صبحي غندور

هل ما قام به "حزب الله" يوم 12 تموز/يوليو كان مغامرةً سياسية وعسكرية؟

فلنسلّم بذلك جدلاً، فما الذي قام به "حزب الله"؟

لقد كانت عملية عسكرية في موقع حدودي بين بلدين ما زالت حالة الحرب قائمةً بينهما، وما زال هناك معتقلون لبنانيون في السجون الإسرائيلية، وما زالت هناك أرض لبنانية محتلّة، كما هناك شبكات تخريب وإرهاب إسرائيلية جرى الإعلان عنها من قبل السلطات اللبنانية قبل أسابيع قليلة.

إذن، ما قام به "حزب الله" كان في سياق الصراع المفتوح بين لبنان وإسرائيل منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي ولم ينتهِ بالانسحاب الإسرائيلي الذي حدث في العام 2000.

فانسحاب إسرائيل من لبنان، كما انسحابها من غزّة، كان قراراً من طرف واحد دون أيّ اتفاق مع الطرف الخاضع للاحتلال، وهذا الأمر يعني استمرار حرّية الحركة للعدوّ المحتلّ أينما شاء ومتى شاء ذلك.

ثمّ كيف يجوز تمرير المنطق الذي تطرحه واشنطن وعدد من الدول الكبرى بأنّ من حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها ضدّ (الإرهاب)، بينما ما حدث في غزّة وجنوب لبنان كان عمليات عسكرية ضدّ عسكريين فقط، في حين جاء الردّ الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزّة وعلى اللبنانيين على أرض لبنان كلّه مطابقاً تماماً للتعريف الدولي للإرهاب من حيث استهدافه للمدنيين ولمنشآت مدنية!

إن الرابط الأهمّ بين ما حدث في غزة وجنوب لبنان، هو قناعة المقاومة الفلسطينية واللبنانية بعدم جدوى المراهنة على التسويات السياسية مع إسرائيل كطريق لإنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي أو لتحرير الأرض واستعادة الحقوق ..

هذه القناعة نفسها أعلنها المؤتمر الأخير لوزراء الخارجية العرب من خلال نعي الأمين العام للجامعة العربية لعملية السلام ولمشاريع السلام!

ومن المسؤول عن ذلك؟ ليس حتماً الأطراف العربية التي سارت ربّما أكثر من اللازم في خطوات العلاقة والتطبيع مع إسرائيل رغم عدم التسوية الشاملة ..

المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية الحالية التي اختارت منذ مجيئها أولويّة الحرب على العراق ثمّ أعطتها جماعات التطرّف والعنف العشوائي كلّ الأعذار المناسبة لبدء أجندتها الحربية في العالم كلّه ..

وكان تهميش الإدارة الأميركية الحالية لمسألة الصراع العربي/الإسرائيلي، وللملفّ الفلسطيني تحديداً، بمثابة ضوء أخضر لحكمٍ آخر متطرّف في إسرائيل بأن يمارس أبشع أنواع العدوان على الشعب الفلسطيني مستغلاً اهتمام العالم بالحرب على الإرهاب وانشغال أميركا بالأولوية العراقية ..

هي إذن مسؤولية دولية وأميركية وإسرائيلية في دفع المنطقة لاحتقان شديد يجري التعبير عنه بأشكال مختلفة من العنف المرفوض أحياناً أو المقاومة المشروعة أحياناً أخرى ..

وحينما تكون الكلمة الكبرى في العالم للسلاح والحرب، فمن الطبيعي أن تجد هذه الكلمة صدًى لها في قضايا وأزمات دولية، ولدى أطراف تخوض أصلاً معارك التحرّر الوطني من الاحتلال ..

لكن ما الذي دفع ب"حركة حماس" في غزّة و"حزب الله" في لبنان إلى اتخاذ قرار بعمليات عسكرية وأسر جنود إسرائيليين رغم إدراك المنظمتين لاحتمالات ردود الفعل الإسرائيلية؟

المشترك بين "حماس" و"حزب الله" ليس فقط التجانس العقائدي وأسلوب المقاومة المسلّحة والعلاقات الخاصّة مع دمشق وطهران، بل أيضاً الظروف الصعبة التي قرّرت الإدارة الأميركية وضعهما فيها.

فالإدارة الأميركية تبنّت المفهوم الإسرائيلي للإرهاب الذي يضع أيّة مقاومة مسلّحة للاحتلال الإسرائيلي في خانة الأعمال الإرهابية، وبالتالي أصبحت حركة "حماس" في الأراضي الفلسطينية المحتلّة و"حزب الله" في لبنان منظمتين إرهابيتين بالتصنيف الأميركي، بينما أعطى الفلسطينيون في الضفّة وغزّة غالبية أصواتهم لمرشّحي "حماس" في الانتخابات الأخيرة، وحاز "حزب الله" على دعم معظم اللبنانيين والعرب بعد نجاحه في طرد الاحتلال الإسرائيلي من لبنان عام 2000.

وقد ضغطت الإدارة الأميركية على أطراف دولية وعربية عديدة من أجل دفع "حماس" لتكرار ما قامت به منظمة التحرير الفلسطينية عام 1994 في اتفاق أوسلو من اعتراف بإسرائيل وتخلّي عن أسلوب الكفاح المسلّح مقابل الاعتراف بها فقط وليس الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني.

ومارست واشنطن وتل أبيب ضغوطات مكثّفة على رئاسة السلطة الفلسطينية الحالية والسابقة من أجل التصادم مع "حماس" ونزع سلاحها. وكانت الفترة التي سبقت العملية العسكرية الأخيرة في غزّة حافلةً بالصراعات المسلّحة بين "فتح" و"حماس" وبإمكانية انفجار الصراع الشامل بينهما والحرب الأهلية الفلسطينية ..

الظروف نفسها أوجدتها واشنطن في لبنان من خلال التحريض الدولي والعربي واللبناني على تنفيذ القرار 1559 لجهة الإصرار على نزع سلاح "حزب الله". وكانت المراهنة الإسرائيلية المدعومة أميركياً أن يؤدّي ذلك في لبنان إلى صراع لبناني داخلي مع "حزب الله" حتى لو مرّ طريق هذا الصراع في دهاليز فتنة مذهبية أدرك مخاطرها اللبنانيون والأطراف المعنيّة فعملوا على تجنّب دفع التأزّم السياسي إلى فوضى أمنية.

إذن، ربّما اختارت "حركة حماس" وبعدها "حزب الله" تنفيس الاحتقان الداخلي الحاصل من خلال عمليات عسكرية ضدّ الجنود الإسرائيليين واحتجاز أسرى منهم (علماً بأنّ لكلا الطرفين أسرى لدى إسرائيل لا سبيل لفكّ أسرهم سوى مبادلتهم بأسرى إسرائيلين)، بحيث تتّجه الأنظار من جديد إلى العدوّ الحقيقي وأهدافه وممارساته العدوانية كخيار أفضل من الحروب الأهلية أو من استنساخ الحالة العراقية في الساحتين اللبنانية والفلسطينية.

إنَّ الأوْلى لبنانياً وفلسطينياً وعربيّاً الآن هو التحرّك الشامل لوقف العدوان الإسرائيلي بدلاً من لوم هذا الطرف أو ذاك. فالفتنة كانت مطلوبةً قبل هذه التطوّرات، والفتنة مطلوبة الآن خلالها وبعدها. الفتنة بين الفلسطينيين وبين اللبنانيين وبين العرب كلّهم .. فتنة شبيهة بالواقع المؤلم الموجود الآن في العراق لكي يكون حالة عربية عامّة تنهي أيّ مقاومة لأيّ احتلال وتجعل العدوّ هو المواطن العربي الآخر.

الأوْلى عربياً الآن هو التحرّك الدولي لتصحيح السياسة الأميركية والدولية التي جعلت من إسرائيل - بدعمها المطلق لها- "شعب الله المختار" الذي يحقّ له ما لا يحقّ لغيره، فقد أعطى المجتمع الدولي لإسرائيل حقّ الدفاع عن النفس (كدولة محتلّة) باستخدام أساليب إرهابية (ضدّ شعوب خاضعة للاحتلال) وفي اختيار ما تراه مناسباً من قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية.

وأصبح لإسرائيل حق تدمير غزّة ولبنان لإطلاق أسرى جنود بينما لا يحقّ لمقاتلين فلسطينيين ولبنانيين حقّ القيام بعملية عسكرية فوق أراضيهم ضدّ قوات محتلّة من أجل الإفراج عن آلافٍ من المعتقلين المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين!!

الأوْلى عربياً الآن هو الضغط الشعبي من أجل وقف كلّ أشكال التعامل والعلاقات مع إسرائيل عوضاً عن القيام بدور الوسيط بين الحقّ والباطل، وبين القاتل والضحيّة..

الأوْلى عربياً وأد الفتنة في زمن حرب إسرائيل على العرب بعدما فشل السلام معها..

الأولى لبنانياً وفلسطينياً وعربياً التحرك لوقف العدوان الإسرائيلي.. لا لوم الضحية!