رب ضارة نافعة. رب جريمة تعيد تذكير الجميع بضرورة الاتزان والتحفظ. فما نشكو منه، منذ أشهر، هو العيش في تناقض حاد بين طلب الحقيقة وادعاء معرفتها. ولقد تميّزت الردود على مسلسل الاعتداءات والتفجيرات التي شهدها لبنان بتلاقي بعض السياسة وبعض الإعلام وبعض الشارع على إصدار الأحكام القاطعة، وتوجيه الاتهامات الحاسمة، وبناء المواقف بمعزل عن التحقيقات، والإقدام على عمليات “سحل رمزي” لبعض من طالتهم الظنون.

لقد حلّ الاستدلال السياسي محل القرائن الجرمية. وربما كان ذلك مبرراً في ما يخص محاولة اغتيال مروان حمادة، ثم جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما، ثم جريمة اغتيال الزميل سمير قصير. إلا أن الصورة تشوّشت بعض الشيء مع اغتيال جورج حاوي. ومن النتائج السلبية لما هو مبرّر أن حرمة الدم منعت أي نقاش لا بل وفرت زاداً لمن أراد التشكيك بما يقوله المحقق الدولي ديتليف ميليس.

ثم جاءت محاولة أمس لاغتيال وزير الدفاع الياس المر لتضفي على المشهد العام تعقيداً لا مكان له، من حيث المبدأ، في التفسير التبسيطي السائد.

ما هي النتيجة التي نصل إليها لو اعتمدنا لفهم ما جرى أمس الآلية التي جرى اعتمادها لفهم ما سبق. نحدد خصوم الياس المر السياسيين، نحصي كل كلمة قيلت ضده، نقوم بجردة للاتهامات التي وُجهت إليه، ندقق في نسبه العائلي والسياسي، نستذكر موقعه وموقع والده في النظام “السابق”، نستحضر الحملة العنيفة التي شهدتها انتخابات المتن الشمالي ضد تحالف “التيار الوطني الحر” مع “رمز الحقبة السورية”، وقريب “رأس النظام الأمني”، وأحد أقطاب الفساد والإفساد وتسخير الدولة وقمع الخصوم، ونعيد قراءة ما كُتب عن محاولة بعث النظام الإجرامي، إلخ... وبناء على كل ما تقدم نخلص إلى النتيجة القائلة بأن كل من سبق له أن أشار إلى عيب في الياس المر هو شريك، أو متواطئ، أو محرّض، في محاولة اغتياله.
إن هذا، بالضبط، هو ما يفترض تجنبه. ولقد شهدنا تجربة على ذلك بعد التفجير. وكان لافتاً أن بعض أصحاب الاتهامات الجاهزة كانوا مرتبكين وفضّلوا اللجوء إلى تقديرات عمومية عن “أعداء لبنان”>وعن “الذين لا يريدون خيراً لنا” وعن “الراغبين في دفع البلاد نحو الفوضى”، وعن “المستفيدين من الخلافات الداخلية”... صحيح أن أصواتاً ارتفعت لتقول إن العملية الأخيرة تأتي في سياق ما سبقها لكنها أصوات كانت فاقدة لقدرتها الإقناعية خاصة وأنها صادرة عن معارضين عنيدين لاحتمال أن يكون المر في الوزارة الجديدة بصفته محسوباً على رئيس الجمهورية.

يُقال، في العادة، إن سلطتي القضاء والإعلام متحالفتان. ولقد برزت فعالية هذا التحالف، قبل سنوات، في الموجة التي اجتاحت دول أوروبا الغربية وكانت “الأيدي النظيفة”، في إيطاليا، رمزها الأبرز. إلا أنه هناك، حيث الديموقراطية ناضجة فعلاً، احتج كثيرون على مبالغات هذا التحالف لأنه يضع سلطتين غير منتخبتين في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية المنبثقتين من الإرادة الشعبية الحرة. ووصل الأمر إلى حد التحذير، في فرنسا مثلاً، كما في غيرها، من أن تحل “جمهورية القضاة” محل المؤسسات التمثيلية إذا لم تعرف كيف تضبط صلاحياتها،
وإذا استمرت، حتى الحد الأقصى، مستفيدة من القنوات المفتوحة بينها وبين الإعلام.

أما ما شهدناه في لبنان، خلال الشهور الأخيرة، فهو أدهى. نبحث عن القضاء فلا نجده أو نجده وقد وضع نفسه ووضعوه في موقع الشبهة. نطالب بتحقيق دولي ونروح نطارده. نترك للسياسيين حق إصدار الأحكام و... تنفيذها. ونحوّل الإعلام من أداة لطلب العدالة إلى أداة للثأر.

لقد آن لهذا الوضع أن ينتهي. لا لصالح التعتيم، ولا لصالح التمويه، ولا لصالح الصمت. أن ينتهي لصالح قدر من الحصافة، ومن وزن الكلام، ومن إخضاع السلطات غير المنتخبة لمراقبة الرأي العام.

إنه زمن التواضع. زمن المسؤولية. زمن التأمل في شبكة التعقيدات المحيطة بالوضع اللبناني والمرحلة الانتقالية الاستثنائية التي يعيشها. زمن الفرضيات لا النتائج القاطعة. زمن القول، مثلاً، إن الجهات المستفيدة من إزاحة الياس المر متعددة، وأن البلد المفتوح قابل لأنواع شتى من الاختراقات.

ربما يساعد في ذلك أن تتولى جهة رسمية ما إطلاع المواطنين إن لم يكن على “الحقيقة” فعلى الأقل على البعض منها الذي بات محسوماً في أمره والذي هو في عهدة لجنة التحقيق. الشفافية، هنا، أكثر من ضرورية. إنها، في الواقع، حاجة وطنية. كما هو حاجة وطنية اتضاح المسؤولية السياسية العامة عبر تشكيل الحكومة، واتخاذ الخطوات الضرورية لبلورة المرجعية الأمنية.

مصادر
السفير (لبنان)