لقراءة الجزء الأول من هذه الدراسة، يرجى تصفح العنوان التالي: «التحكم في الأضرار : ناعوم تشومسكي والصراع الإسرائيلي-الإسرائيلي»}}

عالجت حتى الآن بشكل عام وعريض الآراء التي عبّر عنها تشومسكي (في الصحافة أو خلال مؤتمراته). للأسف هذه الأعمال الجامعية، تقدم نفس الشرخ. وقد سُردتْ باختصار من قِبل بروس شارب على صفحة الانترنت التي تعرض كتاباته السابقة حول الإبادات الجماعية في كمبوديا. كتب شارب عن تشومسكي قائلاً :

«لا يقيّم كل المراجع قبل أن يحدد أيها سيصمد أمام تفحّص جديّ. في الموضع والمكان، يتفحص حفنة من السجلات، إلى أن يجد تلك التي تتناسب مع فكرته المحددة مسبقا عما يمكن للحقيقة أن تكون؛ إنه لا يستنتج نظرياته من المعطيات المحققة؛ يجمع في المكان والزمان (ما يسميه) «أدلّة» بشكل انتقائي، وفقط «الأدلة» التي كونت نظرياته. أما التفاصيل الأخرى فيسقطها من اهتماماته.

كتب شارب : «إغفالات تشومسكي، تسيل بشكل محدد من الانحراف الطائش المماثل لذلك الذي يمضي وقته مستهزءً منه في صحافة الإجماع. والمفترض من الأحداث التي تدعم نظريته أن تملأ شروطَ مصداقية أدنى من تلك (المستحيلة) التي خضعت لها المجريات والتي يمكنها تكذيبها.»

بكل تأكيد، هذا اللوم ليس موجها إلى تشومسكي وحده. لكن، نظرا لمنزلته بشكل خاص ولمصداقيته الجامعية، يعتبر هذا خطيرا فيما يخصّه. وما شخّصه شارب يجعل من تشومسكي محامياً عاماً أكثر منه مؤرّخاً.

من المؤكد أن الأسئلة المتعلقة بالقضية الرامية إلى ضمان إيجاد حل عادل للنزاع الإسرائيلي/الفلسطيني معقّدة ومختلفة. كما أنه لا يجب التقليل من أهميتها، بل على العكس، يجب أن يتم فحصها أو مناقشتها بشكل جديّ صادق. بيد أن الجميع لا يشاركون على قدم المساواة في هذا الحوار مع الآخرين. إذ للفلسطينيين أنفسهم يعود البث في مسألة حق عودة مهجّريهم، وليس للإسرائيليين أو لواشنطن أو لـ«الإجماع العالمي» الغالي على تشومسكي...

مشكلة أخرى مرتبطة بشكل حميم مع الذي ذكرناه سابقاً -وهو : «دولة واحدة مقابل دولتين»- هي من أكثر المشاكل تعقيدا. بالنسبة لتشومسكي، الفلسطينيون أنفسهم منقسمون. حتى ولو كنت أنا من أنصار حل دولة واحدة، فليس لدي نية في تطوير أو شرح مجادلتي لصالح هذا الخيار، سأكتفي فقط بعرضه بشكل مختصر كي أعطي القارئ صورة عن التقديم الذي يستخدمه تشومسكي. لأن رجحان الخطاب الصهيوني هو ما هو عليه الآن، فلا المشكلة الأولى ولا الثانية [مشكلة المهجّرين أو تلك المتعلقة بإقامة دولة واحدة بقوميتين أو دولتين بقوميتين منفصلتين] لهما المقدور على تعبئة عدد معبّر من الأمريكيين لمساندة خطابهم، هذا إذا ما تركنا جانباً هؤلاء الذين لهم مصلحة خاصة في إمكانية الاتيان بحل للمشكلة الأولى أو الثانية.

بالمقابل، هناك سؤالان لهما تلك المقدرة على التعبئة، و متصلان بشكل كبير فيما بينهما:

١) ضرورة إغلاق الصنبور الذي يغدق على إسرائيل سيلا مستمرا من الدولارات القادمة من دافعي الضرائب الأميركيين. عند رؤية الاقتطاع الصارم في الميزانية وتأثيره على الصحة، وعلى التعليم وعلى التقاعد، في مجمل أصقاع الولايات المتحدة، فهناك جمهور مهيئ ومتحسس لضرورة وضع حدّ لهذه المساعدة، التي تجاوزت مؤخرا ١٠٠ مليار دولارا. هذه التدابير يجب أن تنطوي على إيقاف توظيف الأموال في إسرائيل، حكومية كانت أم خاصة، في الشركات الإسرائيلية أو في الشركات الأميركية المستثمرة على أراضي إسرائيل (وهذا ما بوشر به فعلاً منذ مدة، على نطاق ضيّق بالتأكيد).

بشكل آخر يمكننا القول : المطلوب هو فرض تلك العقوبات المشهورة، التي يستهجنها تشومسكي إلى حد كبير:

٢) فضح ومعارضة سيطرة اللوبي الموالي لإسرائيل على البرلمان، كذلك سيطرته على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث يقرّ كل المراقبين السياسييين في واشنطن وفي مناطق أخرى من العالم بأن الأمر بيان موضوعية. عفوا: بالتأكيد «جميع المراقبين» باستثناء تشومسكي!

بالمناسبة، ينوه تشومسكي لا أكثر، بأن أغلبية الأميركيين متحفظين فيما يخص المساعدة العسكرية السخية التي تقدمها بلادهم لإسرائيل. تركيز تشومسكي على الطيارين الإسرائيليين في قيادتهما للهيليوكوبتر -بالتأكيد، ولكنه هيليوكوبتر «أميركي»-، بالإضافة إلى نفيه لبأس التفجيرات التي قد تسببها مسألة المساعدات واللوبي في هوامش خطاباته السياسية، عنصر جوهري لأفكاره، وهي تضعضع أسس تحليله، الذي بناءاً عليه:

١) إسرائيل، قبل كل شيء، تابعة للولايات المتحدة، ولا يمكن لواشنطن أن تتضافر مع هذه الدولة إلا على أساس «الخدمات» التي تقدمها، وعلى طبيعتها كـ «ورقة استراتيجية» و«شرطي يطوف في دورية» لمصلحة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفي أماكن أخرى من العالم.

٢) سلوك الولايات المتحدة «الرافض»، الذي تبنتْه الحكومات الأميركية المتعاقبة، والتي تعارض إنشاء دولة فلسطينية، يمكن أن يكون العائق الأساسي الذي يعرقل تنفيذ «حلّ بدولتين». فضلاً عن ذلك،فإن تشومسكي يريدنا أن نعتقد بأن السياسة الأميركية، ناهيك عن المظهر الاتفاقي للنقيض، تدعم «الضم التدريجي للأراضي المحتلة إلى إسرائيل» :

٣) أخيراً، تأثير اللوبي الموالي لإسرائيل «مبالغ» فيه من قِبَل متعقبيه، وهو بالأحرى عنصر يعمل أحياناً على ترجيح كف الميزان إلى تلك الجهة أو إلى الأخرى، أكثر من كونه عاملا حاسما ومستقلا كلياً عن الملابسة... إضافة إلى ذلك، هذا يفتح نقاشا حول إمكانية تنفيذ ضغط ايديولوجي لإيجاد ترجمة واقعية -قياسا بالسلطة الحقيقة .

الأدلة المغالطة للنقاط الثلاثة السابقة لا تحصى، أوردها جامعيون محققون اختصاصيون في الموضوع. أدلّة عكسية يعرفها تشومسكي بالتأكيد (ويذكرها في أمكنة أخرى عندما يخدمه الأمر...) غير أنه يختار إهمال ذِكرها متعمدا. في حدود هذا المقال لن أنوّه إلا عن بعضها :

نظرية «الورقة الاستراتيجية» الغامضة

حجة تشومسكي التي برر على أساسها مساندة الأميركيين لإسرائيل بحكم كونها «ورقة استراتيجية» خاصة بهذا البلد، عمل على توضيحها بنفسه في عمله «المثلث المهلك» عام ١٩٨٣، والذي يرجع إليه في مقابلاته الصحافية و في مقالاته، إلى أن توقف الاتحاد السوفياتي عن تشكيل خطرٍ، مما فرض عليه إيجاد تسويفات جديدة.

منذ نهاية عام ١٩٥٠، بدأت حكومةالولايات المتحدة دعمها المتزايد للأطروحة القائلة بأن إسرائيل قوية يمكنها أن تشكّل «ورقة استراتيجية» لها، وذلك باستخدامها متراسا في وجه المخاطر التي تمكّن الحركات القومية العربية المتطرفة من الحصول على دعم من الاتحاد السوفياتي.

كان الأجدر بـ «الأدلّة» الهزيلة التي تذرّع بها تشومسكي لدعم (فرضية) بحثه، أن تثير التعجّب منذ زمن بعيد... عنصر لا يكفّ عن التذرّع به، إنه مذكّرة المجلس الوطني للأمن، لعام ١٩٥٨، والذي يعتبره تشومسكي «يلخّص لازمة منطقية لمعارضت(نا) للقومية العربية المتصاعدة» وهي ترتكز على «دعم إسرائيل، كقوة وحيدة قريبة من الغرب، التي يمكنها الاستمرار في الشرق الأوسط». [٩] نقطة بهذا القدر من الأهمية تعطينا الحق أن ننتظر منه إخراج شيء أكثر حداثة... والحالة هذه، في نفس عام ١٩٥٨، وكردّ على التمرد الظافر ضد البريطانيين في العراق، وعلى الإخلال بالنظام العام من قِبَل القوميين في لبنان، أرسل أيزنهاور البحرية إلى هذين البلدين بغية الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة المزعوم أنها مهددة على ما يبدو، ولم يؤخذ بعين الاعتبار الالتجاء إلى القوات الإسرائيلية.

أما «الخدمات» الوحيدة التي قدمتها إسرائيل، والتي نوه بها تشومسكي، كانت هزيمة مصر عام ١٩٦٧، هزيمة مبررة بشكل بديهي بالمصالح الخاصة لإسرائيل، وكذلك بالدور المتوقع أنها لعبته بغية صرف الحكومة السورية عن المجيء لتقديم المساعدة للفلسطينيين الذين يجابهون مجازر ملك الأردن في أيلول ١٩٧٠. هذا كل شيء!... في الحالة الأخيرة، لم تكن إسرائيل إطلاقاً بحاجة لأن تضع الولايات المتحدة جيشها على أهبة الاستعداد كي تتحدى الذي اعتُبر خطأً (ليس من قِبَل تشومسكي، لنكن عادلين...) محاولة م. ت. ف. للاستيلاء على السلطة في الأردن.

ما يجهله تشومسكي وهؤلاء الذين يرددون تحاليله كالببغاوات (وهذا ليس مستغرباً، لأنه لا يتحدث عن ذلك إطلاقاً !)، أن عوامل أخرى لعبت دورا في انحراف م. ت. ف. في الأردن، ومن بينها خصوصا النزاعات الداخلية، ورفض سلاح الطيران السوري -آنذاك تحت قيادة حافظ الأسد (الذي لم يكن بصفة شخصية صديقا مع م.ت.ف)- بموافقتة على تغطية جوية للمحافظة على التفوق الاستراتيجي الذي يتمتع به الجيش الأردني، والمؤلف بأغلبيته من البدو.

هنري كيسنجر هو الذي بالغ في الدور الذي لعبته إسرائيل لإيجاد مخرج من هذه المجابهة، كما بالغ بقدرتها «كورقة» أميركية في الحرب الباردة وهكذا -بتهكّم- وضع تشومسكي موقف كيسنجر في صميم المحراب وسما به إلى مستوى «الحدث» التاريخي!

عامل آخر في تبرير «الورقة التاريخية» مهمل بشكل عام، لفت إليه النظر كميل منصور :

«صراعات التأثير التي تجري في المحيط الجغرافي لإسرائيل، لها غالبا علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي نفسه (وفي الأزمة الأردنية، كانت كذلك بالتأكيد) : بالنسبة للأميركيين، كانت إسرائيل في وضعية مفارقة كي تمثل ورقة، وذلك بالقضاء على التهديدات التي تثقل كاهلها، والمصالح الأميركية في نفس الوقت - تهديد قد تكون إسرائيل مصدره بسبب حالة الحرب مع العرب.».

فيما بعد، عمل ستيفن هيلمان، وهو عضو سابق في لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية الأميركية، على تأكيد هذا الرأي، فكتب :

«الخدمة المفترض أن تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة -بإنشاء حاجز أمام الاختراق السوفياتي في الشرق الأوسط- خدمة باتت ضرورية منذ قيام دولة إسرائيل نفسها، غير أن غيابها كان سيدفع العرب إلى أن يكونوا أقل تجاوبا مع التأثير السوفياتي... صحيح أن إسرائيل تعطي الولايات المتحدة أنباء عسكرية ومعلومات ثمينة، ومن المعقول... أن تحتاج الولايات المتحدة إلى قواعد بحرية أو جوية على الأرض الإسرائيلية. هذه الأوراق، بحدّ ذاتها... لا تبدو كافية من أجل تبرير حقيقة أن الولايات المتحدة استهلكت منذ إنشاء إسرائيل عام ١٩٤٨ وإلى عام ١٩٨٠ حوالي ٣١ مليار دولارا كمساعدات عسكرية، وأكثر من ٥.٥ مليار دولارا كدعم اقتصادي، الذي يجعل من إسرائيل -إلى حد بعيد-المستفيد الأول من المساعدات الاقتصادية الخارجية الممنوحة من الولايات المتحدة».

تشومسكي كان على علم بأعمال تلمان، إذ سردها مرارا وتكرارا في كتابه «المثلث المهلك». لكن الاستشهاد التالي، وبغرابة، قام بتجاهله. مفضلا عليه تعليق السيناتور الأسبق هنري «سكوب» جاكسون، ديمقراطي من مقاطعة واشنطن، الذي أورده تشومسكي في الكتاب السالف الذكر، والذي استند إليه منذ ذلك الحين في جميع أعماله، في مقابلاته ومحاضراته حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. تبعا لجاكسون :

المهمة التي أسندت إلى إسرائيل تعتمد على «كبت واستيعاب العناصر غير المسؤولة والمتطرفة في بعض الدول العربية... التي إذا ما تركت حرة التصرّف على مزاجها، كانت ستُشكّل تهديدا خطيرا على منابع تمويننا الرئيسية للبترول في الخليج الفارسي» كان بذلك يوحي إلى «التحالف الضمني بين إسرائيل وإيران (في زمن الشاه) والعربية السعودية»، مع أنه لا يوجد أي دليل على أن أية دولة من هذه الدول الثلاثة لعبت دوراً مشابها لهذا الدور. إدارة بوش الأولى اعتبرت أن منابع بترول هذه المنطقة كانت مهددة باجتياح الكويت من قِبَل العراق عام ١٩٩١، فتصرّفت وحدها، وعملت ما بوسعها كي تقنع إسرائيل بالعدول عن المشاركة في العمليات. ولكن هذا لم يردع تشومسكي من الاستمرار في سرد قصة للأطفال لا تتغير...

إن السبب الذي دفع تشومسكي للاقتناع بأنه يجب علينا نحن أيضاً أن نؤمن برأي جاكسون، ذكره في كتابه (المثلث المهلك صفحة ٣٥٣) فهو «الخبير الأكثر شهرة، في مجلس الشيوخ الأميركي، وما له علاقة بموضوع النفط»، واصفا إياه بـ «خبير مجلس الشيوخ في شؤون الشرق الأوسط والبترول» في كتابه (نحو حرب باردة جديدة صفحة ٣١٥)، و أنه «المتخصص الأكثر شهرة في مجلس الشيوخ بما له علاقة في الشرق الأوسط وبقضايا النفط» (في الانتفاضة الجديدة وكذلك في الشرق الأوسط الوهم ص ١٧٩)، وأنه «الاختصاصي الرفيع الشأن بمواضيع النفط» في كتابه (إحباط الديمقراطية صفحة ٥٥)، وأنه «الاختصاصي الأكثر شهرة في مجلس الشيوخ بمواضيع الشرق الأوسط والبترول» (في قراصنة وامبراطوريين صفحة ١٦٥)، وأخيراً أنه «شخصية نافذة الكلمة لها علاقة بالشرق الأوسط» (في السطوة أو البقاء صفحة ١٦٥).

إذا أكّدت على الوصف الإطرائي الذي أطلقه تشومسكي على جاكسون، فذلك لأنه حقا وصف مميز، في طبيعته المغالطة. وللدقة، الشيء الوحيد الذي كان يسمح لجاكسون أن يكون خبيرا في قضايا البترول، هو أنه قاد تحقيقا حول ممارسات شركات البترول في الولايات المتحدة، في زمن كان فيه رئيس اللجنة الداخلية (=لجنة البيئة) في مجلس الشيوخ.

إذا تركنا جانباً أنه كان معروفاً كـ «سيناتور معيّن من بوينغ» وهو اعتراف شكر للاتفاقات المبرمة التي استطاع الحصول عليها لشركة بوينغ، حين كان يترأس اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ، فإن إرث جاكسون الرئيسي هو مشاركته في صياغة تعديل جاكسون-فانيك الذي حدد نجاح المباحثات بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة (بغية وضع حدّ للحرب الباردة) وفتح الاتحاد السوفياتي أبوابه لهجرة اليهود. وهذا ما جعله مدلل اللوبي الموالي لإسرائيل واليهود الأميركيين، والتي ضمنت له ٥٢٣٧٧٨ دولارا (أي ما يعادل ٢٤.٩٪) كضريبة في الحملات الانتخابية، لمدة خمسة أعوام. صقر مفترس معارض بحدّة لأية هدنة، ومناصر باسل ومتحزب مؤيد للحرب الباردة، كان «عملياً آخر الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الذين ساندوا... الحرب [في فيتنام]». وقد احتُفل به مؤخراً في الكونغرس كراعٍ للمحافظين الجدد، الذين أعطوا ريتشارد بيرل إشارة الإنطلاق إلى ميدان الجحيم.

بفضل مساندة إسرائيل ومجموعة التصنيع العسكري للولايات المتحدة معاً، لم تنقضِ جهود جاكسون بشكل خفي أمام JINSA (المعهد اليهودي للشؤون الأمنية)، المحرض الرئيسي للاندماج بين صناعات التسليح الأميركية والإسرائيلية منذ عام ١٩٧٦. وهو أيضاً عنصر أساسي من عناصر اللوبي الإسرائيلي، الذي لم يُقدِم تشومسكي على ذكره مطلقا. عام ١٩٨٢، أنشأ هذا المعهد جائزة تسمى جائزة هنري م. «سكوب» [جائزة «لخدمات مُقَدَمة»]، و كان جاكسون أول من حصل عليها، أما آخرهم فليس سوى محسوبه ريتشارد بيرل.

لو أن تشومسكي أشار إلى توجهات الصقر الموالي لإسرائيل جاكسون، لكان أثار ذلك، حتماً، تساؤلات حول مصداقية هذا السيناتور، هذا إذا لم تُحجب عنه الثقة بالكامل...

إذا وضعنا جانباً حفنة صغيرة من المعجبين المخلصين الذين صمموا على إثارة صدى لأقواله، فإن رؤية تشومسكي للعلاقات الأميركية/الإسرائيلية ليس لها الشهرة والنجاح نفسه مقارنة بـزملائه الجامعيين، بما فيهم أولئك الذين يقاسمونه رؤيته للعالم. أشار البروفسور يان لوستيك إلى نظرية تشومسكي مع مراعاته عدم ذكر اسمه خلال مقابلة صحافية أجراها معه الصحافي شبلي تلومي عام ٢٠٠١ :

«إن الولايات المتحدة قوية بما يكفي، وغنية ما يكفي كي تعالج أزمة بالغة عندما تحدث، مثل اجتياح العراق للكويت، والتي كانت من الأزمات الجدية الخارقة. ولكن السؤال الأكبر والمتعلق بدوافع الولايات المتحدة، على الصعيد الداخلي،فهو مرتبط بأسباب الالتزام الأميركي لصالح إسرائيل. هذا هو السؤال الهام بصراحة. ولديكم بهذا الشأن توضيحات متعددة تتنافس إحداها مع الأخرى. لفترة طويلة، كان هناك رأي يدّعي بأن الإلتزام الأميركي لصالح إسرائيل هو لازمة للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وبشكل أساسي أن الولايات المتحدة ترى في إسرائيل أداة لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وأداة تساعدها على لجم الاتحاد السوفياتي، أثناء الحرب الباردة، وضمانا لانتظام تموينها بالنفط، وللحد من الإرهاب، إلخ...»

فيما يخص هذا الموضوع، فالواقع أن هذه النظرية لا يمكن اعتمادها، ذلك لأن إسرائيل كانت في بعض الأحيان مجدية استراتيجيا (للولايات المتحدة)، إلا أنها في أحيان أخرى لم تكن مهمة للغاية ذاتها. ولكن مما لا شك فيه،أن هناك شيء أكثر أهمية أيضاً : خلال معظم فترة الحرب الباردة، لم يكن البيروقواطيون -بيروقراطيات التنفيذي، والدفاع، والشؤون الخارجية...- يعتبرون إسرائيل ورقة استراتيجية، بل كان بعضهم ينظر إليها على أنها عائق. كما نرى، هذه الحجة لا تخدم الغرض...

سواء تمت الدلالة أم لا على أن الولايات المتحدة، خلال الحرب الباردة، استطاعت أن تنظر إلى إسرائيل كحليف مقنع ضد أنظمة مدعومة من الاتحاد السوفييتي في بعض الدول العربية، فإن هذه الحجة اختفت بشكل سريع كاختفاء الاتحاد السوفييتي نفسه. عندما ذهب عفيف صفية، مبعوث فلسطين في المملكة البريطانية، ولدى القداسة البابابوية، إلى الولايات المتحدة، بعد سقوط الاتحاد السوفيات فورا ، كان متفاجئا بملاحظة:

«أنه في دائرة الموالين لإسرائيل... كان الشغل الشاغل المهيمن يخصّ خسارة «عدو»، مع ما يمكن لهذا أن يحمله من «سبب وجود» ولفائدة إسرائيل في السياسة الخارجية الأميركية، كونها قلعة استراتيجية موجهة للعمل على الحد من التوسع السوفياتي. في هذه الفترة تحديدا، بوشر ببناء إيديولوجية تهديد عالمي بديلة متمثلة في -الخطر الإسلامي- ».

انهيار الاتحاد السوفياتي لم يجبر فقط اللوبي الإسرائيلي، بل وتشومسكي أيضا، على البحث عن سبب آخر لتبرير استمرار مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل، وذلك لتخليد العلاقة الأميركية/الإسرائيلية المتميزة.

وجد تشومسكي السبب في تصريح شلومو غازيت، وهو أحد القادة السابقين في الاستخبارات الإسرائيلية. مبرراً الحرب الباردة التي ارتكز عليها تشومسكي حتى ذلك الوقت، فجأة. بدأ يجدها «مغالطة بشكل كبير» مفضلاً عليها «التحليل... الذي قدمه غازيت»، الذي كتب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي :

«إن مهمة إسرائيل الرئيسية لم تتغير على الإطلاق، وتبقى بالغة الأهمية. موقعها في مركز الشرق الأوسط العربي/الإسلامي، يجعل من قدرها أن تكون حارسا مخلصا للاستقرار في جميع البلاد المحيطة بها. دورها هو حماية الأنظمة القائمة، بمعنى أنها تستدرك أو توقف عمليات التطرف والحد من انتشار الحماس الديني المتطرف».

«ويمكننا أن نضيف إلى ذلك»، كتب تشومسكي في مقدمة طبعة جديدة من كتابه (المثلث القاتل): «أن إسرائيل تقوم بالعمل القذر الذي لا تريد الولايات المتحدة القيام به بنفسها مهما بلغ الثمن، وذلك بسبب المعارضة الشعبية ولعوائق أخرى».

كتب تشومسكي هذا وكأننا لا نزال في سنوات ١٩٧٠ أو ١٩٨٠، لا يوجد، على مايبدو، أية حدود «للعمل القذر» الذي يمكن للولايات المتحدة القيام به ذاتها في هذا الزمن الذي يعدو! يجب علينا بالطبع أن ننتظر من طرف غازيت إثارة حجّة مقنعة من أجل الحفاظ على مساعدة الولايات المتحدة لإسرائيل. لكن : الإستقرار ؟!؟ في انتظار بدائل أخرى، وجود إسرائيل في المنطقة كان باستمرار عامل توتر ولمرتين على التوالي، المرة الأولى عام ١٩٦٧ ومرة أخرى عام ١٩٧٣ - وصل التوتر إلى حد إشعال حرب نووية (وسببت حظرا نفطيا عربيا بنتائجه الاقتصادية الباهظة جدا). في الأيام الأولى لبدايات حرب تشرين الأول، عندما تبين أن الجيش الإسرائيلي معرّض للخطر ، اضطرب وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان، كما قيل، ولوّح بتهديد استعمال السلاح النووي الإسرائيلي ضد مصر إذا لم تَضَع الولايات المتحدة على الفور جسرا جويا لإمدادها بأسلحة نظامية. استجابت إدارة نيكسون بسرعة إلى هذا الطلب [ستيفن غرين، Living by the Sword : Israel and the US in the Middle East, Amana, Brattleboro, VT, 1988, p.91 Seymour Hersh, The Sampson Option, pp. 225ff, Avner Cohen, New York Times, Oct. 6, 2003.]]

كما عمل كميل منصور على لفت الانتباه إلى أنه «عندما طلبت الحكومة الإسرائيلية الأسلحة من واشنطن بهذه الطريقة المستعجلة، لم تكن إسرائيل تتصرف أبداً على أنها ورقة استراتيجية في يد الولايات المتحدة، بل بالأحرى كمحمية تخشى -وبشكل مبالغ فيه دون أي شك- على حياتها».

من المناسب التنويه إلى أنه توجّب انتظار عام ١٩٧٨ -أي دخول مناحيم بيغن إلى السلطة (بعد انتخابه رئيسا للوزراء) قبل أن نرى إسرائيل تبيع نفسها كـ «ورقة في يد الولايات المتحدة». في مقابلة نُشرت في عدد كانون الثاني ١٩٩١ في (جريدة دراسات فلسطينية)، قال ماتي بيليد الجنرال الإسرائيلي المتقاعدة (المتوفي الآن): «الحجة التي تقول بأن إسرائيل قد تكون ورقة استراتيجية للولايات المتحدة، والتي تستخدمها أميركا كحاملة طائرات استراتيجية، لم تكن في أي يوم من الأيام سوى نتاج خيال إسرائيلي. تم طرح هذه الفكرة للمرة الأولى من قبل رئيس الوزراء بيغن كي يبرر القروض الضخمة الموافَق عليها لإسرائيل التي تسمح لها بشراء أنظمة تسلّح أميركية... وقد أثبتت أزمة الكويت أن هذه الحجة لم تكن أبداً مقنعة...» «عقود الأسلحة كانت مفيدة للولايات المتحدة» لخّص قائلا، و«هكذا كانوا مصدر بيع أسلحة أكثر أهمية إلى الدول العربية حلفاء الولايات المتحدة.»

عام ١٩٨٦، كذلك الطبعات الأربع المتتابعة (حتى عام ٢٠٠٣) لكتاب تشومسكي الشعبي :«قراصنة وامبراطوريون»، حوى نظرية مبدؤها «ورقة استراتيجية» بدت كلاعب كمال أجسام منفوخ بالمنشطات... فكتب في أحد مراجعه الخمسة عن إسرائيل التي تقدّم هذا النوع من الخدمات :

«سعت الولايات المتحدة باستمرار إلى الحفاظ على الصراع العسكري وإلى ضمان بقاء إسرائيل «ورقة استراتيجية» بين أيديها. من وجهة النظر هذه، يجب أن تبقى إسرائيل متفوقة عسكرياً، متقدمة تقنياً، وأن تبقي دولة منبوذة، بعيدة عن الاستقلال الاقتصادي، إذا ما تركنا جانبا إنتاجها للتقنيات العالية (غالباً بتنسيق مع الولايات المتحدة)، وتابعة لها، مؤمّنة لاحتياجاتها، على غرار «شرطي في الخدمة» لدولة مرتزقة، تستخدمها لغايات أميركية أخرى، في مناطق مختلفة من العالم.»

لا يمكن لتشومسكي أن يكون مخطئا أكثر من هذا. بفضل مساندة الولايات المتحدة السياسية، أصبحت إسرائيل ببساطة «بلداً منبوذاً»؟ لكن إسرائيل في وسط الاتحاد الأوروبي تتمتع بشراكة متميّزة، فهي أول شريك اقتصادي، وصناعتها للأسلحة، على الرغم من انصهارها المطّردة مع نظيرها الأميركي، تعتبر أحد أهمها في العالم، بل وتنافس صناعة الولايات المتحدة في الأسواق العالمية. كما أن إسرائيل هي أحد المراكز الكبرى لصناعات التكنولوجية المتطورة الأميركية. إسرائيل، كما نرى، بعيدة إذا من أن تكون رهينة لمطالب الولايات المتحدة، حتى ولو كان تشومسكي يحاول فرض هذا التصنيف بوضوح بالغ. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الجيش ومصنّعوا الأسلحة الإسرائيلية خدموا حقاً مصالح الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا، منذ أعوام ١٩٦٠ وحتى بداية ١٩٨٠، فإنهم قاموا بذلك كله، أولا وقبل كل شيء، لخدمة مصالحهم الخاصة، وتبيّن لاحقا أن المكاسب كانت متبادلة.

إن استفادة الولايات المتحدة المزعومة من إسرائيل تم نفيها، من طرف وجهات نظر أخرى. فهارولد براون الذي شغل منصب سكرتير دفاع في فترة جيمي كارتر ارتأى مع نظيره الإسرائيلي أن يقوم البلدان بالتخطيط معا لاستهداف الاتحاد السوفييتي، في حالة حدوث الحرب، قال براون آنذاك لـسيمور هيرش بأن إدارة كارتر:

«لا تتمنى التورط في صراع إسرائيلي سوفياتي. ويبدو لي أن الفكرة القائلة بأن إسرائيل تمثل ورقة استراتيجية هي فكرة هوجاء تماماً. قد يقول الإسرائيليون : «دعونا نساعدكم»، وبعدها ستجدون أنفسكم وقد تحولتم إلى أداة في أيديهم. للإسرائيليين أولوياتهم الأمنية الخاصة، كما لنا نحن أولوياتنا الأمنية. إنهما مختلفتين».

تحدى البروفسور شيريل روبنبرغ طريقة تفكير تشومسكي، من زاوية مختلفة:

«الضغوط التي تثقل الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، بسبب العلاقة (الخاصة) الأميركية/الإسرائيلية أرهقت إمكانية واشنطن على كسب علاقات عملية ثابتة وبناءة مع الدول العربية، (مع أنها) شرط مسبق لتطبيق كامل وشامل للمصالح الأميركية في المنطقة... حتى الأنظمة العربية التي حافظت على علاقات حميمة مع واشنطن، بالرغم من الانصهار (المتكامل) بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كانت مضطرّة إلى عدم الكشف عن تلك العلاقات بشكل واضح، خوفا من إثارة المعارضة الداخلية في تلك الدول، والتي يمكنها أن تحدث نحو الاقتصاد الأميركي...». سواء من وجهة نظر الشركات الضخمة أم وجهة نظر التجارة الخارجية، فإن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط مُثقلَة بعوامل أخرى... وكي لا نذكر إلا عاملا واحدا من بينها : بسبب الضغط الذي تمارسه المنظمات الموالية لإسرائيل على الكونغرس، تم تبني مجموعة من القوانين المضادة لحملات المقاطعة مع إسرائيل، والتي تحدّ -بقسوة من «الصفقات» الأميركية مع العالم العربي. والنتيجة، تخضع الشركات الأميركية الضخمة والاقتصاد الأميركي لخسائر تقدّر بمليار دولار سنويا.

استُخدم تشريع قانون ضد المقاطعة بنجاح لملاحقة الشركات الأميركية قضائيا عبر السنين، وهو مستدعى اليوم من أعضاء من الكونغرس الموالين لإسرائيل، بغية قتل أية محاولة لمناضلين أميركيين لتفعيل حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية في مهدها. هل يجب أن أحدد أي معسكر اختار تشومسكي في هذا الجدل ؟

بالإضافة إلى ذلك، طرح ربنبرغ السؤال التالي، لافتاً الإنتباه إلى ظاهرة تثار كثيراً من قبل كتّاب آخرين : «كيف يمكن اعتبار إسرائيل، التي نذرت نفسها لترأس سياسات تضمن سلفاً إدامة حالة عدم الاستقرار في المنطقة (في الشرق الأوسط) «ورقة لمصالح الولايات التحدة؟».

أما بالنسبة لمرحلة ما بعد السوفياتية، كان باستطاعة تشومسكي الإلحاح على طلب دعم دوغلاس فيت، الركن الأساسي للمحافظين الجدد لتصوير قضيته. في الواقع، توجهات نائب وزير الدفاع المنشورة في مجلة قانونية (دورية هارفرد للقانون) في ربيع عام ٢٠٠٤، مع اختلافات طفيفة، يمكن اعتبارها مكتوبة بيد تشومسكي نفسه :

«لأسباب متعددة، تظل إسرائيل استراتيجيا متعلقة بأساس القضية، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي... إن جغرافية هذه الدولة ضمان لاستمرار أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، حتى مع غياب التواجد السوفياتي. (في الواقع) يبقى الشرق الأوسط مهما للولايات المتحدة لأنه أول نبع لاستيراد النفط الأميركي...

كانت إسرائيل حليف مخلص للولايات المتحدة، وبفضل سطوتها ظلّت إسرائيل تمثل قوّة استقرار في منطقة متطايرة. مع أن وجود إسرائيل نفسها كان سبباً في إشعال العديد من الصراعات في الشرق الأوسط، بنظر الحكومة الأميركية، تدمير إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، أمر لا يمكن تصوره استراتيجيا. عاملة على قاعدة مبدأ أن إسرائيل هنا كي تبقى، ويجب أن تدوم، والمساعدة الأميركية لهذا البلد جلبت إلى الولايات المتحدة أرباحاً استراتيجية ضخمة. هذه المساعدة [الأميركية] خلقت خللا في موازين القوى لصالح إسرائيل، كما أنها ردعت العديد من الاعتداءات العسكرية العربية وعلى تجنب مواقف -مثل: حرب شاملة بين إسرائيل وجيرانها- كانت الولايات المتحدة، بدون شك، ستُجبر خلالها على نشر قواتها في الشرق الأوسط...»

إن الفقرة الأخيرة السابقة هامة جدا، ألا تبادلونني هذا الرأي؟ إن فيث لم يزاود فقط على مقترحات هيلمان، ومنصور وروتنبرغ الذين ذكرناهم أعلاه، والذين قالوا أن وجود إسرائيل (نفسها) هو المصدر (الرئيسي) لعدم استقرار المنطقة (في الشرق الأوسط)، بل يعرض فكرة أنه تم مكافأة إسرائيل لأنها تجنبت الحرب لمرات عديدة، كان وجودها قد لا يستطيع تفادي إثارته! إذا لم يكن هذا هو النشاز بعينه فماذا يمكنه أن يكون ؟!؟

النظرية «الرافضية»

«في العالم الحقيقي»، كتب تشومسكي، «العائق الأول أمام «رؤية تنبثق» [للعلم: العرض المُقدّم من جامعة الدول العربية لسلام شامل والاعتراف بإسرائيل مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي «الفلسطينية» المحتلة] كان وسيبقى رفضا انفراديا من قبل الولايات المتحدة».[بهذا التعبير، سعى تشومسكي للدلالة على أن الولايات المتحدة «ترفض» من الأساس فكرة إنشاء دولة فلسطينية].

يريدنا تشومسكي أن نصدّق بأن الولايات المتحدة (وليست إسرائيل) هي العائق الأول لإيجاد حل سلمي (في تعذّر إيجاد حل عادل) للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إنه يُغفل في جميع كتاباته المتزايدة شرح كيف يمكن لهذا الحل أن يكون مترابطا سلبيا (ومزعجا) مع نفوذ أميركا في الشرق الأوسط أكثر مما يمكنه أن يعززها، بما أن الدولة الفلسطينية المقترحة، [كما يقر تشومسكي غالباً بذلك) ستكون ضعيفة جداً وتابعة إلى حد بعيد لإسرائيل وللولايات المتحدة وللدول العربية الأخرى، من أجل بقاءها اقتصاديا على قيد الحياة؟

إن تكرار هذا المنطق الجديد دائماً وأبداً (أحياناً لمرات عديدة في الصفحة ذاتها)، نجح تشومسكي في الحصول على نتيجة تقول بأن صفة «الرافض» تلتصق بالولايات المتحدة لدرجة لم يعد بالإمكان التخلص منها. لكن في الحقيقة، الشيء الوحيد الذي تمكن من التوصل إليه هو إنشاء تعريفه الخاص (الشخصي جدا) لهذا اللفظ، الذي أصبح يمثل «فزّاعة» إضافية، يستطيع تشومسكي الإخراج من جوفها، بقبضة يده، حشوتها، يقدمها لنا لإيهامنا على أنها الحقيقة... هذه العملية تطلبت تلاعب ماهر منه وجهل لا يغتفر لمعلومات تاريخية سهلة المنال، المتمثلة في أن كل رؤساء الولايات المتحدة، منذ ريتشارد نيكسون، حاولوا (عبثاً) الحصول على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧. وكما نعلم، اليوم وبعد سلسلة الفشل هذه، تضاءلت جهود البيت الأبيض بهذا الصدد لدرجة التحدث عنه بالقطارة (نقطة نقطة).

«خطط السلام» الأميركية هذه (بما أنه إسم عمادتها) لم يتم وضعها عمليا لصالح الفلسطينيين، بل بغية نزع السلاح في المنطقة، لفائدة المصالح الأميركية، سواء في المنطقة أو في العالم المتأثر سلبا من استمرار الاحتلال الإسرائيلي، كما رسمناه في الأعلى. ومن مزايا هذه «الخطط» سيجد الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية أنفسهم على الأغلب مرة جديدة تحت سيادة أردنية، والفلسطينيون المقيمون في قطاع غزة تحت سيادة مصرية. إذا وضعنا «كامب دافيد» جانباً، والذي خرجت منه إسرائيل كرابح كبير، كل تلك الخطط كان مصيرها الفشل:

«لكن إلى ما آلت إليه كل هذه الخطط العاقلة ؟» تساءل الصحافي وداعي السلام الإسرائيلي يوري أفنيري، قبل أن يجيب بنفسه على تساؤله: «الحكومات الإسرائيلية (المتعاقبة) عملت على تعبئة السلطة الجماعية لليهود الأميركيين -الذين يسيطرون على الكونغرس وعلى الإعلام في الولايات المتحدة على نطاق واسع- ضدها. في مواجهة معارضة شديدة كهذه، جميع الرؤساء -دون استثناء: الرؤساء الكبار والرؤساء البائسين، أكانوا لاعبي كرة قدم أو نجوم أفلام رعاة البقر- تراجعوا الواحد تلو الآخر.» [٢٩]

أصل هذا الموصوف -«رافضي»- يستحق التوضيح. استخلصه تشومسكي من الذي كان أنصار إسرائيل يعتبرونه في سنوات ١٩٧٠ -بما فيهم تشومسكي نفسه- بـ «جبهة الرفض» الفلسطينية. إنه المصطلح الذي استُخدم لتمييز منظمات المقاومة الفلسطينية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومجموعات فلسطينية أخرى أقل عددا، من الذين رفضوا وجود إسرائيل كدولة يهودية رافعين شعار إقامة دولة ديمقراطية علمانية على كامل أرض فلسطين التاريخية. نحن نعلم، هذا موقف كان تشومسكي ولا يزال معارضا له من الأصل.

عام ١٩٧٥، كان تشومسكي يعتبر أن إمكانية إقامة «دولة ديمقراطية موحدة وعلمانية على أرض فلسطين المنتدبة... كان تدريباً لأسلوب عقيم. من المستغرب أن يكون المُدافع عن هذا الهدف، بشكل أو بآخر، أكثر الخصوم تطرفا: من (م. ت. ف.) ومن العناصر التوسعية الإسرائيلية. لكن ملفات الأولى (م. ت. ف.) تدل أن الذي كانت منظمة التحرير تفكر به هي دولة عربية تضمن لليهود حقوقهم المدنية، في حين أن تصريحات أنصار إسرائيل الكبرى لا تترك إلا قليلا من الشك عن حقيقة أن أفكارهم تستعير من طريق موازٍ لمنظمة التحرير : إذ يكفي استبدال «يهود» بـ «عرب». [٣٠]

في الواقع أن معركة الفلسطينيين لم تصبح شرعية في عيون تشومسكي إلا بعد أن رضي هؤلاء بالمطالب الأميركية/ الإسرائيلية، بعد اعتراف (م. ت. ف.) بشرعية إسرائيل داخل حدود عام ١٩٦٧. إن تشبيهه رغبة الفلسطينون باستعادة وطنهم السليب، ببرنامج المستعمرين الإسرائيليين الأكثر تطرفا، تقول لنا الكثير أيضاً. جواب آخر على اللغز جاء ليعطينا الجواب. بالفعل، عام ١٩٧٤ كان واضحاً إلى أقصى حد :

«الأحزاب الفلسطينية التي اشتدت في السنوات الأخيرة، بدأت تحتجّ من حقيقة أنه بالإمكان تصحيح هذا الظلم بفضل خلق دولة علمانية وديمقراطية على كامل أرض فلسطين. مع ذلك ، هم يقرّون بصراحة -نتيجة للواقع، بل إنهم يصرّون-، في أن ذلك يتطلب التخلص من «المؤسسات السياسية العسكرية والاجتماعية والنقابية والثقافية» الإسرائيلية، وهذا يستلزم نضالا مسلحا، الذي سيؤدي إلى نتائج... توحيد جميع عناصر المجتمع الإسرائيلي، لمجابهة المعارك المسلحة التي تستهدف مؤسساته.

حتى ولو، خلافا لحقيقة الوقائع، يمكن للوسائل المقترحة النجاح -أكرر وأشدد- «حتى ولو خلافا لحقيقة الوقائع» -هذه الوسائل تستلزم التدمير بالقوة لمجتمع موحد، لشعبه ومؤسساته- الذي ـ له نتيجة لا يمكن للرأي المتحضّر التغاضي عنها، سواء كان أو لم يكن من اليسار.»

على ما يبدو, فإن الـ «الرأي المتحضّر» عند تشومسكي يستبعد مجمل العالم العربي والجزء الأكبر من العالم الثالث، الذي مثّل عددا كافيا من العالم الذي دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٧٥ إلى نعت الصهيونية بسِمة العنصرية بأغلبية ساحقة. إن «الرأي المتحضّر» الذي يتحدث عنه لم يرَ في طرد الفلسطينيين وبإقامة إسرائيل دولة يهودية «نتيجة لا يمكن التغاضي عنها» ...

ولكنه، بمجهود يهدف إظهاره كرجل عادل، ها هو تشومسكي يُنشىء معادلة بين رفض دولة فلسطينية مع رفض دولة إسرائيلية يهودية، ويعلن الولايات المتحدة «رافضية»، معتمدا على وقيعة أنها لم تؤيد إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وفي غزة. وهذا يسمح له بإهمال هدف الولايات المتحدة المتمثل: في الحصول على إنسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل عام ١٩٦٧، بشكل يمكّن علاقات الولايات المتحدة أن تتحسن مع منطقة الشرق الأوسط لدعم استقرار تموينها بالنفط.

لم يجعل تشومسكي من الولايات المتحدة «رافضية» فقط: بل أيضا يصنّف القرار ٢٤٢ في نفس الخانة. مع الاعتراف بأن هذا القرار، الذي تم تبنيه خمسة أشهر بعد حرب ١٩٦٧، سعى إلى إعادة الوضع الذي كان سائدا سابقا، «من المهم الاحتفاظ في الذاكرة بأن ٢٤٢ هو قرار رافضي بإحكام -أنا أستخدم هنا المصطلح في استثنائية دلالته المحايدة، كي أنوه إلى رفض الحقوق الوطنية للأول والثاني للجماعات المعارضة في فلسطين القديمة، وليس إلى رفض حقوق اليهود فقط ،الذي يُعتبر استخداماً عنصرياً اصطلاحيا».

إن استعانة تشومسكي هنا بمصطلح «عنصري» يعتبر استفزازا بشكل خاص، يعمل على تزييف حقيقة أن، من وجهة نظر الفلسطينيين، تشومسكي كان رفضويا. في بدايات عام ١٩٧٠، لم تكن الحركة الوطنية الفلسطينية تطالب أبدا بإنشاء دولة منفصلة في الضفة الغربية وغزة. بل كانت تدعو فعلاً إلى العودة إلى الأراضي حيث طُرد ٧٥٠٠٠٠ فلسطيني منهم أو من الذين اضطرواإلى الفرار عشرين عاماً قبل ذلك. وهذا لم يحدث إلا بعد أن أسقطت م. ت. ف. مطالبتها بحقوقها الوطنية على كامل ما كان يُطلق عليه اسم فلسطين، لصالح كيان قزم إلى أبعد من الخط الأخضر (حدود ١٩٦٧) قبل أن تصبح الحقوق الوطنية للفلسطينيين -أو بالأحرى ما تبقى منها- «مشروعة» في عيون تشومسكي.

ترجمته خصيصا لشبكة فولتير: نائلة
جميع الحقوق محفوظة
2006 ©