تتميّز السياسة الخارجية لإدارة بوش بتناقض في المفاهيم وازدواجية بالمعايير في أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد.

أبرز هذه التناقضات نراها بين شعاريْ الحرّية للأوطان والحريّة للمواطنين.. فالرّئيس الأميركي بوش يركّز على شعار الحريّة مبرّراً فيه كل حروب إدارته تحت ادّعاء بأنّها من أجل الحريّة في الشّرق الأوسط والعالم، ثمّ هو يكرّر في أكثر من مناسبة، الإشارة إلى ما حدث في العراق ولبنان وفلسطين من انتخابات وممارسة ديمقراطيّة.

لكن الغريب في الأمر، أنَّ الرّئيس الأميركي وأركان إدارته ينظرون إلى مسألة الحريّة وكأنّها قضيّة داخليّة فقط بين الحكومات والشعوب، ويتعمّدون تجاهل المنطلق الأساسي للحريّة ألا وهو حريّة الأوطان الّتي وحدها تمكّن المواطنين من الممارسة الفعلية لحرّياتهم العامّة.

فالمعيار الأميركي للحريّة في فلسطين والعراق كان العمليّة الانتخابيّة التي جرت أكثر من مرة هناك. أمّا في لبنان، فكانت ترجمة هذا المعيار الأميركي للحريّة هي في حركة الشارع اللّبناني السياسية ضدّ الوجود العسكري السّوري في لبنان، حيث اعتبرت واشنطن في العام 2005 أنَّه لا يمكن أن تقوم ديمقراطيّة سليمة في لبنان في ظلّ الوجود العسكري السّوري والنفوذ الأمني السّوري على أراضيه. تُرى، ألا تصحّ هذه المقولة نفسها على العراق المحتل أميركياً أيضاً، وعلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة إسرائيلياً؟!

لقد مارست هذه الإدارة الأميركية شعار الحريّة للأفغان من خلال احتلال أفغانستان! وشعار الحريّة للعراقيين من خلال احتلال العراق! وشعار الحريّة للفلسطينيين من خلال تكريس الاحتلال الإسرائيلي وتضييق الخناق والحصار على الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة لأنه اقترع في الانتخابات الأخيرة لصالح حركة "حماس"!. أما في لبنان، فإن واشنطن ترفض دعوة المعارضة اللبنانية للاحتكام إلى رأي الناخب اللبناني وإجراء انتخابات نيابية مبكرة تحلّ الأزمة السياسية والدستورية الراهنة، كما ترفض واشنطن دعوة بعض الأطراف اللبنانية الفاعلة لانتخاب رئيس لبناني جديد من خلال الاقتراع الشعبي المباشر!.

إنَّ الإدارة الأميركية معنيّة دون شك في إدارة أبرز الأزمات القائمة الآن في المنطقة العربيّة، وقد خوّلت نفسها، دون تفويض دولي، أو قرار محلّي أحياناً، برعاية هذه الأزمات وتوجيه مساراتها. ولذلك تتفاقم أزمات العراق وفلسطين ولبنان على المستوى الداخلي، فهي أزمات تتجمع فيها محصلة التناقض الحاصل في السياسة الأميركية تجاه مسألتي الحريّة والديمقراطية، فضلاً عن فشل السياسة الأميركية في المنطقة عموماً.

أيضاً، تظهر الازدواجية والتناقضات في السياسة الأميركية من خلال تداعيات المواقف تجاه كلٍّ من سوريا وإيران. فأولوية إدارة بوش – حسب زعم الإدارة- عقب العمليات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في العام 2001، كانت هي الحرب على جماعات "القاعدة" ومن يدعمها أو يأويها. وكان مفهوماً آنذاك أن تتحرك القوات الأميركية باتجاه أفغانستان وحكومة "طالبان"، وقد حصل ذلك دون اعتراض فعلي من أي طرف رسمي عربي أو إقليمي أو دولي، بما في ذلك إيران وسوريا. بل إن هذين البلدين ساعدا واشنطن في أكثر من مجال بالحرب على جماعات "القاعدة" وباعترافٍ من وكالة المخابرات الأميركية نفسها. لكن إدارة بوش تعاملت مع أحداث سبتمر 2001 كمبرّر لتنفيذ إستراتيجية باطنية تستهدف العراق أولاً ثم عموم منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من عدم وجود أيّة علاقة بين ما حدث في أميركا من إرهاب وبين النظام العراقي السابق، أو حتى بين هذا النظام وبين جماعات "القاعدة".

ثم تحوّلت بوصلة واشنطن بعد احتلال العراق إلى طهران ودمشق رغم عدم وجود علاقة جيدة أيضاً بين قيادة هاتين العاصمتين وبين نظام صدام حسين. فلو كان المعيار الأميركي هو الحرب على "القاعدة" لما كان هناك أي مبرر لغزو العراق أو للصراع مع طهران ودمشق. ثمّ لو كان المعيار أيضاً هو الموقف من النظام العراقي السابق، لتوجّب تعزيز العلاقات مع دمشق وطهران اللتين كانتا معاً في حال صراع مع هذا النظام لعقود من الزمن.

ربما يكون أولى بالشعب الأميركي الآن أن يحاسب إدارته الراهنة والإدارات السابقة على مسؤولية نشأة جماعات "القاعدة" خلال فترة الحرب الأفغانية ضد النظام الشيوعي في كابول، ثم في ظهور حركة "طالبان" لاحقاً إبان الصراع على السلطة بين الجماعات الأفغانية الإسلامية. فقد كان الدعم الأميركي واضحاً وراء "طالبان" كما كان خلف تأسيس ظاهرة "المجاهدين الأفغان" التي كانت الرحم للوليد "القاعدة" فيما بعد.

وكم كان داعياً للتعجّب والمرارة عدم توجّه عناصر "الجهاد والتطوّع للموت" إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وما فيها من مقدّسات دينيّة محتلّة، بينما فضّلت هذه العناصر أن تطلب "الشهادة" في أفغانستان! وهاهي تكرّر ذلك الآن في بغداد كما في مدنٍ عربيّة وعالمية مختلفة!!

الرئيس بوش وعدد من المسؤولين الأميركيين يؤكِّدون على أنَّ "الحرب ضدَّ الإرهاب" مفتوحة ومستمرَّة وغير محدَّدة زمنياً أو مكانياً. فهناك مصلحة كبيرة للإدارة والحزب الجمهوري في التركيز على المسألة الأمنية وخطر الإرهاب، خاصة في هذه الفترة الانتخابية الممتدة حتى شهر نوفمبر من العام القادم.

لكن الإدارة الأميركية ترفض تحديداً دولياً لمعنى الإرهاب وأسبابه، فكلَّما كان موضوع الإرهاب مطَّاطاً، كلَّما استطاعت واشنطن أن تختار الزمان والمكان والعدو ووسائل المواجهة. فعدم موافقة واشنطن على تحديد دولي لمفهوم الإرهاب، هو المدخل لضمان حقّ أميركا وحدها بتحديد من هو الإرهابي، وكيف ومتى يجب مواجهة هذا الإرهابي. وقد كانت هذه المقولة هي الوسيلة التي برّرت غاية الحرب على العراق كما كانت المبرّر للتصعيد الأميركي ضدَّ إيران وغيرها من أطراف عربية معنية بالصراع مع إسرائيل.

ويترافق مع هذه الحالة الأميركية الغامضة عن مفهوم الإرهاب، وضوح في الموقف الأميركي حول كافَّة أنواع المقاومة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي. فقد وضعت واشنطن في سلَّة الإرهاب الواحدة كلَّ جماعات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، في داخل فلسطين وفي لبنان، ولم تميّز بين حقّ أيّ شعبٍ محتل بمقاومة الاحتلال، وبين إدانتها لكيفية تطبيق هذا الحق؛ الذي قد يكون بحجارة كما كانت بداية الانتفاضة، أو بعملياتٍ عسكرية ضدَّ جيش الاحتلال في الضفة وغزة وجنوب لبنان، أو ربّما يكون بعملياتٍ ضدَّ مواقع مدنية في إسرائيل.

فمن حقِّ أميركا أو غيرها الاعتراض على العمليات العسكرية الفلسطينية داخل إسرائيل، لكن كيف تريد واشنطن نزع هذا الحق من الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة في حين أنَّ العالم كلّه قد اعتبر أنَّ الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عام 1967 هي أراضٍ محتلة!

فالمستهدَف أميركياً هو كل الجماعات العربية التي تستخدم المقاومة المسلحة (دون تمييزٍ طبعاً بين فئةٍ وأخرى)، ولقد ضغطت واشنطن – وستضغط أكثر- على أطراف عربية من أجل وقف دعم جماعات المقاومة كلّها، مع التركيز الآن على الساحة الفلسطينية وإعادة إحياء دور التيّار الفلسطيني المفاوض على حساب التيّار المقاوم.

فحينما تعتدي إسرائيل على الفلسطينيين واللبنانيين، تجد واشنطن الأعذار المناسبة لهذا السلوك الإرهابي الإسرائيلي، لكن حينما يقاتل اللبنانيون والفلسطينيون جيش الاحتلال الإسرائيلي فإنَّ أميركا تتبنَّى فوراً مقولة إسرائيل بأنَّ مقاومة الاحتلال هي من الأعمال الإرهابية!

وما زالت واشنطن تكرّّر مطالبة السلطة الفلسطينية باتخاذ "كافَّة الإجراءات" لوقف العنف من جانب من يقاومون الاحتلال، بينما ترفض واشنطن اعتبار ما تقوم به إسرائيل إرهاباً أو مسؤولاً في الحدِّ الأدنى عن استمرار أعمال العنف في المناطق الفلسطينية المحتلة. فواشنطن لم تعتبر حتى الآن بأنَّ أراضي الضفة وغزة خاضعة للاحتلال، وهي تدعم التسميات الإسرائيلية التي جاءت في اتفاقيات أوسلو وما بعدها، بأنَّ الجيش الإسرائيلي يقوم بإعادة انتشار داخل الضفة وغزة، ممَّا يعطي لإسرائيل "أحقيَّة" العودة إلى المدن التي انسحبت منها كلّما ارتأت ذلك.

إن الولايات المتحدة الأميركية نشأت أصلاً بأولوية حرية الأرض على البناء الديمقراطي، فهي تحرّرت أولاً من الهيمنة البريطانية، ثمّ شرعت هذه الولايات في بناء وضع دستوري سليم تناسبَ مع ظروفها وجغرافيتها والأصول الثقافية لشعوبها.

إنَّ المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره.

فقد أعطى هذا المفهوم الأميركي للإرهاب شرعية أميركية للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى دول عربية أخرى. وقد ظهرت، حصيلة هذا المفهوم الأميركي، ونتيجةً للاحتلال في فلسطين والعراق،، ردود فعلٍ سلبية من المظلومين في ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذا الاحتلال.

واشنطن اليوم هي أسيرة مفاهيمها هذه التي جعلتها أيضاً أسيرة المواقف الإسرائيلية. وسيبقى الموقف الأميركي ضعيفاً تجاه العرب والعالم كلّه طالما أنَّ واشنطن تمارس الاحتلال في العراق ولا تتعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وبأنَّ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلة على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمان لحلٍّ عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.

وتقع على العالم كله، والقوى الكبرى تحديداً، مسؤولية الضغط على الإدارة الأميركية لإجبارها على العودة إلى مرجعية مجلس الأمن والأمم المتحدة في تقرير أوضاع العراق ومصيره، وكذلك في الأوضاع الفلسطينية ومصير الصراع العربي الإسرائيلي. تماماً كما فعلت واشنطن وباريس بشأن الأوضاع اللبنانية. فلِمَ لا تخرج مبادرات عربية فاعلة تطالب مجلس الأمن بقرار حول العراق شبيه بالقرار 1959 بشأن لبنان، والذي رعته واشنطن وباريس عام 2004 للمطالبة بسحب القوات الأجنبية وحلّ الميليشيات العسكرية. أليس العراق الآن أولى بقرارٍ من هذا النوع؟