عبد اللطيف مهنا

هل هدأت، إلى حدٍ ما، ردود الأفعال الاحتجاجية العربية والمسلمة، على استفزازات الكاريكاتورات الدانماركية، التي هزّت بتماديها المستمر وجدان أكثر من مليار وثلاثمائة مليون إنسان في هذا العالم؟!

هناك ما يُلحظ من بعض خفوتٍ، إن لم نقل فتوراً، في تصاعد حدة الاحتجاجات، وإن سالت أحياناً على هامش هذا الخفوت، دماء بعض المتظاهرين هنا وهناك. في الباكستان مثلاً... أو بعض من تراجع نشهده في مقاربة المسألة إعلامياً. ربما لصالح الانشغال بدواه أخرى تلم بالعرب والمسلمين، كما هو الحال في العراق الذي يدفع عنوةً إلى شفير الحرب الأهلية، مثلاً... والرسميون، في الموقعين المتقابلين بالنسبة لهذه القضية، ومعهم نخب دعاة حوار الحضارات في الطرفين، وحتى بعض الحالمين بتحالفها منهم، إلى جانب المتضررين من دعوات المقاطعة اقتصادياً، وما تسببها إن اتسعت من خسارات لا يريدونها، وكذا العقلاء الواجفون خشيةً من عقابيل ما يدعى صراع الحضارات... كلهم ينشطون ليل نهار جاهدين لتطويق ذيول المسألة التي ذهبت بعيداً، وقد تذهب أكثر، تحدوهم في ذلك مختلف الدوافع، وتدعم سعيهم هذا حجج لا يعدمون سوقها... لكن، ومع ذلك، يظل السؤال هو السؤال: هل هذا الهدوء أو الخفوت أو الفتور في ردود الأفعال على هذه الفعلة الدانماركية، هو آني أو مؤقت وليس سوى إلى حين؟!

مبرر هذا التساؤل، بل مبرراته عديدة، وماثلة جميعها عياناً للجميع، ومنها:

أولاً: إن هؤلاء الساعين للخير، الذين سبقت الإشارة إليهم، يظلون في وادٍ، والشارع العربي والإسلامي، أو الإنسان العادي فيهما، في وادٍ آخر. ونقول هذا، لضآلة تأثر هذا الشارع، كما هو معروف، بدوافع أو حجج هؤلاء الساعين الجاهدين لتجاوز ما حدث، أو بلغة أخرى، للوصول بالمسألة إلى عفى الله عما سلف، على اختلاف تلك الدوافع أو منطقية تلك الحجج، بالنسبة لأصحابها على الأقل...

وثانياً: إن أضعف الإيمان لنزع فتيل التداعيات، وتهدئة الخواطر، وهو ما طالب به وسعى إليه بعض هؤلاء الساعين، أي الاعتذار الدانماركي الرسمي، ليس في الوارد، كما هو معلن دانماركياً، ويعاد التأكيد على عدم وروده، ويزيد من عدم هذا الورود، مظاهر التضامن الغربي الشامل مع هذا البلد الصغير، الذي يُصوَّر كضحية لغضبة عربية وإسلامية قد تكون مفهومة، لكنها غير مبررة بالنسبة لهؤلاء المتضامنين مع أخاهم الدانماركي ظالماً أو مظلوماً، تحت يافطة حرية الرأي، التي ترفع انتقائياً أحياناً، وحتى بلا حدود، كما هو الحال بالنسبة لهذه المسألة تحديداً، وتقيّد أو يحدّ منها، أو توضع لها حدوداً، حيال معالجة مسائل أخرى عند اللزوم، كالمحرقة اليهودية مثلاً!

وثالثاً: أن الاستفزازات الغربية لمشاعر العرب والمسلمين حبل لا ينقطع، وتكر مسبحتها على الدوام، وهي لعقود خلت، قد أصبحت بمثابة فعل تراكمي يزداد ثقله مع الأيام وطأةً، وما حكاية الكاريكاتورات الدانماركية إلا نقطة في بحر هذا التراكم. بل لم تزد على كونها الشعرة التي قصمت ظهر البعير، أو النقطة التي بسببها قد فاض الكأس... وما دمنا حيالها، حيث تأتي في سياق عام يعبر عن نظرة عنصرية وتوجه استعماري مزمن، سننتقي بعضاً من جديدها. لكن قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى الجديد الدانماركي منها، والذي لعله الأكثر وقاحة، حتى من إعادة نشر الكاريكاتورات نفسها، ألا وهو تأكيد رئيس الوزراء راسموسن استمرار ما دعاه مبادرة بلاده "لنشر الديمقراطية والحوار في الدول العربية"!!!

وعودة إلى هذا الجديد المستطرف بالتوازي مع ضجيج دعوات حوار الحضارات وأماني الحالمين أو الواهمين بتحالفها، ولنختر منه ما كان في الحالات العربية الأكثر وجعاً، العراقية، واللبنانية، والفلسطينية...

في العراقية... بعد أن أنجز الاحتلال تدمير الدولة العراقية، وبدد ركائزها، مهشماً كل الأسس التي قامت عليها وحدة الكيان العراقي الضاربة جذوراً في عمق التاريخ... بدءاً بقانون بريمر، وما لحق به أو تأسس عليه لاحقاً، وصولاً إلى ما تم اصطناعها، أثناء سنوات الاحتلال التي أعقبت الغزو وحتى اللحظة، من بيئة انقسامية تفتيتية رهيبة، عبر تطييف قسري مدروس لكيان بديل مسخ، زرعت في أحشائه بذور المذهبية البغيضة، بما تحمله في ثناياها عادةً من دواهي الفتن الكامنة... بعد هذا كله، ها هي الولايات المتحدة تعترف ببساطة بأن الحرب الأهلية في العراق قد غدت وشيكة، مبشرةً بأنها البديل المحتوم لما كانت قد بشّرت به سابقاً من مثال ديمقراطي مزعوم، ادعت أنه سوف يحتذى به، أو ستعمل على تعميمه عنوةً في المنطقة بأسرها... أي إنها باعترافها هذا، تعلن إتمام إيصالها هذا البلد العربي المنكوب إلى حالة كانت تنشدها تمكّنها من تصوير احتلالها الدائم له دواءً مزعوماً وحيداً يحول بينه وبين الزوال، وبحيث يغدو المحتلون، أو من أوصلوه إلى ما وصل إليه، وكإنما هم وحدهم المنقذون!

وإذا ما إضفنا إلى ما تقدم، مسلسل نشر صور التعذيب الهمجي المبرمج في متوالية مقصودة على الأغلب، سبق وإن قلنا أنها بعيدة عن كونها بريئة. ثم الكشف المريب، وليس وليد الصدفة، عن أن دولاً غربية كانت تزعم معارضتها للغزو قد ساهمت سراً فيه، كالنرويج مثلاً، التي زودت الغزاة بمناطير ليلية متطورة للاستخدام الليلي إبان الغزو، نجد أن فضيحة الفضائح، حتى اللحظة على الأقل، تظل المساهمة الألمانية الفاعلة في الحرب، والتي تمثلت في تسريب المخابرات الألمانية للخطة العراقية المعدة للدفاع عن بغداد للغزاة الأمريكان، وفق ما كشفته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، الأمر الذي استحق تعقيباً من قبل صحيفة ألمانية هي "بيلد تسايتونغ"، يقول:

"إن حكومة بلادها "كانت تتبع استراتيجية مزدوجة، فعلى المستوى الرسمي كانت ترفض الحرب وفي السر كانت تشنها"!

ترى لماذا يكشفون لنا عن كل ذلك؟

هل هو الإمعان في الاستفزاز الهادف إلى مزيد من الإهانات، وصولاً إلى مزيد من التدجين؟!

...في الحالة اللبنانية، حيث يدور الآن حوار طرشان بين نخبها السياسية، برعاية دول الوصاية أو بمتابعة منها عن قرب على الأقل، وحيث يتم الإصرار على نقل هذا البلد المستفرد به إلى الموقع المقابل لقضايا أمته، ويتم تدريجياً فصله عن همومها، نكتفي بإشادة الرئيس الفرنسي جاك شيراك برجل سيئ الصيت مثل تيري رود لارسن، وتأكيده على "تعلق" فرنسا بمسألة ضرورة تنفيذ القرار الخطير، أو قرار الحرب الأهلية، 1559.

بيد أن الأطرف هو أن شيراك يطالب سوريا بالتعاون مع لجنة التحقيق في حين ترفض بلاده تسليم الشاهد المقنّع المزوّر الكاذب زهير الصدّيق إلى القضاء في لبنان، وتزيد فتطلق سراحة بعد اعتقال!

...وفي الحالة الفلسطينية... يكفي متابعة المواقف عقب فوز حماس في الانتخابات... يعلن إيهود أولمرت رئيس الوزراء بالوكالة، أنه "بيننا وبين الولايات المتحدة تفاهم مطلق في الاستراتيجا، وليس في ذلك أي ذرة سوء فهم أو خلاف"... وتشرع أطراف الرباعية في الاشتراط: إن "على كل حكومة فلسطينية في المستقبل أن تتعهد بوقف العنف، وتعترف بإسرائيل، وتقبل بالاتفاقات والالتزامات السابقة، وعلى رأسها خارطة الطريق كشرط لإجراء الاتصالات معها".

وتسارع الولايات المتحدة إلى استرداد مبلغ 30 مليوناً من الدولارات كانت مساعدة منها قد وصلت فعلاً إلى السلطة الفلسطينية... بيد أن أكثر الأمور مدعاةً للاستفزاز، هو الإعلان الأوروبي، الآتي بعد التلويح المتكرر بتجويع الفلسطينيين عقاباً على حصيلة تلك الانتخابات، عبر التهديد بحجب المساعدات البخسة عنهم، عن تقديم 120 مليون يورو للسلطة لتصرف في الأمور التالية:

تسديد فواتير الكهرباء لإسرائيل، ودعم وكالة الغوث، ودفع جزء من رواتب الموظفين... لعل خير تعليق على هذا الكرم الأوروبي الحاتمي، الذي لا يأتي لوجه الله، جاء من الصحفية الإسرائيلية عميرة هاس التي كتبت في صحيفة "هآرتس"، تقول:

"إسرائيل هي الملزمة بالسرور لقرار الدول المانحة بمواصلة تعويض الفلسطينيين عن التدور الاقتصادي الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي، لأن الشعب الفلسطيني لم يتحول إلى شعب يتسول الصدقات من العالم بسبب الكوارث الطبيعية، وإنما هي عملية الاستعمار التي تقوم إسرائيل بتسريعها... التبرع الأوروبي الموعود الذي يهدف في جزء منه إلى دفع رواتب القطاع العام الفلسطيني يشير إلى أن أوروبا تجد صعوبة حتى في منع إسرائيل من نهب أموال الضرائب والجمارك التي تعود للفلسطينيين في وضح النهار... "

وتمضي عميرة هاس ساخرةً من النفاق الأوروبي، قائلةً:

"مع إقامة حكومة برئاسة حماس سيجدون صيغاً أخرى لمواصلة إمداد الفلسطينيين بشبكة الأنقاذ المكونة من التبرعات والصدقات. حكومة إسرائيل بدورها ستصرخ محتجة على تقديم المساعدة لحماس إلا أنها ستفرح بينها وبين نفسها"!

...آخر الاستفزازات حدثت للعرب المسيحيين في الناصرة الفلسطينية المحتلة عبر الاعتداء المشين على كنيسة البشارة...

إذن، وحيث يصادق الغرب على مقولة لغولدا مائير، تقول: "بعد الكارثة يحق لليهود أن يفعلوا كل الشيء"، ويهان العرب والمسلمون في مقدساتهم وفي شخص نبيهم، يرفض الغرب المتضامن مع بعضه الاعتذار للمهانين بذريعة الحفاظ على قدسية حرية الرأي... وتواصل الدانمارك تأكيدها على سعيها لدمقرطة العرب وتعليمهم أصول الحوار، في سياق دورها في مشروع غربي معادٍ أكثر شمولاً، تتواتر فيه مآثر الغرب في العراق وفلسطين ولبنان... وعليه، يبقى السؤال هو السؤال:

هل لردود الأفعال العربية والإسلامية على هذه الاستفزازات المهينة أن تهدأ حقاً ولو إلى حين؟!

...وسؤال آخر: هل هناك من حوار حقيقي يريدونه معنا سوى حوار الإهانات؟؟!!!