أكثر ما يدعو للقلق هو حالة الاكتفاء الذاتي بطبيعة التفكير الذي يرسمنا كصورة أولية للحظة "انبعاث الرسالة"، فربما غاب عن واجهة التفكير في لحظة "التحدي" أن "الطيف الديني" الذي "فتح" العالم لم يكن مسلحا بـ"التقوى" كما يصر الخطباء على تلقيننا كل صباح ومساء، بل بمحتوى ثقافي استطاع التعبير عن نفسه في القرون الأربع الأولى من تاريخ الإسلام.

وربما شكل الانفصال الحاد بين الدين والثقافة الثورة الحقيقية التي جعلت الإسلام نموذجا نمطيا مستمرا، داخل الحلم على الأقل، منذ أبو ذر الغفاري إلى أيمن الظواهري ... وجعلت الخيال الخصب يقفز على عتبات الزمن متوهما أن المسألة "ثوابت" شرعية وليست إنتاجا ثقافيا ... وهذا الموضوع هو الغائب الحاضر منذ اللحظة التي اعتبرها المؤرخون "بداية النهضة" مع دخول نابليون إلى مصر. فهذه الحركة التي حملت أشكال التجديد بقيت أسيرة اختصار الحياة على "التعاليم" وتصفية "الفلسفة" التي خاضها الإمام الغزالي لاعتبارات خاصة بزمنه.

وعندما تتكرر المأساة اليوم ابتداء من الصورة النمطية التي قدمها "بن لادن" وصولا إلى الرسوم المسيئة فإن المطلوب أكثر من "نصرة رسول الله" لأن ما حدث هو انتهاك ثقافي وليس ديني، وهو أيضا تذكير بأننا عاجزون عن تقديم منتج ثقافي معبر عن سياق تاريخي ينتهي في عام 2006 وليس في القرن الرابع الهجري.

وما يدفع للدهشة هو ما حملته المؤتمرات من أفكار لم تخرج عن إطار الدين، ومنها جمع تبرعات لترجمة القرآن إلى الدنمركية، متناسين أن الإنتاج الثقافي بعد ظهور الإسلام هو الذي دفع الجميع لمعرفة القرآن دون الحاجة للترجمات، وهو ما يدفعنا اليوم لتعلم اللغات غير العربية لمتابعة "التدفق الثقافي" من أنحاء العالم.

إن أخطر ما قدمته أزمة الرسوم المسيئة هي أنها اثبتت أننا نفهم الأزمة على طريقة ابن تيمية، مع تقديرنا له، وأننا نريد إثبات قوتنا بوسائل دينية وليست ثقافية. فصورة الرسول في صدر الإسلام لم تعد تهم أحد اليوم مادمنا خارج إيقاع العصر، ومصرون على تلميع صورة تاريخنا وكأنه حالة "مقنعة" بذاتها.

سواء ترجمنا القرآن للدنمركية أو شرحنا أهمية الرسول فإن الصورة النمطية لا يمكن أن تزول دون إنتاج ثقافي جديد، ودون الانتقال من الدين إلى الثقافة لأن انتشار الإسلام لم يكن بتعاليمه فقط بل بما حمله من وضعية ثقافية جديدة فتحت صفحة جديدة في تاريخ العصور الوسطى.