نستطيع أن نكسر ملامح التجربة السابقة، لأن الانتخابات هي احتمالات مفتوحة مهما حاولنا أن نقدم لها تنظيرات خاصة، أو ربطها بالظروف السياسية، فالقدرة على اختراق هذه التجربة يمكن أن تتجاوز المألوف في حياة المجتمع، أو تصبح مروراً اعتيادياً يتكرر كل أربع سنوات. ولأن الانتخابات بذاتها (تجربة) بغض النظر عن النتائج المترتبة عليها فإنها أيضا تشدنا إلى (الذاكرة الانتخابية) التي عشناها قبل أربع سنوات، وتعرفنا فيها على (الصور) وربما الابتسامات التي توحي بأن القدرات الإقناعية للمرشح لا تتجاوز (المظهر اللائق) في كثير من الأحيان.

(الانتخابات) بذاتها تجربة تحمل خلط الأوراق لأن الجميع منخرط بها، وفي اللحظة التي تعلن فيها النتائج تتنحى بعض الأطراف ليظهر (الدور التشريعي) وحيداً أمام المستقبل الممتد أربع سنوات إضافية... وهو ما يجعل التجربة (الانتخابية) أغنى وربما أكثر تداخلاً من التعامل داخل مجلس الشعب.. فالمسألة هي طاقة سياسية يمكن أن تصبح مساحة من (الحراك)، وفي نفس الوقت يستطيع البعض تقليصها إلى حدود (الإعلان) الانتخابي الذي يحاول بمساحاته الملونة خلق (فوضى) داخل العين، محاولاً إنهاء قدرتها على التمييز بين قوة اللون أو طبيعة الشعار الذي يظهر وكأنه تائه ما بين صور المرشحين.
وربما يبدو القلق في أن الانتخابات تبدأ مع عملية الترشيح، وكأنها نقطة إجرائية علينا أن نمر بها كبداية لـ(التاريخ الانتخابي)، فهي تعلن بداية الزمن بينما يحاول البعض أن يجعلها أيضاً نقطة لتشكل الذاكرة، فتسقط (سهواً) كل (التراكم) أو (التجارب) أو حتى (المعرفة) التي كونها المواطن عن (الدورات التشريعية). فعملية الترشيح يفهمها البعض انتقالاً في الزمن يحمل معه النسيان، أو ربما البراءة من الزمن الماضي، أو يقارب (زمن الترشيح) مع تراثه النفسي، معتقداً أن الصفحات البيضاء يمكن أن تفتح في أي وقت، وأن (غسل) الماضي جائز في أي زمن... وهذا الأمر الافتراضي لا يمكن أن يصبح قاعدة يتم فرضها مع كل موسم ترشيحات. فالذاكرة ربما لا تختزن الكثير عن الأشخاص إلا أنها تستطيع أن تستخدم كل ما دخل إليها وتربطه بالماضي القريب عندما كانت الحملات قبل أربع سنوات تنطلق وتتصاعد، ثم تتقدم الذاكرة نحو (الدور التشريعي السابق) فتحاول تذكر ملامحه.. وفي النهاية يصبح من المستحيل رسم (صفحة بيضاء) لأي مرشح يحاول الافتراض أن الزمن يبدأ منذ أن قرر خوض تنافس للوصول إلى مجلس الشعب...

ربما يعتقد البعض أن الاحتمالات الانتخابية تضيق، لكن هذا الأمر يرتبط أساسا بطاقة المجتمع على التعامل مع الاحتمالات.. فالحيادية قادرة على إنهاء التنافس الانتخابي.. وآلية عمل المرشحين ربما تختصر المسافات وتسعى لإسقاط الاحتمالات بشكل سريع.. وفي العملية الانتخابية يمكن أن نشهد توقعات تصبح يقيناً قبل إعلان النتائح، لكن المسألة بأكملها معلقة على الحركة التي يمكن أن يفرضها المواطن أو المجتمع أو مجموع المرشحين، وهذه المعادلة من الصعب رسمها بدقة دون النظر بجدية لـ(الانتخاب)، حتى ولو كانت طبيعة الاختيار صعبة أو ضيقة أو واسعة، فعندما نكسر الصورة النمطية لآلية الانتخاب التي اعتدنا عليها، وربما يمزق المرشحون كل الوسائل القديمة ويقررون الخروج بمعايير أو مقاييس لبرامجهم الانتخابية، عندها تصبح العملية الانتخابية بذاتها تحمل معنى التجربة...

ما نراه هو الشروط الدستورية فقط، وإذا كان القانون محدداً، فإن (شروط) المرشح والناخب تبقى المجال الخاص الذي يضم (التجربة الانتخابية). فهل نستطيع امتلاك الجرأة حتى نعيد السؤال الأول الذي سيكسر ملل تكرار الحملات الانتخابية السابقة؟ أو يكسر روتين التوجه إلى مراكز الاقتراع ونحن نحمل (معرفة) بدلاً من صور وأسماء...

الحلم الذي يتشكل اليوم على مساحة المرحلة الانتخابية الممتدة حتى 22 نيسان لا علاقة له بمواقف سياسية كما فعل البعض.. هو فقط تجاوز للمألوف الذي يسعى إلى اختراق الحاجز الذي يفرضه المرشحون على أنفسهم، أو الدوائر التي يرسمها الناخبون على خياراتهم.. والحلم يبدأ في (المعرفة) التي يمكن أن يقدمها المرشح ليس عن نفسه بل عن طبيعة العلاقة التي ستربطه بالناخبين، فيخلق مقياسا يمكننا مستقبلاً من البحث والاستقصاء حول ما قام به بعد أن أصبح في صلب الدور التشريعي..
والحلم أيضاً يرتسم في تجاوز مراحل الانتظار وكأن الدور التشريعي القادم لا يعني سوى أعضاء مجلس الشعب، فيمحي الناخب الدوائر التي رسمها في عقله وعلى مساحة حركته ويحاول من جديد طرح الأسئلة حول ما يريد وما يراه في كل الصور والأسماء التي يشاهدها...

الحلم الذي يداعب مساحة العقل يحاول التحرر من المواقف المسبقة، السياسية أو الثقافية، فلا يرى أن الاحتمالات يمكن أن تضيق لأنه اعتاد تقليص مساحتها، وفي هذه اللحظة بالذات تنفتح الاحتمالات وربما تكتمل التجربة.