن يدس أصابعه في نار البنوك الأمريكية ، والجميع يعلم أنها مسيطر عليها من قبل الصهاينة ، فهم يمتلكون أغلبية الأسهم، ويسيطرون على مجالس الإدارة فيها ... بربك ما السبب ..؟
قال : التفكير الامبراطوري الأمريكي يدفع بالمخططين إلى محاولة استقطاب العقول من كل أنحاء العالم، وهكذا يقدمون إغراءات الجنسية وحقوق المواطنة، وفرص العمل وغيرها، وعلى نفس القاعدة فهم يحاولون ربط قادة وسياسيي العالم الثالث بهم، ولتطبيق هذه القاعدة ، هناك شروط لمثل هؤلاء للحصول على مزايا الجنسية ، ومنها أن يكون لكل فرد منهم رصيد معلوم في أحد البنوك الأمريكية ، بالطبع أصحاب الفكرة يعلمون وعن طريق دراسة نفسية أن الكثير من قادة دول العالم الثالث المتخلفة لا يثقون بمصائرهم، إذ في النهاية قد يتعرضون لانقلاب فيصبحون خارجاً إن لم يقتلوا، أو يزج بهم في السجون، هم لا يرتبطون لا بأوطانهم، ولا بشعوبهم، هم يستثمرون مرحلة ، طالت أم قصرت ، تعتبر فترة جنى المحصول، وهذا المحصول ليكون ذا فائدة يجد طريقه إلى البنوك الخارجية ، وخاصة الأمريكية ، وبالنتيجة هو يتراكم في عملية استثمارية، وتالياً يؤمن لأصحابه الجنسية وما يترتب عليها من حماية الدولة العظمى، وتعلم بالطبع ، كما يعلم البشر أجمعين أن حامل الجنسية الأمريكية تتوفر له حماية ورعاية أكثر من قادة دول عديدة، وعلى الأقل لا تستطيع جهة خارج الولايات المتحدة أن تحاكمه، وبالطبع مثل هؤلاء القادة والسياسيين ، أذكياء، ويحسبونها ، وهكذا يدفعون بناتج محصولهم من الرواتب والمدخرات ،... وغيرها ... !! ، إلى صناديق البنوك الأمريكية، ويحصلون على البطاقة الخضراء ، وربما يكون عليها إشارة ما ، ترمز إلى أنهم من قيادات دولة ما، ليكون لهم رعاية ومعاملة خاصة، وقد تنقلب إلى نقمة في ظروف أخرى ، كظروف بعض الدول المغضوب عليها أمريكياً .
  الله ،.. الله ، وماذا تستفيد أمريكا غير ذلك ..؟ .
ضحك ملء فيه ، وردد : ماذا تستفيد ..! في الحالة الامبراطورية، وإذا ما حصل بعض هؤلاء على الجنسية فلا بد لهم من قسم الولاء لأمريكا، وهم بالتالي يصبحون مرتبطين بطريقة ما بالأجهزة الأمريكية ، ويحملون جنسية مزدوجة، بالمناسبة بعض هؤلاء يعترض ويستنتكر ازدواجية الجنسية على الملأ، لكنه لا يقصد نفسه، أو شركاء له ، وفي الحالة الامبراطورية الأمريكية الحالية، يصبحون رجالات أمريكا الكبار، فهم من يصلون إلى المراكز، والأمثلة على ذلك كثيرة ، ربما يطردون من بلادهم الأصلية، ولكن بعد أن تستعيد أمريكا زمام المبادرة باستخدامهم كـ ( معارضة وطنية )، تأتي بهم قادة على أعلى المستويات ، انظر إلى كرزاي، وخليل زاده، والجلبي، ولا حاجة للإكثار من الأمثلة ، هناك قادة وحدات عسكرية ، رؤساء أركان، وزراء ، نواب ضباط أمن وغير ذلك يحملون هذه الجنسية المزدوجة ، .. لا تستبعدها، عندنا في لبنان، كما عندكم في الشام ، الكثير من النواب والوزراء إما من حملة الجنسية الفرنسية أو الأمريكية، ولا تنسى أيضاً أن كندا تمنح الجنسية لمن يودع في البنوك الكندية مبلغاً يتجاوز المئتي ألف دولار، وبعد خمس سنوات يصبح كندياً .

قلت : ألا يمكن أن يكون ادعاء أمريكا في بعض الحالات عن وجود أموال لبعض القيادات الوطنية مجرد كذب والغاية منه التهويل والوقيعة بينهم وبين شعوبهم ..؟ أو ربما التمهيد لمطالبة دول أخرى حليفة كأوروبا لتطبيق هذا الأمر وإلزامها العمل به ..؟ .
قال : هذا أمر قد يصح، وقد لا يصح ، وفي أغلب الأحيان يكون الإدعاء صحيحاً، قلة من السياسيين في العالم الثالث يثقون بقدرتهم على البقاء والاستمرار في حال سقوط الأنظمة المشاركين فيها، وذلك بسبب انعدام القواعد الشعبية، والوطنية لهم، ... أغلبهم يؤمن بالارتباط بالصندوق الذي يودع فيه ثروته، وهؤلاء يختلفون عن رجال الأعمال والتجار الكبار، فرجال الأعمال والتجار يبحثون عن الأمن والثقة في عملية الاستثمار، وكثير منهم يفضل الاستثمار في وطنه ، وهناك أمثلة، لا يخافون إلا عند انعدام الثقة بالنظام الذي قد يتجه نحو مصادرة أموالهم خلافاً للقوانين كما حصل في حالات كثيرة سابقة، أقصد قبل حوالي نصف قرن من الزمن، اليوم الأمر مختلف، لكن محدثي النعمة، .. الذين يجمعون أموالهم بطرق مجهولة، أو ربما معلومة ، وهي بطبيعتها طرق مشبوهة وغير مشروعة، يخشون افتضاح أمورهم، ولهذا يسلكون كما قلت، ولا يخطر لأي منهم أن يحتفظ بثروته في بنوك بلده، أو بنوك قريبة نوعاً ما ، .. كأني قرأت لك قبلاً وصفاً لهؤلاء بأن ما يربطهم بالوطن هو حقيبة الملابس المغلقة ، وجواز سفر أجنبي لا يحتاج لتأشيرة خروج ، فالوطن بنظرهم هو صندوق البنوك الخارجية .

قلت : أنا أوافقك الرأي ولكنني لا أثق بكل ما تدعيه أمريكا ... ، أخشى الألاعيب السياسية الأمريكية، وأكثر من ذلك فقد عودتنا أمريكا على سلوك متناقض في كل مرة تجاه دول العالم ، فهي تقيم الدنيا ولا تقعدها دفاعاً عن حقوق الإنسان .. ، لنكتشف أن القضية تتعلق بمجرد شخص عميل ، أو تابع، أو يحمل جنسيتها ، بينما تتغاضى عن انتهاكات لحقوق شعوب بأكملها .

قال: اسمع آخر ما أود قوله لك في هذا الشأن ، رجال أمريكا من العملاء ينتشرون كالجراثيم في الهواء، ولأنهم كذلك، تعتبرهم الأجهزة الأمريكية ملزمين بتنفيذ كل ما هو مطلوب منهم، ولكل وظيفته، فلا تعتقد أن معاقبة البعض من هؤلاء تكون للأسباب المعلنة ، بالعكس، تدبير التهم الرائجة في هذه الأيام أسهل من قبل ، .. الإرهاب ، أو مساندة الإرهاب ، أو تمويل الجماعات الإرهابية ، أو دعمها لوجستياً، وتسهيل حركتها، وهيهات أن يستطيع كشف الحقيقة إلا الذين فبركوا التهمة ، ثم أن هذه المفاهيم غير محدودة وغير معرفة، ولا تخضع لمعيار غير المعيار الأمريكي، ... قد يكون المطلوب خيانة وطنية لا يرفضها العميل، لكنه غير قادر على تحقيقها، وهنا الطامة الكبرى ، وأما مع الأنظمة فالولايات المتحدة تلجأ إلى العموميات، وتبسيط الأمور باستخدام أدوات التنكير وليس التعريف ، كأن تقول وزيرة الخارجية أن سوريا لا تتعاون بقدر كاف ، وأما القدر الكافي ،.. فهو غير محدود، وقد يكون إلزامها بحماية أرواح الجنود الأمريكان ومنع الوصول لهم، هذا الأمر الذي لم تستطع سوريا ذاتها أن تمنعه عن رجال أمنها أو ضباطها أو مواطنيها، وأمريكا عاجزة عنه، لكنه الابتزاز ، وقد يخطر للمرء إذا ما أمعن التفكير أن على سوريا أن تسحب جيشها وقوى أمنها، وشرطتها، وحتى دوريات الجمارك لتضع هؤلاء على الحدود مع العراق ، ثم إن وقعت حادثة في أقصى شرق العراق، يكون المتسلل من جهة سوريا، وهنا فقط لا تلوح الولايات المتحدة بتجميد الأرصدة الحكومية السورية لأنه لا أرصدة على ما أعتقد، أو أن مثل هذه الأرصدة محمية باتفاقيات دولية، ومع ذلك فقد جمدت حكومة أمريكية سابقة أرصدة إيران ، وهي مجمدة حتى الآن . في مثل هذه الحالة تلجأ الإدارة الأمريكية إلى التلويح بالقوة وفرض عقوبات مختلفة، بل والضغط على دول كثيرة وفاعلة على ساحة العالم لتطبيق مثل هذه العقوبات .

قلت: لنفترض أن بعض المسئولين لديهم أرصدة كما تدعي أمريكا، وأنها ستقوم بتجميدها، فما الذي سيترتب على ذلك من خسائر لبلدنا ..؟

قال: لا شيئ ، بعد أجل ما ، لا بد أن هؤلاء سيلتحقون بوطنهم الجديد، ويستعيدون أموالهم، أما الوطن ففي الحالين لن يخسر أكثر من مرة واحدة، وهذه الخسارة ربما وقعت منذ أمد بعيد أو قريب، ليس مهماً، لقد وقعت ... ونسمع بها اليوم عن طريق الإعلام الأمريكي والعالمي .
قلت: وماذا يقول المواطن العادي بعد أن يعرف هذه الحقيقة ..؟
قال : إلى حيث ألــ .................، ولن يزيد .