ببنيامين نتنياهو الذي يفضل وساطة فرنسية عوضا عن التركية في مسألة المفاوضات غير المباشرة مع سورية، يقدم تصورا سياسيا لأزمة الشرق الأوسط، وربما يعبر عن طبيعة التفكير الإسرائيلي منذ نشوء الاحتلال، فما يطرحه ليس جديدا لكنه اليوم ينقل قلقا إسرائيليا من طبيعة الأدوار الإقليمية أو حتى من إمكانية تشكل خارطة جديدة ربما ترسم توازنات سياسية خارجة عن نمطية العلاقات الشرق أوسطية.

عمليا فإن "إسرائيل" التي ظهرت بقرار دولي كانت تفضل في كل "معاركها" السياسية البحث عن طرف ثالث غير إقليمي كوسيط أو معبر باتجاه الطرف الآخر من الصراع، رغم أنها تدعي دائما رغبتها في الانخراط ضمن "نظام إقليمي"، وعلى الأخص بعد منتصف ثمانينات القرن الماضي، لكن ما يقلقها في مسألة "الوسيط التركي" اليوم هو نوعية الدور الإقليمي الذي تقوم به أنقرة، ومن جهة ثانية اكتساب هذا الوسيط "شرعية دولية"، وحتى اعترافا أمريكيا بأنه "وسيط متعدد" أي يمكنه أن يلعب دورا في مسألة الملف النووي الإيراني إضافة لتعامله مع التسوية في المسار السوري - "الإسرائيلي".

فالمسألة بالنسبة لنتياهو لا ترتبط بنوعية السياسة التركية أو حتى بدورها الجديد، بل أيضا بتحول معادلة التسوية ومعها مجمل التفكير بالخارطة السياسية باتجاه إقليمي بدلا من عمليات التدويل المستمرة، فـ"الحكومة الإسرائيلية" يمنية كانت او يسارية تنظر لهذا الموضوع ضمن اتجاهين:

الأول اعتبار مسألة "الوجود الإسرائيلي" شأنا دوليا ومرتبطا أيضا بالخارطة العالمية لما بعد الحرب العالمية الثانية، فهي كانت راضية دائما عن شريك السلام الذي يمثل القوى العظمى، وهو شكل يقدم تصورا عن "دورها الوظيفي" داخل المنطقة بغض النظر عن أي بعد إقليمي لأنه مرتبط أساسا باستراتيجيات الولايات المتحدة أو حتى بإستراتيجية فرنسا سابقا عندما كانت حليفا قويا في أواسط الخمسينيات.

الثاني عدم الإخلال بالمعادلة الأساسية التي ظهرت عليها "إسرائيل" والتي يتم فيها توزيع الأدوار الإقليمية وفق نوعية العلاقة التي تربط دول الشرق الأوسط بـ"إسرائيل"، لكن ما يحدث اليوم أن دولة إقليمية بدأت تحاول تشكيل نقطة توازن، وبغض النظر عن قدرتها بالاستمرار بلعب هذا الدور، فإنها كسرت المعادلة السابقة وإعادة مسألة الصراع إلى داخل الشرق الأوسط بدلا من تشتيته وفق محاور دولية.

تفكير نتنياهو اليوم لا يرتبط فقط بعدم رغبته في السلام، أو بنوعية الوسيط الفرنسي الذي لم تتأزم معه العلاقة كما حدث مع أنقرة، بل لأنه طرف من خارج الشرق الأوسط يمكنه بالدرجة الأولى التوافق مع "الشكل الوظيفي" لـ"إسرائيل"، وفي المقابل يمكنه تطور أدوار إقليمية خارج المعادلة التقليدية القائمة، وربما لهذا السبب تتمسك دمشق بالدور التركي مع تأكيدها على أهمية "الراعي الأمريكي"، فهي تعرف أن تركيا قادرة على رسم توازن هي جزء منه، وواسطتها هي في النهاية محاولة لرسم المنطقة من داخلها حتى ولو كان هناك "دور أمريكي" فاعل.