دأبت سوريا على تكرار التصريح الذي يعبر عن خشيتها من تسييس مهمة لجنة التحقيق الدولية المكلفة بالتحقيق باغتيال الرئيس الحريري، وبالمقابل رددت أوساط اللجنة مرات عديدة أن مهمتها لن تسيّس وأنها لجنة قضائية صرفة تضم خمسة وثلاثين محققاً وعشرات الفنيين من عدة بلدان فكيف يتم تسييسها.

ومن الذي يأمر بهذا التسييس أو يتواطأ من أجله، وأنها غير مهتمة بصراعات الدول أو خلافاتها السياسية، فهي مجموعة من القضاة، ومازال السجال قائماً.

لو عدنا لأصل المشكلة واستعرضنا بديهياتها لوجدنا أن مهمة اللجنة هي التحقيق بجريمة اغتيال سياسي وستكون لها نتائج سياسية لاشك فيها، وقد شكلها مجلس الأمن (وهو مؤسسة سياسية) .

ويشارك فيها محققون وفنيون من أكثر من دولة (وهذا توجه سياسي) ويطلب من جميع الدول التعاون معها (وهذا قرار سياسي) وستعرض نتائج تحقيقاتها على مجلس الأمن الذي قد يوكل محاكمة المتهمين إلى محكمة دولية فلماذا يؤخذ عليها إذن أنها وليدة قرارات سياسية، ولماذا تنكر اللجنة بدورها المناخ السياسي الذي تعمل من خلاله في المبدأ والمنتهى.

لا ينبغي أن تكون مجريات تحقيقات اللجنة سياسية فهذا أمر بديهي ذلك أن مجريات التحقيق تسير حسب الأصول القضائية وكذا أدواته وآلياته ونهجه، إذ لايجوز للجنة مثلاً أن تغفل أمراً لأسباب سياسية أو تفتعل آخر للأسباب نفسها.

كما لا يحق لها أن توظف أعمالها ومهماتها لإدانة هذا الطرف أو ذاك وهي في النهاية ليست محكمة وإنما لجنة تحقيق فقط تقدم ما لديها للقضاء اللبناني (أو القضاء الدولي إن رأى مجلس الأمن ذلك) .

وبهذا المعنى سيكون من العبث والاستهتار ومخالفة أصول المحاكمات إن لم تلتزم اللجنة بعملها محترمة الجوانب الفنية والتقنية فيه وتقاليد القضاء في كل مكان. وهذا ما تؤكد اللجنة في كل حين أنها التزمته وملتزمة فيه بصرامة ومسؤولية، والذي يخرج عن نطاق أي سياسة وتسييس.

من جهة أخرى، إن كل ما عدا ذلك (أي كل ما عدا حيثيات التحقيق) يخضع للشرط السياسي، حيث ستحال النتائج على التوازي إلى القضاء اللبناني وإلى مجلس الأمن الذي له الحق أن يقضي بأن تكون المحاكمة أمام المحكمة الدولية المتخصصة بالجرائم ضد الإنسانية (شكلت في العام الماضي) أو أمام محكمة خاصة يشكلها من فوره، أو أمام محكمة لبنانية.

وأياً يكن القرار فإنه قرار سياسي من رأسه لأخمص قدميه، كما قد يلجأ مجلس الأمن إلى عدم انتظار نتائج المحاكمة ويتخذ إجراءات عقابية ضد هذه الجهة أو تلك. وقد تلبي هذه القرارات رغبات دول كبرى في مجلس الأمن بمعزل عن نتائج التحقيق مستغلة حيثياته.

وهكذا فإن نتائج التحقيق مسيسة بالضرورة لأنها تقع ضمن سياق قرارات مجلس الأمن، وما نفي تسييسها إلا مزاعم لا أساس لها، وهذا يلقي الضوء على تصريحات المسؤولين الأميركيين المعادية لسوريا التي تطالبها بالتعاون مع التحقيق وتتهمها سلفاً مباشرة.

أو مداورة بالضلوع في الجريمة وذلك لوضع نتائج التحقيق ضمن اللعبة وقواعدها التي تستغلها الإدارة الأميركية للحد الأقصى وتلبس مزاعمها لباس البراءة والسعي وراء الحق والحقيقة، والأمر في الواقع غير ذلك لأنه إجراء سياسي صرف لا مراء في تسييسه، سواء اشتكى السوريون أم لم يشتكوا.

بدأ التسييس واقعياً في اللحظة التي اتخذ مجلس الأمن قرار تشكيل لجنة التحقيق وسيطال بالضرورة نتائج أعمالها، وهذا ما لا تستطيع سوريا الاحتجاج عليه، لكن لها الحق بالاحتجاج عندما تحيد إجراءات التحقيق عن الأصول القضائية.

أو إذا تحامل محقق أو اكثر على شاهد أو متهم، أو إذا كانت اللجنة تسعى للإدانة بدون حق (فليس لها حق الإدانة) وما ان تنهي اللجنة أعمالها في الواقع حتى يبدأ التعامل السياسي مع النتائج وهو أمر غير مفاجئ لأحد ويقع ضمن السياق العام لقرار مجلس الأمن.

صرحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أن الخلاف ليس سورياً أميركياً وإنما سورياً (مع العالم كله) وبغض النظر عن عدم مصداقية هذا التصريح وعدم واقعيته فإنه مقدمات لتناول نتائج التحقيق واستغلال أية إشارة فيه لجعلها أمراً جللاً.

ويكفي الولايات المتحدة بعد الحملة التي شنتها ضد سوريا أن تنوه لجنة التحقيق باشتباه تجاه أي سوري حتى (تقنع) مجلس الأمن بمشاركة سوريا في الجريمة، إنها في الواقع ورطة كبيرة لسوريا تنوء بحملها ويصعب على أقوى الدول الخروج منها، ولا ينفع إطلاق الاتهامات بتسييس اللجنة، لأن أمر اللجنة ملتبس منذ لحظة تشكيلها وتحديد مهماتها .

والطلب من جميع الدول التعاون معها، ووجود ثغرات في القرار يمكن أن يستغلها الأعضاء الكبار في مجلس الأمن ليوجهوا النتائج إلى هنا أو هناك، وليستغلها كل على هواه.

لا تحتاج اللجنة أن تضع الشأن السياسي نصب أعينها كما لا تحتاج بالتأكيد أن تشتبه أو تتهم أحداً بدون مسوغات لتحقيق أهداف سياسية، وذلك لأن هذه الأهداف يمكن تحقيقها من خلال التعامل مع نتائج التحقيق وليس مع التحقيق واستثمار الثغرات بقرار تشكيل اللجنة أو بتقريرها النهائي للوصول إلى الأهداف السياسية المطلوبة.

ومن بيده القلم لا يضر بنفسه والقلم بيد الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما والجميع يتحفز لتحويل سوريا إلى دولة (مارقة) ولا يحتاجون أن يزوّر المحقق ميليس تحقيقاته ومعطياته. وفي ضوء ذلك يمكن الزعم أن التحقيق بذاته سيكون عادلاً أما التعامل مع نتائجه فهو أمر آخر.

ويبدو أن سوريا بدأت تدرك ذلك وأخذت تكرر كل يوم خشيتها من تسييس التحقيق، وعليها في الواقع أن تخشى من تسييس نتائجه وليس من تسييس إجراءاته التي يقوم بها قضاة عدول.لعل هذا الالتباس هو الجدير بالتدقيق فيه ويتطلب من سوريا أن تكثف جهودها ضد هذه الضغوط.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)